مجلة الرسالة/العدد 775/القَصصٌ
→ البَريدُ الأدَبي | مجلة الرسالة - العدد 775 القَصصٌ [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 10 - 05 - 1948 |
يا حياتي
صورة في أربعة مناظر
المنظر الأول:
جلس الضابط متكئاً على أريكة في منزله، وقد وضع رجلا على رجل متصنعاً هيئة الجد والوقار التي يظهر بها في نقطة البوليس التي يشرف عليها، وجلست زوجته بجانبه مطأطئة رأسها تدعو الله في سرها أن تكون العواقب سليمة. ووقف ابنه أمامه عاري الرأس واضعاً يديه خلف ظهره وقد التمعت عيناه وبدت على وجهه أمارات هي مزيج من الخوف والتحدي. وقال الوالد بعد فترة من الصمت الذي أراد به أن يلقي الرعب في قلب ابنه كما تعود أن يلقيه في قلوب المجرمين:
- لم عدت من القاهرة؟
- أظنك علمت أن المدرسة أضربت وأغلقت لمدة شهر.
- أظنك؟!
- ألم تعلم يا بابا؟
- أهكذا يخاطب الولد أباه؟
- ماذا أقول إذن؟
- أتجيبني على سؤال بسؤال! لقد ساءت أخلاقك كثيراً في القاهرة!
- يظهر أنك متعب اليوم!
- أتسخر مني يا كلب!
وانتفض الوالد وقد احتقن وجهه وبرزت عيناه ورفع يده ليهوي بها على وجه ابنه؛ غير أن الولد قال له: لا تضرب.
وأُخِذ الرجل وارتمى على مقعده قائلا في حشرجة تشبه حشرجة المحتضرين.
- ألست أباك يا علي؟
- وأنا ألست ابنك يا بابا؟ وكانت الزوجة قد أخذت بهذا التطور السريع في سير (المعركة) فلم تستطع أن تتكلم أو تتحرك أو حتى أن تفكر، ولكنها استردت بعض جأشها فقالت لابنها: اخرج يا علي. فخرج يمشي في خطوة عسكرية كأنه طالب في الكلية الحربية أو في كلية البوليس لا في كلية الزراعة ولكن لا غرو فالولد سر أبيه.
نظرت الزوجة خلسة إلى زوجها فوجدت الدموع تترقرق في عينيه فوضعت وجهها بين يديها وأجهشت بالبكاء، فتمالك الرجل نفسه بسرعة وقال لها: لا تبكي ولا تحزني فلابد من طرده من البيت. غير أن الزوجة رفعت رأسها بسرعة وقالت له:
- ماذا تقول؟
- أقول إن هذا الولد يحزننا ويتحدانا، وسيفسد أخلاق إخوته، وقد حصل عل التوجيهية وأصبح قادراً على الاستقلال بنفسه فليذهب إلى جهنم إذن.
- ألم يكمل لك أبوك دراستك؟
- كان أبير يضربني (بالمركوب) فلا أرفع عيني فيه.
- ذلك زمن وهذا زمن.
- فهمت الآن. أنت التي دللته وأفسدت أخلاقه. أخرجي معه إذن.
- أنا أخرج معه! أتطردني!
- يجب أن يكون بيتي مثال النظام والطاعة وحسن الأخلاق
- وماذا صنع ابنك حتى استحق منك كل هذا؟!
- ألا تعلمين أنه ينفق ثلث مرتبنا وحده في القاهرة على ملذاته، ولولا الفدانان لمتنا جوعا.
- أتستطيع أنت أن تعيش الآن في القاهرة بما يعيش به؟
- كنت أعيش بربع هذا المبلغ. إن ابنك يدخن ويحب أيضاً يا عزيزتي!
- يحب! يحب من؟
- يحب طالبة معه في الكلية.
- لا تصدق هذا الكلام. إنه لا يزال في الثامنة عشرة.
- ولكنها هي تزيد على العشرين واسمها سعدية عبد العظيم.
- أهذا صحيح؟ - نعم. أنا واثق. وهو يذهب إلى بيتها كل يوم بحجة المذاكرة.
- قد يكون هذا السبب صحيحا.
- أتصدقين هذا الكلام الفارغ!
- ألا يذهب إليها بعلم أهلها!
- لا أدري!
- أنك تسيء الظن دائماً.
- وفضلا عن ذلك فهو شيوعي!
- من قال لك هذا؟
- هو نفسه عندما قدم في أجازة نصف السنة، كان يلومني على أنني أؤجر الفدان بأربعين جنيها ويطلب مني أن أؤجره بثلاثين ليستطيع الذي يزرعه أن يأكل مثلنا.
- ليتنا نستطيع ذلك!
- ونموت جوعا!
- وهل هذا دليل على أنه شيوعي!
- كل آرائه وتصرفاته وإخلاقه تدل على أنه شيوعي. وأقسم بالله إن لم يرجع عن غيه لأكونن أول المبلغين عنه. . .
المنظر الثاني:
قال حسين بك فخري للحلاج عبد العظيم مبروك:
- لا أستطيع تخفيض الإيجار يا حاج عبد العظيم، إن نفقاتنا كثيرة وستزيد علينا الضرائب.
- كفى الله الشر.
- حضرات موظفي الحكومة لا يكتفون بمرتباتهم ولا يشبعون.
- قد يكونون معذورين يا سعادة البك.
- وماذا تصنع الحكومة؟ تأخذ من جيوب الناس وتعطيهم؟
- بل تعطيهم من المالية.
- والماليه يا حاج عبد العظيم من جيوبنا.
- الذي أفهمه أن المخدوم مكلف بالانفاق على الخادم.
- وهل يجب أن يأكل خادمك اللحم والفاكهة ويلبس الحرير.
