الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 771/الحياة التناسلية

مجلة الرسالة/العدد 771/الحياة التناسلية

بتاريخ: 12 - 04 - 1948


والتحليل النفساني

للدكتور فضل أبو بكر

مما يؤسف له حقاً أننا قلما نعالج مثل هذه الموضوعات في بلاد الشرق، وإذا تعرضنا لها في بعض الأحيان نمر عليها مراً سريعاً خاطفاً وبكثير من التحفظ. كذلك نشرح هذه الحياة للشبان والشابات في سن المراهقة وما قبلها بنفس ذلك التحفظ متحاشين ما استطعنا الخوض في الحياة التناسلية من حيث التكوين التشريحي والوظائف الفسيولوجية لتلك الأعضاء وما ينتاب تلك الحياة من أمراض جسمانية هي الأمراض التناسلية، ومسخ نفساني هو الشذوذ التناسلي وما يترتب على كل هذه الطوارئ من أضرار، وما عسى أن يتخذ من الحيطة والتدابير لاتقاء شر هذه الأمراض بمختلف أنواعها كما أن هذه التبعة تقع على كاهل الوالدين والمعلمين.

هذا التقصير ناشئ من اعتبارنا - خطأ - أن مثل هذه الحياة سرية، ومن هنا انطلقنا وما زلنا نطلق على الأمراض التي تنتابها في معظم الأحيان بالأمراض السرية، وفي قليل من الأحيان بالأمراض التناسلية، مع أن التسمية الأولى هي تسمية خاطئة ومضرة في الوقت نفسه. وما زال بعض الناس يقدسون سرية هذه الأمراض ويرفعونها إلى مستوى (سر المهنة) وينكرونها نكراناً باتاً على الطبيب المداوي نفسه ويضللونه تضليلاً يعقد الأمر ويزيد في إشكاله من حيث تشخيص المرض. وقد تحاوره وتحتال عليه بشتى الحيل ليبوح لك بالسر الرهيب وتفهمه بأن سر المهنة يقضي عليك بالا تبوح بشيء مما يدل به المريض في مثل هذه الأحوال حتى إلى أقرب الناس إليك أو أقربهم إليه؛ كما أنه في حالة الإفشاء يمكنه مقاضاتك والاقتصاص منك بواسطة القانون. وقد تلين قناته ويأنس إليك فيقص عليك حقيقة الأمر في بعض الأحيان كما يستمر في نكرانه وتضليله. غير أنه من حسن الحظ أن مضاعفات المرض نفسه، وما نتركه من آثار باقية، والنتائج التحليلية للفحص، كل ذلك كفيل بفضيحة الأمر وإفشاء السر في معظم الأحيان.

إن سبب هذا النكران يرجع إلى عدة عوامل منها (الحياء)، والحياء من الإيمان كما يقول الحديث وهو ركن حصين ودعامة قوية من دعائم الأخلاق بلا شك؛ غير أنه في مثل هذه المناسبات يكون الحياء مستعملاً في غير موضعه، أو استعمل استعمالاً خاطئاً للأسباب التي سبق ذكرها. ومنها أيضاً عادة (احترام النفس) وهو شعور طبيعي في الإنسان ويجب تشجيعه وتنميته في كل نفس؛ غير أن من المعقول أن يفقد المريض قيمته أو ينحط قدره في نظر الطبيب إذا عرف أن مريضه مصاب بمرض تناسلي؛ حتى ولا في نظر المجتمع - إذا أنصف المجتمع - لانتشار هذه الأمراض. ومن ضمن هذه الأمراض ما يسمونه (بمرض الأبرياء) وخاصة مرض الزهري؛ فقد يصاب به الإنسان أحياناً من طريق غير الطريق التناسلي أو المخالطة الجنسية كما يشاهد ذلك في أكثر من مرة. كما قد يكون سبب التكتم من ناحية المريض هو عدم ثقته بالطبيب، واتهام مقدرته على كتمان السر، وأن في إذاعة هذا السر مشاكل عائلية ومضار تسبب للمريض - وهذه أيضاً حجة واهية ووهم لا محل له إلا في ذهن المريض؛ إذ أنه ما من طبيب يحترم مهنته ويقدر مسئوليته تسول له نفسه إفشاء مثل هذه الأسرار. ثم أنمه من غير المعقول أن يلجأ المريض إلى طبيب لا يثق به؛ إذ فقدان مثل هذه الثقة قد يكون مصحوباً بالشك في العلاج نفسه وفي مقدرة الطبيب. ومن هنا ينتج فقد الإيمان والاعتقاد وما يترتب على ذلك من (إيحاء) - هذا الإيحاء هو عنصر نفساني هام يساعد على الشفاء ويزيد في مناعة الجسم وحيويته في نضاله ضد الأمراض. كذلك جهل المريض بما سوف يترتب عليه من عواقب وخيمة وأضرار لنفسه أو لمن يعيشون حوله؛ كما أن هنالك خصلة مكروهة وعادة ذميمة هي عادة الكذب الذي يلجأ إليه الكثيرون من غير ما حاجة ماسة كما قد أصبح للبعض لزم لهم من الخبز اليومي.

