مجلة الرسالة/العدد 777/الفعل الارادي
→ تربية سلامه موسى | مجلة الرسالة - العدد 777 الفعل الارادي [[مؤلف:|]] |
القَصصٌ ← |
بتاريخ: 24 - 05 - 1948 |
تأليف الدكتور أبو مدين الشافعي
في مصر اليوم حركة ظاهرة ونشاط ملموس من جانب المهتمين بالدراسات النفسية.
ولدراسة علم النفس مكانتها في العصر الحديث ولقد فطنا في مصر أخيراً إلى هذا، فصار عندنا علماء أفاضل يعملون على نشر علم النفس ودراسته بالأساليب الحديثة والوسائل العلمية.
والكتاب الذي أعرض له الآن، هو للدكتور أبو مدين الشافعي مدرس علم النفس بكلية الآداب، وهو نتيجة دراسات طويلة وتجارب كثيرة وعمل متصل في هذا الباب. ولذا استوفى الكتاب جانب العرض النظري للافكار المتعلقة بالإرادة والأفعال الإنسانية وفكرة الجبر والاختيار، كما أنه شمل كثيراً من التجارب الدقيقة التي استفاد الدكتور من إجرائها إيماه الشخصي بالعمل الذي يؤديه والنتائج التي قول بها غير معتمد في هذا على الأعمال التي انتهى بها مؤلفوا الغرب وعلماؤه إلا من ناحية التوجيه والأسلوب فحسب. ولذلك كثيراً ما تراه يخالف الرأي الذي يذهبون إليه ويجمعون عليه خصوصاً وأنه في دراسته إنما يهتم بالشخصية المصرية التي لها من الظروف والأحوال ما يختلف اختلافاً كبيراً عن سواها.
والذي يدلك على أن الدكتور يقدم إليك مادة استوفى بحثها واستكمل أداتها هو أنه قد تخصص في هذا الموضوع بالذات. فله كتاب سابق هو كتاب الانتباه الإرادي وكتاب آخر باسم التعب. فدراسته ليست مرتجلة، بل هي نتيجة تخصص وعناية طويلة بالموضوع. وهذا يظهر لك من قوله: (يمكن عد الانتباه الإرادي أهم ركن للفعل الإداري، إذاً فدراسة الانتباه هي المقدمة الضرورية لدراسة هذا الفعل.
فهو إذاً قد نظم عمله بحيث بدأ بدراسة الانتباه ليخصل في النهاية إلى دراسة الفعل الإرادي نفسه. وهو لا يدرسه نظريا على الطريقة القديمة، وإنما يعمد إلى التجارب فيستمد منها الدليل على الخطوات التي يخطوها في هذا السبيل. ولذلك كان عمله متصلاً بجسم الإنسان ونفسه معا بحسبانهما وحدة لا يمكن أن يدرس منها جانب على انفراد. (وليمكن الوقوف على هذه المرحلة من الفعل الإرادي لابد من إلقاء نظرة على أسسه البيولوجية لنوضح الفروق بين أنواع الفعل بوجه عام، ولنصل إلى مميزات الفعل الإرادي، وما هو دور الكف والتركيز في عملية التنفيذ) وهو لا يعني بالجسم وأوضاعه على هذا الوجه فحسب، بل يؤمن أيضاً من ناحية أخرى بأنه لابد من بحث صلة الفعل الإرادي بالعوامل النفسية البحتة قبل التطور الذهني والانفعال والضبط، على أن يكون هذا البحث على نمط علمي بعد أن طال النقاش حوله في الميدان الفلسفي).
فأساس نظريته إذاً هو التكامل. وهذا يتجلى بوضوح في محاولة الربط بين العوامل النفسية في الفعل الإرادي وبين الحديث عن الوسائل التي تحدد لنا حالات الجسم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقول بوجود صلة بين النشاط الإرادي وما يسميه بالمجال الحيوي وهو المجال الذي يضمن للشخص توازناً عاماً يحقق به أغراضه الحيوية. وعنده أن المجال الحيوي يتوقف على مجالات أخرى مثل المجال الجسمي والمجال الاجتماعي والمجال الطبيعي والمجال الذهني، فالمجالات الثلاثة الأولى يشمل كل منها المجال الذي يسبقه، فالمجال الطبيعي يشمل المجال الاجتماعي، ويشمل هذا بدوره المجال الجسمي، وأما المجال الذهني فإنه يربط بين هذه المجالات كلها.
