الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 779/رسَالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 779/رسَالة النقد

بتاريخ: 07 - 06 - 1948


على هامش كتاب:

سعد زغلول من أقضيته

(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكري

وإعجابي)

للأستاذ عدنان الخطيب

خسارة:

عرف الشاب (العمل الحكومي) صغيراً، عرفه في أبشع صورة وفي أجملها، عرفه يوم كان (راتبه) يملأ جيبه وكلتا يديه، عرفه جميلا في مظهره ومكانته عند الناس، ولكنه عرفه قبل كل شيء سماً قاتلا يميت المواهب، ويقضي على ما في النفس الأبية من عزة وكرامة، عرفه قيداً في عنق صاحبه، يحد من نشاطه ويقيد من حركاته، ومايزال يضيق حوله حتى تنفلج أعصابه وتنشل حركته، ثم لا يكون إلا كالقبر لا هواء فيه ولا نور، ولا حيلة لمن فيه إلا انتظار يوم البعث والنشور، يوم الإحالة على (المعاش) والاعتكاف في البيت شيخاً أحنت الأيامه عظامه، وتصلبت منها شرايينه، ينتظر يومه الأخير، كما كان ينتظر آخر الشهر يوم القبض ووفاء الديون.

نعم عرف الشابق (الوظيفة) وخير حقيقتها فجزع من مصير كمصير أربابها، وهو الذي شرب لنا الكرامة والأنفة رضيعاً، وعشق الحرية وجوّها يافعاً، ثم كان جريئاً بفطرته وولائته، لا يعرف كبيراً لا يقال الحق في وجهه، ولا يعترف بفضل لمن لم يكن من أهل الفضل ولا الفضيلة من صفاته، جزع من أن تطول أيامه فيها فتخف قدرته على الانفلات من أسارها، فتركها غير آسف عليها، ثم ساح في الأرض ليزيد في علومه وتجاربه، ويرضى ضميره وطموحه، وعاد يعمل حراً طليقاً في المهنة التي ارتضاها لنفسه وأحب العمل فيها على منهج رسمه بنفسه، وأسلوب يتفق وآماله ومبادئه.

بدأ الشاب يعيش العيشة التي كان يهواها ويصبو إليها، وأخذ يملأ أوقات فراغه بتدوي ذكرياته ورحلاته، وكان (للوظيفة) وقصص (الموظفين) حظ منها عظيم. لقد فضح شيئاً من حياتهم والجو الذي يعيشون فيه، وحلل نفسية (الموظف) تحليلا ليس فيه رفق ولا محاباة، وإن كان فيه بعض العطف وكثير من الشفقة. قرأ الناس بعض ما نشر من هذه المذكرات فعجبوا منها واستغربوا ما فيها. أضحك بها بعض زملائه القدماء، وأبكى الكثير منهم على نفوس أفسدها جو (الوظيفة) وحياة خسروا فيها أثمن ما في الحياة، خسروا فيها حرية التفكير، ولذة الانطلاق من القيود.

هذه هي قصة الشاب الذي خسر اليوم حرية (المحامي) التي أحبها، وجو (المحامات) الذي عاش فيه طلقاً عاملا على تحقيق رغباته العلمية، وبلوغ أهدافه الثقافية.

أليس من الغريب أن يخبرك هذا الشاب بنفسه أنه ترك اليوم مهنته ليقوم (بعمل حكومي) كلف به، وهو الذي رفض قبله عدة مرات تكليفاً له في (الوظائف) الهامة قيمته، وفيه تقدير لدراسة عالية أضافها إلى دراسته القانونية. إن قائداً من قواد الجبهة الوطنية ومعلماً من معلمي الإخلاص والنزاهة يدير اليوم وزارة العدل في سورية، يطلب من الشاب أن يؤدي (خدمة مدنية) في جبهة (القضاء) الوطنية فيحار الفتى ويكاد يرفض لولا أن ثقة الطالب ثقة غالية نادرة لا تباع ولا تشترى بمال، ولولا أن مقر (الخدمة) في (جبهة) لا ذل فيها ولا صغار، ولا يخرج من فيها إلا ظافراً منتصراً مادام ناصع الجبين و (سلاحه أبيض) لا يعرف صدأ الأيام، ولم تلوثه (رغبة أو رهبة)؛ نعم كاد يرفض لولا أنه ما يزال يشعر بقوة ومناعة يستطيع معها دفع ما وضع على عاتقه يوم يجد فيه أعراض (الوظيفة) أو شيئاً من سمومها الفتاكة.

من غرائب المصادفات:

للمصادفات في هذه الحياة أثر عظيم، ولغريبها تاريخ يدون ويقرأ، وجميلها من النوادر التي تذكر وتنشر، فإن في ذكرها متعة ولذة، وإن في نشرها اعترافاً بجمالها وتقديراً لموقعه من النفس الشاعرة المقدرة.

