مجلة الرسالة/العدد 774/الإنكليز حلقة الشر المفرغة
→ عبد الله بن سبأ | مجلة الرسالة - العدد 774 الإنكليز حلقة الشر المفرغة [[مؤلف:|]] |
تولستوي الحائر ← |
بتاريخ: 03 - 05 - 1948 |
للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي
رئيس تحرير (البصائر) الجزائرية
أيها العرب!
إن الإنكليز هم أول الشر ووسطه وآخره، وإنهم كالشيطان منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي. وإنهم ليزيدون على الشيطان بأن همزاتهم صور مجسمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسومة تهشم وتحطم وتخرب، لا لمة تلم ثم تنجلي، وطائف يمس ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثم تفارق. ويزيدون عليه بأنهم لا يطردون باستعاذة وتذكر القلب ويقظة الشواعر، وإنما يطردون بما يطرد به اللص الوقح من الصفح والأحجار والمدر، ويدفعون بما يدفع به العدو المواثب، بالثبات للصدمة، والعزم المصمم على القطيعة وبت الحبال، والإرادة المصرة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان (إن الإنكليز لكم عدو فاتخذوهم عدوا). يرددها كل عربي بلسانه، ويجعلها عقيدة جنانة، وربيطة وجدانه، وخير ما يقدمه من قرباته. قد غركم أول الإنكليز فأعيذكم أن تغتروا بآخره بعد أن صرح شره، وافتضح سره، وانكشف لكم لينه عن الأحساك والأشواك. وقد تمرس بكم فعرف الموالج والمخارج من نفوسكم قبل أن يعرف أمثالها من بلادكم، وحلل معادن النفوس منكم قبل إن يحلل معادن الأرض من وطنكم؛ وعجم أمراءكم فوجد أكثرهم من ذلك الصنف الذي تلين أنابيبه للعاجم، وتدين عروبته للأعاجم.
قد علمتم أنه هو الذي وعد صهيون فقوى أمله، ولولاه وعده لكانت الصهيونية اليوم - كما كانت بالأمس - حلما من الأحلام يستغله (الشطار)، ويتعلل به الأغرار.
وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه ما انتدب إلا ليحقق وعده؛ وأن في ظل انتدابه، وبأسنة حرابه، حقق صهيون مبادئ حلمه فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز، وفتن ضعفاءكم بالخوف وفقراءكم بالمال حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع والسماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهد الأرض بأيديكم، وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم أو أبتزز أرزاقكم. وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين على هذه الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر غالطوكم بالمشروع منها وغير المشروع. ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعة إلا في دين الإنكليز؟
وعلمتم أن بريطانيا هي التي جرت ضرتها البلهاء أمريكا إلى محادتكم وجرأتها على احتقاركم لتكيدها وتكيدكم، ولتحل بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم وبين أمريكا من صلات؛ وأنها هي التي ألبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها حتى إذا جالت الأزلام وأيقنت بالفوز أمسكت إمساك المتعفف، وتظاهرت بالروية والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويها بهذا الحياد الفاضح، فكانت كالقاتل المعزي. .
يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم! إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وقد لدغتم من الجحر الإنكليزي مرات فلم تحتاطوا ولم تعتبروا. وخدعتم من الجانب الإنكليزي كرات فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خدع خلفكم كما خدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم ودعاكم إلى موائده الفقار فلبيتم. وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما أنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلق بأسبابه.
فيا ويحكم. . . أكل ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء، أو لأنهم أقوياء وأنتم ضعفاء. كلا. . . إنهم لأغنياء بكم وبأمثالكم من الأمم المستخدمة، وليسوا أغنياء عنكم. وإنهم لأقوياء بما يستمدونه من أرضكم وجيوبكم فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم، إن لبدة الأسد هي بعض أسبابه إلى زرع الهيئة في القلوب؛ ولكن لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة، فلو أن كل أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمن وراءها الرهبة لأمسى الأسد هرا مجرد العنق معروق الصدر بادي الهزل والسلال.
إن الغنى عمل وتدبير. فلو عملتم لكنتم أغنياء. وإن يده الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات. وإن القوة مشيئة لا جبر، فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم. وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد هذا أول الإنكليز عرفتموه، فهل عرفتم آخرهم؟ إنهم كانوا أداة تفريقكم في الماضي، وكانوا عونا للزمان عليكم، فلما رأوا شملكم إلى اجتماع، وجامعتكم إلى تحقق، جمعوا لكم كل ما عندهم من مكائد ومصائد. . . إنهم ينطوون لكم على العظائم؛ وإن في جعبتهم ما في جعبة الحاوي من حيات. وإن في أيديهم عروق الجسم العربي يضغطون على أيها شاءوا متى شاءوا. في أيديهم قضية مصر يساومون بها وبما كسون، وفي أيديهم قضية السودان يلوحون بها ويعاكسون، وفي أيديهم قضية ليبيا يشاغبون بها ويشاكسون، وفي أيديهم قضية شرق الأردن بما فيه، وما شرق الأردن إلا خيط الخنق وشريط الشنق فله الإنكليز بأيديهم وأمروا على الأيام فتله، لأمرهم بالغوه إن لم تهبوا وتذبوا، وفي أيديهم العراق ومنابعه، واليمن وتوابعه، ولهم على سوريا ولبنان يد منونة، في طيها مدية مسنونة. وفي أيديهم مفاتيح من أقفالها مفتاحاً، ولكل أمير من أمرائها مقودا من رغبة أو رهبة. ولهم مع ذلك من بينكم العيون الراصدة، والألسنة الحاصدة. وفيكم مع ذلك الآذان السامعة، والهمم الطامعة، وفي سجلاتهم ذممكم وهممكم وقيمكم، قدروها تقديرا، وأوسعوها تحليلا وتدبيرا.
إنهم ما حركوا مشروع سوريا الكبرى في ميقات معلوم إلا ليفتنوا بعضكم ببعض، ويغروا بيتا ببيت، وقريشا بتميم. فينخرق الإجماع وتفترق الجامعة. وإن هذه النقطة هي أعلى ما يصل إليه الدهاء الإنكليزي، كما أنها أعسر امتحان للضمير العربي الذي يتمنى أن يتكتل العرب ولكن بدافع من أنفسهم لا على يد عدوهم. وإن الإنكليز لقادرون على تحريك غيرها من الفتن المفرقة. وإنكم - أيها العرب - لا تردون كيدهم إلا بإجماعكم على تحديهم، واجتماعكم على إيقاف تعديهم، وإقامة جامعتكم على اعتبار مصلحة العرب ووطن العرب فوق الأغراض والأشخاص.
إنكم لا تردون كيدهم بقوة جامعة الدول العربية، حتى تسندوها بجامعة الشعوب العربية، فحركوا في وجوههم تلك الكتلة متراصة يرهبوا ثم يذهبوا.
لمسنا في هذه الكلمة حقائق مريرة، وأومأنا إلى قضايا يسوءنا أن نزيد حمأتها مدا. ولكن ما عذرنا إذا أمسكنا عن الشرح، ولو كان فيه جرح! وقد تأدى إلينا من تراث أجدادناالعرب هذه الحكمة الغالية (من كتم داءه قتله).
(الجزائر)
محمد البشير الإبراهيمي