مجلة الرسالة/العدد 77/الصراع بين الحبشة والاستعمار الغربي وهل يريد
→ سمو الحب | مجلة الرسالة - العدد 77 الصراع بين الحبشة والاستعمار الغربي وهل يريد [[مؤلف:|]] |
ما نرى في الغردقة ← |
بتاريخ: 24 - 12 - 1934 |
الاستعمار غزوها؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وقعت أخيراً عدة حوادث ومصادمات خطيرة على حدود الحبشة بين الإيطاليين والأحباش؛ وكان المظنون أن الكدر الذي أصاب العلائق الحبشة الإيطالية من جراء حادث الإعتداء على القنصلية الإيطالية في جوندار قد زال بعد إعذار الحكومة الحبشية وقيامها بالترضية المطلوبة. ولكن حادثاً أشد خطورة وقع منذ أيام قلائل على الحدود الحبشية مما يلي السومال الإيطالي؛ فقد نشبت معركة دموية شديدة بين قوة من الأحباش وقوة من الإيطاليين عند مركز اولوال الذي يدعيه كل منهما، قتل وجرح فيها من الفريقين عدد كبير يقدر بالمئات؛ وقد وقف القتال على أثر ذلك، وانسحب الأحباش إلى داخل الحدود، ورفعت الحكومة الحبشية الأمر إلى عصبة الأمم؛ ولكن الجو مازال كدراً مثقلاً بمختلف الاحتمالات
ومما يلفت النظر بنوع خاص أن يقع هذا التوتر وهذه الحوادث الخطيرة بين الدولتين عقب الزيارة الملكية التي قام بها ملك إيطاليا في الارتيريا والسومال، والمظاهرات العسكرية التي نظمتها السلطات الإيطالية بهذه المناسبة. ولا ريب أن طواف ملك إيطاليا بالأملاك الإيطالية في أفريقيا الشرقية لم يكن بقصد النزهة والتريض، ولكنها زيارة سياسية ظاهرة المغزى، وطليعة خطة جديدة تزمع إيطاليا الفاشستية انتهاجها في سياستها الاستعمارية. ومن المعروف أن إيطاليا الفاشستية تعني عناية شديدة بالتوسع الاستعماري، وأنها خطت في ذلك السبيل خطوات واسعة في طرابلس، حيث استطاعت أن توغل في داخلها بعد أن لبثت منذ غزوها تقتصر على احتلال البلاد الساحلية إلى مسافة قصيرة، واستطاعت بواسطة إنكلترا أن تنتزع واحة جغبوب المصرية وما يليها بمقتضى المعاهدة المعروفة، وأن تصحح بذلك حدودها على حساب الأراضي المصرية؛ بل لقد استطاعت أخيراً أن تنتزع بواسطة إنكلترا أيضاً جزءاً من واحة العوينات السودانية وأن تضمها إلى برقة الجنوبية، ونزلت لها إنكلترا عن تلك المنطقة بإسمها وبإسم مصر، ومصر لا تعلم بشيء من ذلك ولم يطلب رأيها فيه. وتبدي إيطاليا الفاشستية نشاطاً واضحاً في تنظيم مستعمراتها الأفريقية وتقوية نفوذها الإستعماري، وتجعل التوسع الاستعماري أساساً لسياستها الأوربية، فتشترط لتفاهمهما مع فرنسا ن تحصل على حقوق ويا استعمارية في جنوب تونس، وفي منطقة تشاد، وتدعو إلى تعديل معاهدة الصلح (معاهدة فرساي)، وتحاول أن تثير مسألة الانتدابات الاستعمارية التي استأثرت بها فرنسا وإنجلترا وحرمت هي منها فلم تظفر بشيء من أسلاب ألمانيا أو الدولة العثمانية؛ هذا إلى اهتمامها بتقوية نفوذها في كثير من الأمم الشرقية، ومضاعفة جهودها في نشر تجارتها ونفوذها الاقتصادي
