الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 78/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 78/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 78
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 12 - 1934

3 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

للأستاذ خليل هنداوي

نقد الحكم

ترى كانت - في فصله هذا - يعزو كل تأثير إلى أحاسيس باطنية، فهو لا يتحرى إذ يتحرى عن أسباب الجمال الخارجية، لأن الحس لا يكمن في الأشياء ولكنه يكمن في الإنسان

وقد شطر نقد الحكم شطرين: الأول ويحتوي على الألفة بين الجميل والسامي لما بين الجمال والسمو من تقارب، والآخر وهو يعنى بمظاهر الأشياء المؤتلفة المتطابقة في الوجود

إن (كانت) بحث في موضوع الجميل كما بحث فيه الأولون، ولكنه وسع دائرة البحث وتعمق في تحليله؛ فاعتبر اللذيذ كل ما فيه لذة للحواس مصحوباً بالرغبة، واعتبر اللذة التي يولدها مشهد الحسن والجمال لذة خالية من الأهواء والأغراض، وإن حكماً ما يمازجه قليل من الهوى لهو حكم فاسد غير مبني على الذوق، ولكن لما كان حكم الذوق مبنياً على العاطفة فهو بحكم الضرورة قابل للتغيير، وفي الإمكان أن نرى في كل بيوت الفن - وفي الطبيعة تماثيل ودمى تحظى برضا الناس؛ ولكننا لن نرى مقياساً واحداً صحيحاً للجمال، لأن الذوق نفسه هو كالبراعة شيء مبتكر

فإذا كان الجمال يؤثر في شعورنا تأثيراً خفياً ويرسل فينا الراحة واللذة من حيث لا نشعر، فإن السمو ليبلونا باهتزاز عنيف قد يكون مضنياً ومرهقاً للنفس ولأن يكون ما يبعثه السمو في أنفسنا أدنى إلى عاطفة الإعجاب والاجلال منه إلى الراحة واللذة أحرى وأجدر، واسمه الحقيقي هو (اللذة السلبية)

ويفرق كانت بين السمو الرياضي والسمو الآلي (أو ذو الحركة) هذا مؤسس على فكرة القوة وذلك على فكرة العظمة والروعة، فالطبيعة هي سامية عالية - رياضياً - في حوادثها التي يصعب على مخيلاتنا إدراكها، وهي سامية أيضاً بحركات أجرامها الهائ الفضاء، حتى كأنها تريد أن تسحق وجودنا المادي. وفي كلا الحالين تهيب مخيلتنا بعقلنا، فيتركنا العقل ذاهلين أمام السماء ذات الكواكب واللانهاية التي لا تحد ولا تبلغ إلى عظمتها المخيلة مهما سمت، وهو العقل الذي يثير فينا عاطفة السمو، ويجعلنا نردد معه (ما أنا إلا قصبة، لكنها قصبة مفكرة)

فالسمو إذن لا يكمن في الأشياء، لكن في أنفسنا، فلا يجب علينا أن نقول (إن هذا الشيء هو سام) ولكنه شيء يبعث فينا فكرة السمو، فلا شيء في الطبيعة مهما جل - إذا نظرنا إليه نظرة قياسية - إلا وهو يهوى إلى أحقر الأشياء، ولا شيء حقير - إذا قسناه بمقياس آخر - إلا وهو يرقى إلى أعلى الأشياء، وهناك المراصد والمجاهر تثبت صحة دعوانا

يعرض أمامنا شيء رائع، يعجزنا التعبير عنه فنقول: إنه لسام رائع: ويخلق معركة حامية بين العقل والمخيلة، فلا تستطيع المخيلة إدراك كنهه، والعقل لا يفتأ يتحرى عن وسيلة يفهمه بها، فينشأ من ذلك تلك الروعة التي نحسها أمام الأشياء العظيمة السامية، ولكنها روعة ترفع أنفسنا إلى المثل العليا، لأنها تنبه فينا ناحية العظمة الصادقة التي تنجلي بها طبيعتنا الإنسانية وحريتنا الأخلاقية.

أسلوب كانت

يعد كانت أصدق الفلاسفة اعتقاداً وأصفاهم أسلوباً، يقول ما يعتقد به حقاً، ويكتب لقرائه كما يكتب لنفسه، تكاد تنطق جملته بفكرته، ويعتقد أن الحقيقة غنية بنفسها، وأن الزخرفة في التعبير عنها مما يرخص من قيمتها، وبرغم هذا الأسلوب الواضح رماه بظلمة التعبير، وقد أراد هؤلاء أن يظهروا أن كانت ليس ممن تنبسط آراؤهم للقارئ بسهولة. على أن أفكار كانت لا تمشي إلى قارئها، وإنما على القارئ أن يسعى إليها ليدركها، ولكنه لا بد مدركها كلها، ولكن إدراكها لا يخلو من الجهود التي لا يستغني عنها رجل يسعى

إن أسلوب كانت واضح جد الوضوح، ولكن عيبه الواحد الذي أخذه عليه النقاد أنه يخلق في الموضوع شعباً كثيراً لا يترك منها مسرباً إلا نفذ فيه، وهذا قد يدل على سعة اطلاع ونظر بعيد وإن كان لا يخلو من السأم، ولكن كانت لم يكتب إلا لذوي الإلمام بهذا الموضوع فقد يأخذ الموضوع الحقير الذي لا يكاد يخوض فيه عقل فيخلق منه موضوعاً كبيراً، وقد ذكر أحدهم نكتة جرت على لسان صديقه (فيمار) أن هذا أعلن للفيلسوف أنه لا يستطيع أن يقرأ تصانيفه، لأن الله لم يخلق له أكثر من هذه الأنامل، يريد أن يضع أنملة على هذه الكلمة وأخرى على الثانية وهكذا حتى تنتهي أنامله ولما يكمل العبارة ويقف على دقائقها، لأن كانت يستعمل كثيراً الأقواس والأهلة في عباراته المتصل بعضها ببعض. وقد كان لكانت فضل كبير في خلق كلمات وتعابير جديدة فلسفية خلقها بنفسه، وفرضها على اللغة الفلسفية بنفسه

وأخيراً نستطيع أن نقول إن كانت كان مطلع الثورة الفلسفية في ألمانيا التي خلقت (فيخت وشيلنغ وهيجل) وقد تناول تأثيره جميع المدارس العلمية والأدبية، وما ثمة فيلسوف ولا أديب ولا شاعر نشأ بعد كانت إلا وكان مديناً له ولمذهبه بكثير من آرائه، وشيلر نفسه قد استمد من كانت آراءه في الجمال والسمو، وما أصدق كلمة (غليوم همبولد) حين قال (إن قسماً من الذي هدمه كانت لن يقوم أبداً، وإن قسماً من الذي شاده لن يخسف أبداً)