لقد أخرج القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات كتابه القيمة عن القاضي العظيم سعد زغلول سنة 1942، وقد أحب يوم عقد مؤتمر المحامين العرب في دمشق التلطف بإهدائي نسخة منه لو وجد معه من الكتاب نسخة، ثم عاد الأستاذ الصديق إلى مصر وانقضت على عودته بضعة أشهر عمل فيها على ما يظهر، على إخراج كتابه الظريف (من يوميات محام) وما كادت الصحف تعلن خروج الكتاب إلى الأسواق، حتى سارعت إلى إرسال من يقتني لي نسخة منه، ويعود الرسول يخبرني على لسان بائع الكتب، أن الكتاب لم يصل بعد إلى دمشق. وتشاء الصدف أن يدخل إلى مكتبي ساعتئذ ساعي البريد يحمل إليَّ رزمة مصدرها مصر، ففضضت غلافها، فإذا هي كتاب (سعد زغلول من أقضيته) موشحاً بإهداء يدل على رقة في الشمائل، وكرم في الأخلاق. . .

وضعت الكتاب أمامي وأخذت أفكر في تلك المصادفة الغريبة، وأبت الصدف إلا أن تأتي بالعجائب، فأتلقى في تلك الجلسة مرسوماً جمهورياً يدخلني في عداد (القضاة) وينيط بي عضوية دائرة الجنح والجنايات في مدينة حمص!!. . . ولئن كانت هذه المصادفة من الغرائب فهي بلا شك أجمل ما لاقيته في حياتي منها، لمكانة سعد في نفس، وهو القائد العظيم والزعيم المرشد المحبوب، ولما أكنه للأستاذ الصديق عبده حسن الزيات من آيات التقدير والإعجاب بأدبه الرفيع وأخلاقه السامية.

صلة القانون بالأدب:

سئلت مرة عن رأيي في صلة القانون بالأدب، فأجبت السائل وكان جوابي مقالاً نشرته مجلة (الصباح) السورية، بدأت فيه بتعريف الأدب والقانون، ثم ألمعت إلى تاريخيهما اللذين يتصلان بالإنسانية في مهدها، وبعد أن تكلمت عن صلاتهما في الماضي قلت (ولا شك أن صلة القانون بالأدب أصبحت بحكم المستوى الثقافي العام، أحكم ارتباطا، وأكثر تداخلا، كما أصبح رجل كل منهما يشعر بأنه لا يستطيع الانفراد بأحدهما دون أن يتمه الآخر؛ فرجل الأدب وهو اليوم صاحب رسالة اجتماعية هامة، لم يعد في إمكانه الاستغناء عن الثقافة القانونية ليؤدي رسالته على وجهها الأكمل، وليتبوأ المركز اللائق بمن يحمل مثل رسالته، رسالة الحياة الخالدة. إن الأديب في العصر الحديث أصبح محتاجاً إلى الإلمام بكثير من الثقافات على اختلاف أنواعها، والثقافة القانونية في مقدمة هذه الثقافات، وبقدر سعة هذا الإلمام وعمقه يبرهن الأديب للناس أنه في صميم الحياة التي يحمل رسالتها).

ثم تكلمت عن رجل القانون فقلت إن حاجته (إلى الأديب كحاجة المادة إلى الروح لتصبح جسما حياً، ومكانه القانوني في المجتمع إنما تتناسب في قيمتها مع حظه عن الأدب ومميزاته الأدبية سواء كان مشروعاً أو قاضياً أو محاميا. . .)

ولقد فصلت هذا القول بالكلام عن حاجة رجال التشريع والقضاء والمحاماة إلى الأدب ومنه قولي: (والقاضي يجب أن يكون أديباً يحسن الأنابة عن وجوه الحق، قادراً على مناقشة دفوع. المحامين اللحانين بلغة صحيحة لا تترك لهم مجالا للبحث أو التذمر. تقرأ قراراته فتقرأ علماً وأدبا يستهويانك وإن لم تكن ذا صلة بها، وكثير من المثقفين يقرأون أحكام بعض القضاة فيعجبون بالتفكير السليم والفقه القانوني يعرض بأسلوب متين ولغة راقية، بينما يعرض المشتغلون بالقانون عن تتبع أحكام أكثر المحاكم لضعف لغتها وتفكك أسلوبها مما يشوه المادة القانونية إن وجدت فيها) ثم ضربت مثلا فقلت: (فالميزات الأدبية، مثلا، هي التي جعلت نجم القاضي سعد زغلول يتألق في سماء القضاء كما تألق في سماء السياسة والوطنية. وشخصية سعد القاضي كانت موضوعاً طريفاً طرقه أحد رجال القانون الأدباء، عزز به مكانة سعد في النفوس وأضاف إلى شخصيته لوناً جديداً من ألوان الخلود).