ومن الطبيعي أن تخص إيطاليا المنطقة الحبشية بمعظم جهودها واهتمامها، فهي تملك في تلك المنطقة مستعمرتين كبيرتين هما بلاد الأريترية التي تحد الحبشة من الشمال الشرقي وتحجب عنها ساحل البحر الأحمر، وبلاد السومال الإيطالي، وهي تحد الحبشة من الجنوب الشرقي، وتحجب عنها ساحل المحيط الهندي. بيد أن هذا الاهتمام ليس حادثاً وطارئاً؛ فقد بدأت إيطاليا عصرها الاستعماري في تلك المنطقة، وامتلكت بها أول مستعمرة إيطالية. وكان ذلك سنة 1885، وقت أن كانت الدول الكبرى تنظم اقتسام أفريقية إلى أملاك ومستعمرات، فاستطاعت إيطاليا أن تضع يدها على ثغر مصوع وأن تحتل بلاد الإريترية؛ وكانت السياسة الإيطالية تتطلع يومئذ إلى التوسع في تلك المنطقة، وإلى إنشاء إمبراطورية استعمارية إيطالية في شرق أفريقية؛ ولم يكن يحقق ذلك الحلم سوى الاستيلاء على بلاد الحبش؛ فاتخذت من الإريترية قاعدة لتحقيق هذه السياسة، وكانت الحبشة تجوز يومئذ ظروفاً سيئة من تعاقب الثورات والخلافات الداخلية، وكان الغزو الأوربي قد استطاع أن يفذ إليها قبل ذلك بأعوام قلائل؛ ففي سنة 1868، نفذت حملة إنكليزية بقيادة نابيير إلى بلاد الحبشة لتعمل على إنقاذ بعض المبعوثين والرعايا الإنجليز الذين اعتقلتهم حكومة الحبشة وأبت إطلاق سراحهم، وكان المتغلب على الحبشة يومئذ زعيم يدعي كاساي، الذي تلقب باسم الملك (النجاشي) تيودور، فهزم واضطر إلى التسليم، وانتحر على أثر ذلك، وانسحب الإنكليز بعد أن أملوا شروطهم وحققوا غايتهم. وقام على عرش الحبشة النجاشي يوحنا الثاني، وفي عهده تقربت إيطاليا من الحبشة وعقدت معها صلات ودية وثيقة سرعان ما تحولت إلى نوع من الوصاية. واستمرت إيطاليا تعمل على تقوية نفوذها وسلطانها في الحبشة حتى توفي يوحنا الثاني سنة 1889 وخلفه منليك أمير شووا؛ وكان النير الإيطالي قد اشتدت وطأته يومئذ، وضعفت الحبشة واضطربت شئونها إلى حد استطاعت معه أن تفرض إيطاليا عليها معاهدة تقضي بوضعها تحت الحماية الإيطالية، وهي المعروفة بمعاهدة (أوشالي) (سنة 1889) وعندئذ تغلغل النفوذ الإيطالي في الحبشة، وسيطرت إيطاليا على شئونها ومصايرها، وأخذت تطمح إلى امتلاكها وضمها. ولكن شاء القدر أن يكون منليك، ذلك الأمير الذي ضاعت في عهده الحريات الحبشية هو نفس الأمير الذي يقوم بتحريرها من النير الأجنبي. ففي سنة 1895، اضطرمت الحبشة بثورة عظيمة ضد النفوذ الأجنبي بزعامة منليك، ونشبت الحرب بين الإيطاليين والأحباش، وهزم الإيطاليون هزيمة ساحقة في (عدوه) من أعمال ولاية تجري في قاصية شمال الحبشة، وذلك في أول مارس سنة 1896، وأرغمت إيطاليا على أن تعقد مع الحبشة معاهدة جديدة تعترف فيها باستقلالها (معاهدة تأديس أبابا)، وبذلك استردت الحبشة حرياتها التي لم يطل أمد ضياعها، وانهارت آمال الاستعمار الإيطالي؛ واستمر منليك الثاني، أو منليك الأكبر محرر الحبشة يسهر على ما يرها بقوة وعزم، ويسير بها في سبيل المدينة والإصلاح والتقدم حتى توفي سنة 1913. وفي عهده نظمت الحبشة علائقها مع الدول الأوربية، وعقدت معاهدة صداقة مع بريطانيا العظمى، واستطاعت أن ترغم الدول الاستعمارية على احترامها وعلى الحد من أطماعها