لا نقصد مما سبق ذكره أن المريض بهذه الأمراض التناسلية يحتم عليه إذاعتها في المجالس والمنتديات أو على صفحات الصحف أو يتخذ منها مادة للسعر والتندر؛ لا نقصد إلى شيء من ذلك بل نقول بالعكس من ذلك بضرورة التستر - (وإذا بليتم فاستتروا) كما تقول الحكمة. ولكن الذي نريده وننتظره من المريض هو عدم مراوغة طبيبه وتضليله كما نطالبه باتخاذ ما يلزم من الاحتياط حتى يحول دون انتشار العدوى لغيره من الناس.

إن مشكلة الحياة التناسلية ولا سيما تحليلها من الوجهة النفسانية مشكلة عويصة معقدة. وقد شغل هذا الموضوع الحيوي حيزاً كبيراً من كبار أطباء الأمراض بالحياة العصبية والتناسلية وتأثر كل منهما بالأمر ومن أهم من عنوا بالتحليل النفساني هو العالم النمسوي المعروف (فرويد) الذي كان أستاذاً في جامعة فيينا والذي يعد أكبر مرجع لهذا النوع من التحليل، كما أنه أمتاز بعمق التفكير والتأويلات البعيدة المنطقية، وبالشجاعة في إبداء آراء جريئة. وقد عانى من ذلك كثيراً ورماه البعض بالمغالاة، كما أن هنالك اعتبارات أخرى من سياسية وعنصرية، إذ كان من أصل يهودي. كل ذلك سبب له مشاكل ومتاعب، وشغر بالاضطهاد أخيراً مما أجبره على مغادرة النمسا والالتجاء إلى إنجلترا كما لجأ إليها ابن عم له من قبل هو (كارل ماركس) إذ طرد من ألمانيا لأسباب مشابهة.

تظهر الغريزة الجنسية عند الطفل في طور مبكر جداً كما يقول العالم المجري (لندنر) يقول هذا العالم أن عوارض الغريزة الجنسية ترجع إلى عهد الرضاعة؛ فهو يرى في الرضاعة عملية حيوية بالنسبة إلى الطفل، إذ تدر عليه اللبن اللازم لقوته، والذي لا تكون حياة من دونه، وتهديه إلى البحث عن هذا اللبن غريزة حب النفس وتنازع البقاء. غير أن (لندنر) و (فرويد) يقولان إن الطفل يشعر أثناء وقت الرضاعة بشعور خفي ولذة ظاهرة هي إشباع الغريزة التناسلية واللذة التي تنتج من إجابة هذه الغريزة؛ فتراه بعد أن يأخذ كفايته من اللبن لا يلذ له النوم إلا وهو ممسك بفمه ثدي أمه في نشوة ظاهرة وشعور بالطمأنينة؛ حتى إذا نما الطفل قليلاً نجده يبحث عن عضو آخر مثل إبهام يده أو غيره من أجزاء الأعضاء ليمصه واجداً في ذلك لذة كبيرة هي - حسب ما تقدم - لذة جنسية. لذلك أطلق على منطقة الفم والشفتين (بالمنطقة الجنسية) كما ذهب فرويد إلى أبعد من ذلك بقوله أن هنالك منطقة جنسية ثانية توجد في الدبر وهو يرى في عملية التبرز عند الطفل لذة تناسلية كما يقول فرويد إن هذه اللذة ما زالت آثارها كامنة عند الكبار بقوله أن الشعور الخفي بالراحة والرضى بعد أداء عملية التبرز ولا سيما بعد الإمساك الذي ينتج عنه تصلب في المواد البرازية. هذا الشعور من المعقول جداً أن يكون سببه خلاص الجسم من مواد غير مرغوب فيها كما أن هذا الشعور لا يأتي فقط من الأسباب المذكورة؛ ولكنه يكون مصحوباً في الوقت نفسه بشعور داخلي حتى منشؤه إشباع نوع من الغريزة الجنسية وما يصحب ذلك من لذة وراحة.

ذكرنا في المثالين السابقين بدأ الحياة التناسلية عند الطفل ولكنه بدأ شاذ، فالحياة التناسلية تبدأ بالشذوذ ولما يبلغ الطفل الثالثة من عمره، يبدأ اهتمامه بتكوينه التناسلي ويسترعى فضوله وجود الأعضاء التناسلية في جسمه وأن كان يجهل ماهيتها وما خلقت من أجله؛ غير أن الطفل من غير شك يبدأ بمداعبة أعضائه التناسلية فيحدث عنده لذة جنسية.