- إن خادمنا تأكل مما نأكل وتلبس مما نلبس، ولذلك فهي أمينة جداً، تحافظ لنا على اللقمة وعلى المليم.
- ارسلها لي يا حاج عبد العظيم. إن خادمي اللص اللعين سرق من محفظتي خمسين جنيها.
- حاضر.
- حاضر صحيح، أوفك مجالس؟
- يا سلام يا سعادة البيك! والله لو طلبت سعدية بنتي جارية لأرسلتها اليك.
- اشكرك! وهل هي كبيرة؟
- انها في الجامعة يا سعادة البك.
- الخادم في الجامعة؟!
- بل سعدية بنتي يا سعادة البك.
- أهي جميلة يا حاج عبد العظيم؟
- انها في نظري جميلة جداً يا سعادة البك. هذه بعض صور لها عملتها لتلص واحدة منها على البطاقة.
- بطاقة التموين؟
- بل بطاقة الدخول في الكلية بعد الأضراب.
- أكانت مضربة؟
- كانت الكليه كلها مضربة.
- حتى البنات يضربن!
- انهن يتعلمن من الذكور يا سعادة البك.
- لعنة الله على الذكور وعلى الأناث! (ما عدا سعديه طبعاً يا حاج عبد العظيم.
أشكرك يا سعادة البك.
- وإكراما لهذه الصورة سأعفيك الآن من تحديد ميعاد لدفع المتأخر.
- أشكرك يا سعادة البيك!
- على شرط أن ترسل إلى الخادم الآن.
- على العين والرأس.
المنظر الثالث:
كانت الآنسة سعدية عبد العظيم مضطجعة على سريرها تقرأ في كتاب (الكيمياء الصناعية) وكانت أمها تقف بجوارها تكاد تطفر الدموع من عينيها وتقول لها:
- ردي عليّ يا سعدية. اسمعي كلامي! أنا أمك.
- كلمة واحدة! لن أتزوجه.
- أهذا كلام عاقلة؟ حسين بك الغني العظيم ترفضه فتاة فقيرة!
- عجوز وقبيح الشكل والأخلاق!
- يا ندامة يا بنتي! الرجل عيبه جيبه. ما له حسين بك سيد الرجال!!
- لا أريده.
كوني عاقلة يا سعدية. حسين بك هو الذي يؤجر والدك أطيانه ونحن مدينون له بألفي جنيه وقد وعد بالتنازل عنها وتخفيض الإيجار أيضاً، وسيعطيك (شبكة) جميلة ثمينة ولا يطلب منا أي جهاز. وهذا كنزٌ يا ابنتي نزل علينا من السماء.
- وكانت سعدية قد عادت إلى القراءة في كتابها وكأنها لم تسمع شيئاً من هذه المحاضرة الطويلة المغرية. فابتسمت أمها وقالت: خلاص! سأقول لوالدك إنها موافقة.
- من قال ذلك؟ يستحيل! يستحيل! تزوجوه أنتم! أما أنا فلا.
وهنا لم تتمالك الأم نفسها فأخذت تجهش بالبكاء وتلطم خديها وتقول. يا خسارة التربية! ستخربين بيتنا يا فاجرة.
لا كنْتِ ولا كانت أيامك. وكأنما تأثرت ابنتها فاعتدلت وقالت لأمها بصوت كأنه صادر من القبر. سأعمل ما فيه راحتكم.
وأسرعت الأم تزف إلى زوجها هذه البشرى.
أما سعدية فكانت تناجي نفسها قائلة: يريدون أن يبيعوني له كأنني سلعة أو جارية! وما ذنبي أنا إذا كان سي حسين بك يظلم أي في الإيجار وهو يريد تخفيض الإيجار، فيطلب من الحكومة سن قانون لتخفيضه. أما أنا فسأترك لهم منزلهم وأعول نفسي وأتمم تعليمي.
وفي اليوم التالي لم تعد سعدية إلى منزل والديها.
المنظر الرابع:
بعد هذه الحوادث بشهر واحد وفي ضحى أحد الأيام كانت الشمس المشرقة الجميلة تشرق في أنحاء الديار المصرية على المناظر الآتية:
1 - الطالب على عبد الحميد يجلس مكتئباً في غرفته وقد أمسك بيده ورقة الفصل من الكلية لعدم تسديد المصروفات.
2 - الضابط عبد الحميد حمدي حزيناً في منزله وبجواره زوجته يقرآن خطاباً بخصم خمسة عشر يوماً من مرتبه لاشتراكه في إضراب ضباط البوليس.
3 - الفلاح محروس جاب الله يقف واجماً أمام جاموسته التي تباع بأبخس الأثمان لتسديد ما عليه من إيجار الفدانين للضابط عبد الحميد حمدي.
4 - زوجة محروس جاب الله تجلس في غرفة مظلمة حاملة بين يديها طفلها الذي يئن ويتلوى وهي تظن أن عليه عفريتاً وما به إلا الحمى الشوكية اللعينة.
5 - الآنسة سعدية عبد العظيم مبروك تجلس أمام طفل صغير لصديقة لها تعلمه وتنتهز فرصة اشتغاله بالكتابة فتخرج من حقيبتها صورة للطالب عبد الحميد وتنظر إليها بحب وإشفاق.
6 - حرم الحاج عبد العظيم في بيت متواضع مع باقي أطفالها تبكي وفي يدها ورقة طلاقها.
7 - الحاج عبد العظيم يتوجه إلى أحد المحامين الشرعيين ومعه إعلان من المحكمة الشرعية.
8 - حسين بك فخري في قصره الفاخر وقد أخرج من محفظته صورة جميلة للآنسة سعدية.
وكان كل من هؤلاء يتأوه قائلا: (يا حياتي).
فؤاد السيد خليل