وفي سنة 1906 عقد بين إيطاليا وبريطانيا وفرنسا تحالف ثلاثي يقضي بالعمل المشترك لحماية أراضيها ومصالحها في تلك المنطقة، وهو تحالف تجدد في سنة 1925، ولما توفي منليك الثاني في سنة 1913، خلفه حفيده ابن ابنته (ليجي ياسو)، وقد كان أبوه الراس مخائيل مسلماً فتنصر تحقيقاً لأطماعه وتزوج من ابنة منليك. ثم نشبت الحرب الكبرى، واضطرمت الدسائس حول ليجي ياسو؛ واتهم بممالأة المسلمين الذين ينتمي إليهم بأصله ودمه، ثم اتهم بالارتداد عن النصرانية؛ ولكن الواقع أن ليجي ياسو كان يرى أن مصلحة الحبشة أثناء الحرب تقضي باتجاهها نحو التحالف الجرماني التركي وابتعادها عن دول الحلفاء؛ فخشي الحلفاء ولاسيما إنكلترا عاقبة هذا الاتجاه، وأخذت تعمل لإثارة الشعب الحبشي ضد أميره، وألفت في بطريرك الحبشة القبطي خير أداة لحياكة هذه الدسائس، فاستعمل الدين وسيلة لإضرام الثورة وألفى الزعماء المستقلون فرصتهم، وهزم ليجي ياسو بعد وقائع وخطوب جمة؛ وأعلنت (زوديتو) ابنة منليك لاكبرى إمبراطورة للحبشة، (سنة 1916) وعين الراس تافري ماكنن وصياً للعرش وولياً؛ وكان هو الملك وهو الحاكم، ولم يكن للإمبراطورة من السلطة الحقيقية شيء؛ وبعد بضعة أعوام أعلن الراس تافري نفسه إمبراطوراً إلى جانب الإمبراطورة زوديتو؛ ولما توفيت الإمبراطورة سنة 1930، استقل الراس تفري بعرش الحبشة باسم الإمبراطور (هيلي سلاسي)؛ وكان أعظم حادث سياسي في عهده انضمام الحبشة إلى عصبة الأمم. وفي عهده قطعت الحبشة مراحل عظيمة في سبيل التقدم والتجديد، وبذلت جهوداً كبيرة لتنظيم قواتها الدفاعية وتزويدها بوسائل التسليح الحديثة؛ ونظمت الحبشة علائقها السياسية والتجارية مع معظم الدول الأوربية، واستطاعت أن ترد عادية النفوذ الأجنبي عن استقلالها وحرياتها
ولكن السياسة الاستعمارية تعود اليوم فتتربص بالحبشة؛ وتعود إيطاليا فتتجه ببصرها وأطماعها إلى تلك المنطقة؛ وظاهر أن نشاط إيطاليا في الإرترية والسومال، وما تبدي هنالك من الاستعدادات الحربية، وأن زيارة ملك إيطاليا لهاتين المستعمرتين، وأن تحرش إيطاليا بالحبشة ومحاولتها أن تدفع حدود السومال إلى داخل الأراضي الحبشية مما أدى إلى حادث أولوال الدموي؛ ظاهر من ذلك كله أن إيطاليا مقبلة على تنفيذ خطة استعمارية جديدة في تلك المنطقة. ومما تجدر ملاحظته أولاً أن لفرنسا وإنجلترا مصالح هامة في تلك المنطقة، فإنكلترا تحتل السومال الإنكليزي، وتحتل فرنسا السومال الفرنسي وثغره جيبوتي الذي هو مخرج التجارة الحبشية من جهة البحر الأحمر، والذي يتصل بعاصمتها أديس أبابا بالسكة الحديدية. ولكن فرنسا وإنجلترا تلتزمان الصمت والجمود إزاء النشاط الإيطالي نحو الحبشة، ويبدو تحفظ إنكلترا وحيادها بنوع خاص في أمرها لمندوبها في السومال وهو الذي شهد معركة الحدود بين الأحباش والإيطاليين في أولوال ألا يتدخل في النزاع مطلقاً، وأن ينسحب إلى الداخل. ومن المعروف أن التحالف الذي عقد بين إيطاليا وفرنسا وإنكلترا في سنة 1906 , وجدد في سنة 1925 , ينص على اعتراف الدولتين بتفوق المصالح الإيطالية في الحبشة. ولكن ذلك لم يكن ليكفي لحيدة إنكلترا في معركة بين الاستعمار الإيطالي والحبشة، لو لم يتدخل في الموقف عامل خطير آخر، هو ظهور اليابان على المسرح. فاليابان تبذل منذ أعوام جهوداً جبارة لغزو الأسواق العالمية في الشرق والغرب، وقد استطاعت أن تنافس التجارة البريطانية في معظم الأسواق منافسة خطيرة، وأن تخلق لبريطانيا مشكلة اقتصادية