وكان كلامي هذا صورة حاطفة وأثراً من آثار قراءتي لكتاب (سعد زغلول من أقضيته) يوم صدوره. أما اليوم فلابد من عودة إلى (سعد) عودة فيها تؤدة (القاضي) وتدقيقه واستيعابه، وفيها دراسة التلميذ الطموح لشخصية يعتقد أن صاحبها مثال يحتذي ومرشد تقتفي آثاره، وقائع تستلهم من روحه الشجاعة بعد أن قرر لهذا التلميذ النزول إلى ساحة الجهاد التي خلف الزعيم فيها آيات من الجهد والبطولة.

كتاب الزيات:

لاشك في أن كتاب الأستاذ الزيات يعتبر أول كتاب من نوعه في العربية، فموضوعه شخصية سعد زغلول من خلال أحكامه في القضاء، وبالرغم من صعوبة العمل الذي أخذه المؤلف على عاتقه، ووعورة الطرق التي سلكها توصلا إلى غايته، فقد انتهى إليها بعد أن ملأنا إعجابا بأدبه وطول أناته ودقة تمحيصه وعمق تبعاته، وتقديراً لما بذله من جهود جبارة وأوقات ثمينة قضاها في تتبع آثار سعد القضائية، ونسخ ما عثر عليه من أحكامه بعد قراءة ملفاتها المطروحة في مستودعاتها ما يقرب من نصف قرن.

وأنا أرى أن أفضل تقريظ لهذا الكتاب أقوم اليوم به، بعد مرور سنتين على صدوره، إهداء هذه الباقة التي اقتطفتها من حديقة الأستاذ الزيات إلى الألوف من قراء (الرسالة) الذين لم تتح لهم فرصة قراءة هذا الكتاب الفريد الذي يقع في أربعمائة صفحة قسمت إلى تسعة فصول، هذه زبدتها بعناوينها مرتبة بترتيبها في الكتاب.

1 - ثورة المصلح وغيرة العادل:

أصدر سعد أحكاماً كثيرة في دعاوي رفعت إليه، وإنها لأحكام خالدة تجلت فيها روح الثائر المصلح والحاكم العادل، أحكام تملأك إعجابا وتقديراً، أحكام كل ما فيها ينبئ (عن قريحة قانونية ذات مرونة ولباقة، ونفس شديدة الاستجابة لأوامر العدل المطلق ونواهيه)، وأن الحكم الواحد منها ليخدم (أغراضا اجتماعية ووطنية كبيرة قبل أن يخدم صاحب حق بإيتائه حقه: يخدم القضاء بما يؤكد ويعلن استقلاله، ويخدم العدالة بما يمهد أمامها من طريق أفسده الشوك، ويخدم التشريع بما يوضح له من نقصه وسخفه، ويخدم الفقه بترحيب آفاقه وتسديد خطاه في سبيل العدل والمعقول)؛ فإن أردت الدليل على هذا الكلام فاسمع ما يقوله سعد في أحد أحكامه (. . . لا يمكن أن يكون المراد بهذه الأعمال الإجراءات الاستبدادية المخالفة للعدل والقانون والمضرة بحقوق الأفراد وليست فيها مصلحة عامة للناس، لأن ذلك لا ينطبق بوجه من الوجوه على مبدأ الحكومات العادلة، ولا يصح أن تتضمنه شرائعها)!

وسعد الذي كان يطبق القانون على الناس لم يكن ينظر إلى القانون كنصوص مجردة واجبة التطبيق، بل كان ينظر إلى القانون كوسيلة غايتها (إثبات جوهر الحق والعدل، ونفي الغش والحيلة والغضب، وأن مساره هذا لينتظم أحكامه) جميعاً؛ وهو إذا حاول مرة أن يقضي على حيلة تسلب شخصاً حقا له، رغب إلى القانون ألا يحاول حماية المحتال لأنه من العار (أن يمنح القانون حقاً ثم يجيز الحيلة لإسقاطه).

قد كان سعد يصدر من وراء قوس القضاء أحكاما جديرة بالخلود لأنها كانت (تستخلص الحق من ركام الإنكار واللجج) وإن هي اصطدمت يوماً بصلابة القانون وجدتها (قد لانت شيئاً تحت معول بناء حازم، في حزمه رفق، وفي رفقه عدل، وفي هدمه خلق وإيحاء وتجديد وتشييد). .

إن حكماً يحوي هذه الفقرات (. . . أن وقوع مثل هذه التصرفات بحجة إظهار الفاعل أو كشف الحقيقة، أشد خطراً على النظام العام من خفاء الجاني أو تخليصه من العقاب، لأنه لا شيء أسلب للأمن، وأقلق للراحة، وأزعج للنفوس، من أن يعبث بالنظام من عهد إليه حفظ النظام!) ليس بحكم (قاض يفصل في تهمة أفراد، إن هو إلا - حكم - مصلح ثائر يعرف للثورة قواعدها، وللتمرد أبانه، واجتماعي مرشد يثبت للمجتمع بالعدل أركانه، ورجل دولة حريص على (تحديد المسؤوليات وتعيين المسؤولين).

(يتبع)

عدنان الخطيب