مجلة الرسالة/العدد 77/نجوى النيل
→ الأنتكيرة هم الإنجليز لا الأسبان | مجلة الرسالة - العدد 77 نجوى النيل [[مؤلف:|]] |
بين الشاعر وببن نفسه ← |
بتاريخ: 24 - 12 - 1934 |
للأستاذ محمود الخفيف
مضيت إلى النهر وقت الطفل ... وقد لبس الأفق أبهى الُحلَلْ
وألقت عليه ظلال الغروب ... صفاء تتوق إليه المقلْ
ورَفَّت على الشْط خضر الرياض ... وراق الخريف بها واعتدلْ
ولاح ليَ النيل في منظر ... تناهى الجمالُ به واكتملْ
تَرَوّحت النفسُ فيه الهدوَء ... ولاحَت لعيني سِمَات الجذلْ
تذكرت قوليَ في عَذْله ... فأَشْرَبَ وجهيَ صَبْغُ الخجلْ
ورحت أجدد عهد الولاء ... كمن تاب عن ذنبه فاسْتَهَلْ
أتيتك يا نيل مستغفراً ... وعندك يُنْسى رقيق العَذَلْ
فمنك الوفاء ومنك الصفاء ... ومنك المودة منذ الأزلْ
وما كان عتبيَ إلا الوداد ... وما كان ودِّيَ بالمفتَعَلْ
لئن عُدْتُ أُحْكِمُ فيك القريض ... فلي في صفاتك وِرْدٌ عَلَلْ
يروق حديثك إما استعيد ... وما هو إن طال بالمبتَذَلْ
ويَمْلك قَلبيَ حين أراك ... لذيذُ الخيال وحلوُ الثَمَلْ
طيوفٌ من الحسن رفَّافةٌ ... تريك من السحر ما يُستَحلْ
ألذُّ من الحلْم جَمَّ الرُؤى ... لياليَ عهد الصبا المُقْتَبَلْ
وأعذب من خلجات المنى ... وأجملُ من بارقات الأمَلْ
وأطيب من ذكريات الغرام ... والطفُ من لمحات الغزَلْ
وأشهى من الماء حلوَ الصفاء ... تَسلسلَ حولك بَعد الغَلَلْ
وأنْضَرُ من باكرات الربيع ... تحلَّى بها الكون بعد العَطَلْ
وأبهى من الصبح في مهده ... تَبَسّم في داكِنَات الكِلَلْ
وأندى من الكون عند الشروق ... رفيفَ الحواشي نقيّ الطِّلَلْ
وأروع من بسمات الضحى ... وومض الأصيل وصفو الطَّفَلْ
جمالك يا نيل أعيا البيان ... ودق فقصَّرَ عنه المثلْ تدَفُّق مائك يوحي إليَّ ... مناظِرَ فيضك أنى هَطَلْ
فأصبو لمرآك بين الدِّغال ... وحول الشِّعاب وفوق القُلَلْ
حيال تِسانا وما حولها ... وعند نيانزا وبحر الجبلْ
وحيث خطرت بسودان مصر ... لطيف الأناة حليم النُّقَلْ
وحيث انْهَلَلْتَ بأعلى الصعيد ... وقد عجَّ موجُك لما اتَّصَلْ
يروع فؤاديَ هذا العباب ... وكيف تلاقى وكيف انتَقَلْ
وأعجب ماذا يروم الدخيل ... حيال تدفُّقِه المتَّصِلْ؟!
وكيف يُقَطَّع هذا الوريد ... وتأمن مصرُ دنوَّ الأجَلْ؟
يشعُّ الخلود على جانبيك ... ويصحو الفؤادُ لكرِّ الدُّوَل
وأقرأ فيك سجلَّ الزمان ... واسمع همسَ العصور الأُوَل
شهدتَ الحضارةَ في مهدها ... وحسنَ تفَنُّنها المرتَجَلْ
وشب الزمان على ضفتيك ... بطيَء العصور طويلَ المَهَلْ
فآنست في مصر عهد النبوغ ... وعهدَ العظائم لما حفَلْ
إلى أن بلوت بمصر الهوان ... وكيف ثناها الونَى والخزَلْ
هتفت بفرعون في عزه ... وانكرت فرعون لما خَمَلْ
وساءك قمييز يغزو البلاد ... ويبذر فيها بذورَ الخَلَلْ
وراعك إسكَنْدَرٌ مقبلا ... سريعَ الفتوح وثيقَ العَجَلْ
وقيصرُ حين غزَته الجفون ... وجازت عليه ضروبُ الحِيَلُ
فألقى السلاح على بأسه ... وهام بسحر العيون النُّجُلْ
وكم بطل فتنته العيون ... وكم مَلَكَ الحبُّ حتى قَتَلْ
تلقيت عمرا لقاء الحنيف ... تراءى الهلالُ له فابتهلْ
وهللت حين أقام الحدود ... وحين تقصَّى وحين عَدَلْ
وحين توسم فيك الجلال ... فنمق فيك رصين الجُملْ
وجاء بوصفٍ تلته القرون ... وما عرفت فيه بعض المَلَلْ
دهاك الفرنسيُّ في جنده ... وجندك يا نيل بعضَ الهمَلْ تلفتُّ حولك مستنجداً ... فلم تلق حولك غير الفَشَلْ
إلى أن تلقى زمام الأمور ... بمصر من الشرق فرد بَطلْ
فأحيا بواديُك مَيْتَ الرجاء ... وقد دهش الدهر مما فَعَلْ
تفيَّأت حيناً ظلالَ النعيم ... إلى أن دهاك المصاب الجَلَلْ
فجاس العدو خلال الديار ... وغالتك يا نيل شر الغِيَلْ
حباك الوعودَ ولكنه ... أقام لديك السنين الطُّوَلْ
فيوماً يمد حبال الرجاء ... ويوماً يثير عقيم الجَدَلْ
ويوماً يجيئك مستأسدا ... يجرب فيك صنوفَ الوَهَلْ
ألم تر بالأمس كيف افترى ... وكيف تعامى وكيف خَتَلْ؟
وكيف رماك بأدهى الخصوم ... وكان بواديك أصل العِلَلْ؟
لقد بات يتلو حديث الوفاق ... وهل يخطبُ الذئب وُدَّ الحَمَلْ؟
مللنا لعمريَ هذا النفاق ... وملنا إلى الجد بعد الهزَلْ
وَقمنَا نحطمُ عنا القيود ... وَنخلع عنا رداء الكسلْ
تحركْتَ بالأمس مستعدياً ... وأنكرت يا نيل عهد الخَطَلْ
وقد كنت قبلُ مِثالَ الهدوء ... ولكن أثارك طولُ الزَّللْ
وشعبك مثلُك في صمته ... وإن حسبوه سكوتَ الوَجَل
وما قرَّ موجُك إلا استجم ... وما إن تناقص حتى كَملْ
وما نسِيَ الشعبُ تاريخَه ... وما نام عن مجده أو غَفَلْ
أبيٌّ وإن دهمته الخطوب ... فتىٌ وان زعموه اكتَهَلْ
سرى فيه يا نيل منك الخلود ... وأُلهمَ مثلك حبَّ العمل
وما كان سِرُّكَ مُسْتَحْدَثا ... وما كان مجدُك بالُمنتحل
سيمضي الزمان على جانبيك ... وتبقى كما كنت منذ الأزل
الخفيف