ويعتبر هذا مثل ثالث آخر للشذوذ التناسلي نسميه شذوذاً تناسلياً لأن الحياة التناسلية الطبيعية السليمة الطبيعية هي البحث عن مثل هذه الملاذ الجنسية عند جنس مضاد - ذكر وأنثى - بالاختلاط الجنسي. وقد يكثر الطفل من مداعبة تلك الأعضاء بعد أن يشعر بنوع من اللذة فيستدعي ذلك اهتمام والديه فيمنعونه عن عمله الشاذ بشتى الطرق من ترهيب وترغيب؛ غير أن المنع لا يميت في نفسه ذلك الشعور وربما يزيده ويزكيه فيشعر بشيء من الغبن وبسبب له هذا المنع مركباً نفسياً ضمن المركبات النفسية الكثيرة وهو ما يسميه فرويد (بمركبات الخصيان) وهو الشعور بالغبن لدى الخصيان الذين حرموا ملاذ الحياة التناسلية.

هذا ويؤكد فرويد أن أول ما يبدأ الطفل حياته التناسلية العادية إنما يبدأها بالشعور الجنسي نحو أمه. وهذا الشعور شاذ فيما يتعلق بالعرف والمجتمع ولكنه طبيعي فيما يتعلق بالغرائز الجنسية بكونه شعوراً نحو جنس مضاد لجنسه كمل توجد مثل هذه الغريزة في الطفلة بالنسبة لأبيها، وهو شعور أشبه بالجذب والتنافر بين الأقطاب في عالم الكهرباء والمغناطيس.

لا يمكن لأحد أن ينكر الشعور الطبيعي للأطفال نحو والديهما وما فيه من حب طاهر بريء؛ ولكن براءة هذا الحب لا تنافي وجود الغرائز وسلطانها. وقد نسمع بعض الأحيان أن الطفلة تريد الزواج من أبيها، والطفل يرغب أمه؛ كل ذلك في سن مبكرة بين الثالثة والرابعة مثلاً، فيثير ذلك تسلية للوالدين وعطفاً على الأطفال لهذه السذاجة البريئة. وقد وصف هذه الظاهرة فرويد وسماها (مركب أوديب) وأديب هذا كما تقول الأسطورة الإغريقية كان ملكاً ظالماً جباراً؛ وقد أنبئ بأنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه وذلك من حيث لا يعلم. ولما كان قد فارق أبويه في سن مبكرة وانقطعت كل الصلات بينه وبينهم فإنهما لا يدريان على أمره شيئاً. وفي ذات مرة أحد أفراد حاشيته بوجود امرأة جميلة في مكان ما؛ فأمر في الحال بإحضارها وتزوج منها. ولم يمض إلا وقت قصير حتى تبين له بأن المقتول لم يكن غير والده وأن الزوجة لم تكن غير أمه.

وهكذا حلت به الكارثة وصدقت النبوءة فحزن أوديب حزناً شديداً وعاقب نفسه على ذلك بأن فقأ عينيه الاثنتين. وقد اتخذ الأدباء والشعراء من مأساة أوديب مادة خصبة دسمة مثل (سوفوكليز) و (إبوردبديز) وغيرهما من شعراء الإغريق.

أما الحياة التناسلية السليمة (والمنتجة) فهي تبدأ بعد البلوغ إذ يكتمل تكوين هذه الأعضاء تشريحياً وتتهيأ لأداء رسالتها فسيولوجياً بالتلقيح الذي ينتج النسل.

وقد يطرأ انحراف الحياة التناسلية فيطبعها بطابع المسخ والشذوذ وهذا المسخ قد يكون مخففاً أو كامناً حتى لدى من يتمتعون بحياة تناسلية طبيعية. وقد تستحكم حلقات هذا الشذوذ ويظهر جلياً عند ضعفاء العقول والمصابين بالانحلال الذهني تساعد على ذلك الوراثة المثقلة مما يجنيه الآباء على الأبناء، وكما أن هذا الشذوذ قد يؤدي إلى أمراض عقلية واختلال في التوازن الذهني الذي بدوره يساعد على تكون هذا الشذوذ؛ وهكذا كل منهما يساعد على حدوث الآخر في شبه (دائرة خبيثة).

غير أن هذا الشذوذ - من سوء الحظ - ليس محصوراً في ضعاف العقول ولكن قد يصاب به بعض المفكرين والشعراء وغيرهم ممن يتمتعون بحياة اجتماعية كبيرة عالية؛ ولكنك إذا درست حياة أولئك الكبراء والمفكرين وراقبتها عن كثب وجدت أن ذلك الشذوذ قد يعدو تلك الناحية التناسلية ويسري إلى حياتهم الخاصة والعامة. وقد تصدر منهم أحياناً بعض التصرفات الشاذة بل الجنونية ولست أجد أصدق من المثل القائل (الجنون فنون) وهي فعلاً فنون متنوعة الأشكال والألوان.

والشذوذ التناسلي على أنواع كثيرة منها يسمى - ويشمل الذكور والإناث أي العلاقة الجنسية بين فردين من نوع واحد - أي بين رجل ورجل وامرأة وامرأة ومنها ما نسميه بالعادة السرية (جلد عميرة)

ولنكتفي الآن بهذا القدر خوفاً من الملل ورفقاً (بحياء) بعض القراء وإن كان لا حياء في العلم كما لا حياء في الدين.

(باريس)

فضل أبو بكر