عظيمة تهددها اليوم في تجارتها الإمبراطورية بأخطر العواقب؛ وظهرت اليابان في شرق أفريقية كما ظهرت في غيره، واستطاعت أن تغزو سوق الحبشة بسرعة، وأن تكسب عطفها وثقتها، حتى قيل بأن الإمبراطور ينوي أن يعهد في تدريب جيشه إلى خبراء عسكريين يابانيين. ولما كانت بريطانيا العظمى تعمل لإحباط هذا الغزو الياباني الخطر بكل ما وسعت، فقد رأت أن تطلق يد إيطاليا في المنطقة الحبشية لكي تعمل على مقاومة النفوذ الياباني، ورأت إيطاليا من جانبها أن تعمل لتحقيق مشاريعها الاستعمارية. وأما سكون فرنسا فيحمل على أنها ترى إرضاء التوسع الإيطالي في تلك المنطقة، مما يصرف نظر السياسة الإيطالية عن محاولة التوسع في منطقة بحيرة تشاد في السودان الغربي، ومما يهدئ ثورتها وأطماعها نوعاً؛ هذا ومن جهة أخرى، فإن إيطاليا تتطلع بنوع خاص إلى منطقة بحيرة تسانا الحبشية وإلى الانتفاع بمواردها، وبحيرة تسانا التي تغذي النيل الأزرق، وتعتبر من أهم منابع نهر النيل، تقع في شمال الحبشة على مقربة من الأريترية المستعمرة الإيطالية؛ وقد حاول بعض رجال المال الأمريكيين أن يباعوا من الحبشة امتيازاً باستغلال هذه المنطقة وكادوا يظفرون ببغيتهم رغم مقامة الساسة البريطانية؛ ولكن الإمبراطور هيلي سلاسي راى أخيراً أن يحتفظ بهذا المورد للحبشة؛ وإنكلترا تؤثر أن تقع هذه المنطقة تحت النفوذ الإيطالي إذا لم تستطع هي أن تبسط نفوذها عليها؛ وإيطاليا ترتب على التوسع في هذه المنطقة مشاريع زراعية واقتصادية كبرى
هذه هي ظروف المعركة التي يلوح لنا أن الاستعمار الإيطالي يعتزم أن يشهرها على الحبشة؛ وكحومة أديس أبابا ليست غافلة عن الخطر الذي يهددها، فهي تشعر بما وراء السياسة الإيطالية من المشاريع والمطامع. والحبشة كما ذكرنا من أعضاء عصبة الأمم؛ وقد رأت على أثر الحوادث الأخيرة أن تطلب إلى الحكومة الإيطالية قبول التحكيم معها إلى هيئة دولية؛ ولكن رومة رفضت هذا الاقتراح، ورفعت الحبشة الأمر إلى عصبة الأمم بالتطبيق للمادة الحادية عشرة من ميثاق العصبة وهي التي تنص على حالة خط الحرب الذي يهدد أحد أعضاء العصبة،
وعلى وجوب اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة لصون السلام. والظاهر أن حكومة رومة لا تحفل أيضاً بتدخل عصبة الأمم، وأنها ماضية في خطتها العدائية نحو الحبشة، لأنها تقدمت إلى حكومة أديس أبابا بطلب تعويضات وترضيات جديدة عن حادث أولوال. وليس من ريب أيضاً في أن الحبشة لم تلتجئ إلى عصبة الأمم إلا قياماً بواجبها الدولي، وأنها لا تعتمد على العصبة في رد شيء مما يهددها من عدوان الاستعمار الغربي، لأنها تعلم أن العصبة لا تملك شيئاً من الأمر؛ والحبشة تشعر بهذا الخطر وتقدره بلا ريب منذ بعيد، وتعمل دائماً على رده بكل ما وسعت. ومهما يكن من مظاهر القوة التي تبديها السياسة الفاشستية، فإنا لا نعتقد أنها قادرة على أن تغزو بالقوة المادية بلاداً وعزة كالحبشة، وعلى أن تخضع بالسيف شعباً شديد المراس كالشعب الحبشي، وفي وسع حكومة رومة أن تنظم من المظاهرات ما شاءت، ولكنها مازالت بلا ريب تذكر الدرس القاسي الذي ألقته الحبشة على الجيش الإيطالي في (عدوه)، من جيل فقط
محمد عبد الله عنان المحامي