الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 773/من أدب العراق

مجلة الرسالة/العدد 773/من أدب العراق

مجلة الرسالة - العدد 773
من أدب العراق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 04 - 1948


المرأة في شعر الرصافي

للشيخ محمد رجب البيومي

حيا الله الشعر العربي، فلقد آزر النهضة الشرقية أتم مؤازرة، فأيقظ عيوناً نائمة، وأسمع آذانا موصدة، وطاح بجبابرة قساة، وأدوا الكرامة الإنسانية، وأزهقوا العزة القومية، كما أسدلوا على الشرق الصريع ستورا مظلمة مخيفة، تنصب خلفها المكائد الدنيئة، ويتحبر في ليلها الحالك شياطين البغي والاستبداد.

ولقد كان الرصافي رحمه الله في طليعة هؤلاء العباقرة المجاهدين، فقد اتخذ من يراعه القوى صارما بتارا، تنقل به من معركة إلى معركة، فهو في ميدان السياسة يشن الغارة على السرطان الاستعماري، ويقف في وجه الطاغوت التركي؛ وهو في ميدان الاجتماع يحث على التعليم المنتج، ويدعو إلى الأخلاق الرفيعة، كما تراه يتغنى بماضي الشرق الزاهر، ويندب حاضره المنكود، حتى أثمر جهاده أي إثمار، فهب العالم العربي ينقب عن تراثه الضائع، ويستعيد مجده المغصوب.

وسأحاول اليوم أن أكشف عن أثر الرصافي في النهضة النسوية، كما أبين شعوره نحو المرأة كانسان ناضج، وكيف أوحت إليه من المعاني والأخيلة ما ارتسم واضحاً في مرآة شعره. ولا عجب فقد وجدت لزاماً بعد أن وقفت على مجهوده الموفق في هذا السبيل أن أتحدث عنه إلى القراء.

لم تكن حال المرأة في العراق خيراً منها في مصر، بل كان الحجاب والجهل من لوازمها الأكيدة في كلا القطرين، فارتفعت الدعوة بتحريرها أولا في ربوع النيل، واحتدم الجدال بين الأنصار والخصوم، فكانت معركة طاحنة تردد صداها في ربوع العراق، فنهض الرصافي والزهاوي للمطالبة بحق الفتاة، وتصديا للهجوم العنيف بما يملكان من بيان، فكانت المقالات الضافية، والقصائد الرنانة، تعبر عن آرائهما الجديدة في جرأة وعنف، وواصل الرصافي جهوده، فتألب عليه الجمهور، وتعقبه الحاكم التركي في غدوه ورواحه، وهو لا يفتأ يناضل عن حق اعتقده ويقوض أركاناً عتيدة يراها غير صالحة للبقاء!

كان قاسم أمين في مصر صاحب الرأي الأول في حركته التحريرية، وكان الشعراء والمثقفون يسيرون وراءه في كثير من التحفظ والاحتياط، أما في العراق فقد كان معروف وجميل يقومان بعبء قاسم في حماسة يصل بها إلى الثوار والاندفاع، ومن هنا كانت مكانتهما الاجتماعية في بغداد أقوى من مكانة شوقي وحافظ ومطران في مصر، والفرق بين هذين وهؤلاء فرق ما بين الخطيب والمصفقين مع التسامح اليسير!!

على أن الرصافي كان في دعوته يعدد أساليبه الشعرية، فلم يسر على نمط واحد في قوافيه، فتارة يعمد إلى العاطفة، فيرسم لك صورة قاتمة لبائسة جاهلة، قضت عمرها سجينة مغلولة، حُرّم عليها العلم فهو أرفع من أن يهبط إلى مستواها الوضيع، وأذلها الفقر فهي تئن تحت براثن الجوع، ثم ضرب حولها الحصار المنيع فهي لا تسعى إلى طلب القوت. ويتساءل بعد ذلك: في أي طريق تسير؟ والعيون راصدة، والفاقة قاتلة، اسمعه يقول

لم أر بين الناس ذا ظلمة ... أحق بالرحمة من مسلمه

منقوصة حتى بميراثها ... محجوبة حتى عن المكرمه

قد جعلوا الجهل صوانا لها ... من كل ما يدعو إلى المأثمه

والعلم أعلى رتبة عندهم ... من أن تلقاه وأن تعلمه

ما تصنع المرأة محبوسة ... في بيتها إن أصبحت معدمه؟

ضاقت بها العيشة إذ دونها ... سدت جميع الطرق المعلمه

كم في بيوت القوم من حرة ... تبكي من البؤس بعيني أمه

قد لوحت نار الطوى وجهها ... وأعمل الفقر بها ميسمه

عاب عليها قومها ضلة ... أن تكسب القوت وأن تطعمه

من أي وجه تبتغي كسبها ... وطرقها بالجهل مستبهمة؟

وتارة يعمد الشاعر إلى الأدلة الخطابية، فيسهل الغاية، ويتفادى العاقبة حيث يستغني بالحياء عن الحجاب، وبالتهذيب والدراسة عن اللثام، ثم يغضب أن يكون رجالنا ذئابا متنمرة، ونساؤنا نعاجا مستكينة، ويقيم البرهان على تأخر الشرق بتأخر فتياته، فهن جزؤه المفلوح، ونصفه الأشل، فكيف يضمن البقاء على حاله بدون تناسب، والقاعدة غير ذلك؟ إنه يقول:

شرف المليحة أن تكون أديبة ... وحجابها في الناس أن تتهذبا والوجه إن كان الحياء نقابه ... أغنى الفتاة الحي أن تتنقبا

واللؤم أجمع أن تكون نساؤنا ... مثل النعاج وأن تكون الأذؤبا

والشرق ليس بناهض إلا إذا ... أدنى الرجال من النساء وقربا

فإذا ادعيت تقدما لرجاله ... جاء التأخر للنساء مكذبا

من أين ينهض قائماً من نصفه ... يشكو السقام بفالح متوصبا

كيف البقاء له بدون تناسب ... والدهر خصص بالبقاء الأنسبا

ولا ينسى الشاعر في دعوته التحريرية ضغنه على المستعمرين، فهو يرجع التوغل الاحتلالي إلى الأمهات وحدهن، حيث كن إماء جاهلات، فلم ينشئن أولادهن على العزة والكرامة، فهانت نفوسهم، وتحملوا جور الدخيل وتعسف الغريب، وكأنه أصطاد عصفورين بحجر واحد حين قال:

أضافوا عليهن الفضاء كأنما ... يغارون من نور به وهواء

ولو أنهم أبقوا لهن كرامة ... لكانوا بما أبقوا من الكرماء

ألم ترهم أمسوا عبيداً لأنهم ... على الذل شبوا في حجور إماء

وهان عليهم حين هانت نفوسهم ... تحمل جور الساسة الغرباء

وقد اشتهرت قصيدة معروف الرصافي التائية شهرة واسعة فتناقلتها الصحف المختلفة، وسجلتها الكتب المدرسية مرات عديدة، لأن ناظمها واضح صريح، يذكر حجج الخصوم ويدفعها بالمنطق العقلي، والدليل التاريخي. ولأمر ما تذكرني هذه القصيدة الرائعة بأخت لها ن؟ مها حافظ رحمه الله في موضوعها الهام، وكان لها من الشهرة ما لقصيدة الرصافي، ولكن روح معروف أكثر اتقادا، وتفكيره أوسع أفقا، وإن اجتمعا معا في السلاسة والعذوبة. وكلا الشاعرين قد بدأ موضوعه بالدعوة إلى الفضيلة، والتمدح بمكارم الأخلاق، فقال الرصافي

هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات

تقوم إذا تعهدها المربي ... على ساق الفضيلة مثمرات

وتسمو للمكارم باتساق ... كما اتسقت أنابيب القناة

وتنعش من صميم المجد روحاً ... بأزهار لها متضوعات وقال الحافظ:

أني لتطربني الخلال كريمة ... طرب الغريب بأوبة وتلاقي

ويهزني ذكر المروءة والندى ... بين الشمائل هزة المشتاق

ما البابلية في صفاء مزاجها ... والشرب بين تنافس وسباق

يا ألذ من خلق جميل طاهر ... قد مازجته سلامة الأذواق

ومضى معروف فشبه الأم بالمدرسة، وقارن بين ابن المتعلمة وابن الجاهلة، فشبه هذا بنبت الفلاة، وذاك بزهر الرياض؛ واستعان بخياله، فجعل صدر الفتاة لوحاً بديعاً تتراءى فيه صور الحنان الدافق، ثم دلف إلى آراء المحافظين فدحضها في هدوء وبساطة، وبين موقف الشريعة الإسلامية من المرأة وكيف أخطأ الجامدون فنسبوا إلى الدين ما ليس منه، واستدل بعائشة أم المؤمنين وما كانت عليه من فصاحة وفقه، ثم عاد يتساءل في تبرم

فما للأمهات جهلن حتى ... أتين بكل طياش الحصاة

حنون على الرضيع بغير علم ... فضاع حنو تلك المرضعات

نرى جهل الفتاة لها عفافاً ... كأن الجهل حصن للفتاة

ونحتقر الحلائل لا لجرم ... فنؤذيهن أنواع الأذاة

لئن وأدوا البنات فقد قبرنا ... جميع نسائنا قبل الممات

حجابهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتكات

وقالوا إن معنى العلم شيء ... تضيق به صدور الغانيات

وقالوا شرعة الإسلام تقضي ... بتفضيل الذين على اللواتي

لقد كذبوا على الإسلام كذبا ... تزول الشم منه مزلزلات

أأم المؤمنين إليك نشكو ... مصيبتنا بجهل المؤمنات

فتلك مصيبة يا أم منها ... (نكاد نغص بالماء الفرات)

(البقية في العدد القادم)

محمد رجب البيومي