فهو إذن عالم يدرس مسائل الاجتماع ومظاهر الطبيعة، وحالة الإنسان، ينتهي منها جميعاً إلى الرأي الذي يعمل به في علاج الحالات المرضية المختلفة. وليس أدل على نزاهته العلمية من قوله: (ولم يكن بيير جانيه مخطئاً حين نسب إلى النشاط الحركي وإلى العمل العضلي قدراً من المجهود أكبر مما يبذله النشاط الذهني، وذلك لأن الأفعال الفكرية، أفسح حرية من الأفعال الحركية الخارجية). فهذا الرأي يخالف ما هو شائع بين عامة الأدباء الذين يريدون أن ينسبوا إلى أنفسهم امتيازاً على العامة في المجهود الذي يبذلونه، والمشاق التي يتكبدونها، والذين يقولون دائماً أن نشاط الذهن أثقل على النفس وأدعى للتعب من المجهود اليدوي.
والذي أعتقد أن الذي أفاد الدكتور كثيراً في دراسته هو عنايته بالدراسة العملية من جهة واشتغاله بمعالجة الحالات المرضية من جهة أخرى. ولذلك كثرت في كتابه الأمثلة التي يذكرها تأييداً لفكرته في أنه إذا شئنا معالجة المرض النفسي فعلينا أولا وقبل كل شيء أن نغير من المجال الذي يعمل فيه الشخص المريض، كما أنه من الواجب أن نوفر له الجو الذي يتلاءم مع طبيعة مرضه؛ فالحالات المرضية الداخلة في نطاق علم النفس تحتاج إلى معرفة طرق التغيير وا تكتفي بالوقوف على الحالة الراهنة وعلى نوع المرض. ففكرة المجالات الحيوية من شأنها أن توجد لنا حلولا كثيرة لأمراض بقيت ألغازا إلى يومنا هذا وعلى هذا الأساس قال بصراحة الطبيب والعالم معا؛ (فالعدد الكبير من المصابين بالامراض العقلية في العالم لا يمكنه أن يجد الشفاء بين جدران المستشفيات، ويتطلب أغلبهم مجالا خاصاً يساعدهم على استرجاع توازنهم العقلي وضبطهم الإرادي. فمن العبث إذاً محاولة علاج المصاب بالشعور بالنقص عن طريق الوعظ أو الحقن، فلابد من أن نضعه في المجال الذي يرجع له ثقته بنفسه ليقاوم حسب مقدرته الخاضة).
والذي آخذه على الدكتور هو أنه كان يذكر أحياناً كثيرة بعض أسماء العلماء باللغات الأجنبية دون محاولة ترجمتها صوتياً في ألفاظ عربية. وكذلك كان يفعل أحياناً عند ذكر الكتب وأسمائها. والأفضل أن يذكر الكتاب بلغته الأصلية وبالترحبة العربية لاسمه في الوقت نفسه. ومن حيث المراجع التي أشار إليها في أسفل الصفحات تعد دقيقة ومتقنة، بيد أنه ينقصها الترجمة بل إن الترجمة العربية لها وحدها تكفي طالب علم النفس والقارئ العادي. وآخذ عليه أيضاً أنه مقل في الكتب التي يظهرها مع حاجتنا الماسة إلى مجهود كبير في هذا الباب من الدراسات النفسية. ونحن في بدء نهضة عملية من هذا النوع يفيدها الاطلاع والقراءة أكثر مما يفيدها عمل الدكتور الخاص في معمله أو في عيادته. وحبذا لو قام مع بعض تلاميذه بترجمة بعض الكتب الهامة التي تعد من المراجع الأساسية في علم النفس. وأما من جهة اللغة التي كتب بها الكتاب فعلى الرغم من سلامتها ومن امتيازها على كتاباته السابقة فإنها ينقصها عنصر المرونة والتوضيح. فكثيراً ما كان الدكتور يكتفي بالفكرة يذكرها عارية في جملة أو جملتين دون أن يحاول تفنينها وربطها بما يليها ربطاً جيداً. ومن هنا بدا الكتاب جملة من اللمحات والضربات الخاطفة. . .
وهذا، على كل حال، لا ينقص من قدر الكتاب، بل على العكس يدل على أن الكمال الإنساني مستحيل. وللدكتور منا الإعجاب بعمله القيم النفيس.
عبد الفتاح الديدي