مجلة الرسالة/العدد 769/هيئة الأمم تترنح وتتداعى
→ بين المهابة والعدل | مجلة الرسالة - العدد 769 هيئة الأمم تترنح وتتداعى [[مؤلف:|]] |
ومضات فكر ← |
بتاريخ: 29 - 03 - 1948 |
للأستاذ نقولا الحداد
مات مشروع التقسيم (تقسيم فلسطين) وماتت معه هيئة الأمم، ثم مات وليدها (مجلس الأمن). فإن تكن الأم وأبنها لم يموتا بعد فإنهما في حالة النزع. ولن يسير في جنازتها سوى بني إسرائيل الذين كانوا ينوون أن يجعلوهما مطيتين للوصول إلى عرش السيادة على العالم ولكن العناية الإلهية لا تشاء أن يكون سطح الكرة الارضية كله أرض الميعاد، ولا أن يكون أرض ميعاد على مدى الزمان. إن هؤلاء الناس قد خدعهم غرورهم وغرر بهم وعد موسى أولاً ثم وعد بلفور ثانياً. فمشوا في طريق وعر، فإذا هم يقعون في واد عميق تحطمت فيه آمالهم كلها.
ظننا أن الحرب الأخيرة كانت عبرة لساسة الأمم يتعلمون منها أن الجنس البشري لا يعمر على الأرض إلا على أساس السلام، وأن السلام لا تقوم له قائمة إلا على أساس العدل، وأن المرشد إلى العدل هو الضمير الصالح؛ كذا كنا نظن، فإذا بنا نرى حمامة السلام على الأرض مذبوحة تتخبط بدمها.
وكنا نظن ايضاً أن هؤلاء الساسة أدركوا في نور الحكمة السياسية أن الناس وهم أمم متفرقة يتعذر أن تتفق مصالحهم وتهمد غلواء مطامعهم في هذا العصر الذي تهدمت فيه الحدود بين المماليك، وأصبحت الأمم متشابكة في المعاملات رغم أنوفها، فيصعب أن يتفق ساستها على الأتحاد الاجتماعى، وأصطنعوا للجنس البشري كله نظاماً عاماً يربط بعضهم ببعض ويتفادون به الاحتكاك المثير لحروب عالمية. فإذا بنا نراهم يزيدون شقة الخلافات بينهم أتساعاً بحيث يستحيل الوئام والسلام.
ثم رأينا أنهم أنشئوا المنشأة العظمى - هيئة الأمم - ثم المنشأة الصغرى - مجلس الأمن - التابعة لها، فاستبشرنا باهتداء الوجدان العالمي إلى أن السبيل الوحيد إلى اتحاد الأمم وتفادي خصوماتها هو إنشاء دولة عالمية كبرى تجمع جميع الدول وتقيم لها نظاماً عادلاً عاماً ينصفها بعضها من بعض ويوزع أسباب المعايش لها جميعاً بالتساوي المتناسب. وأملنا أن العالم سيعيش في ظل هذا النظام الدولي بسلام متمتعاً بما أسبغ الله عليه من نعم الأرض.
هذه كانت أمنية جميع الناس المفكرين في كل دولة على الكرة الارضية.
ولكن وا أسفاه ما لبثنا أن رأينا أن (ريمة عادت إلى عادتها القديمة) - عاد التنازع الدولي أشد فجوراً منه قبل الحرب. رأينا أن هيئة الأمم ليست برلماناً دولياً كما كنا نظن، ولا مجلس الأمن وزارة دولية كما اعتقدنا، بل رأينا أن هذه الهيئة ليست إلا ساحة لاقتسام الغنائم، وأن اجتماعات بأشكال مختلفة، كل دولة على قدر مالها من حول وطوح، وإذا بالقوى يمعن بالنهب والسلب والضعيف المنهوب يصرخ متألماً من تمزق لحمه عن عظمه.
يعني أن هذا النظام الدولي الجديد لم يكن إلا محمياً شيطانياً جهنمياً ينذر العالم بثورة قادمة مآلها هلاك الجنس البشري أو انقراض المدنية على الأقل.
جعل الميثاق الإتلانتي دستوراً لهيئة الأمم. وهو يقضي بأن تلغى الانتدابات وتبطل الحمايات وتنتهي الاحتلالات ويترك لكل أمة أمر مصيرها تقرره بنفسها كما تشاء، وأن تكون حقوق الأمم كحقوق الإنسان، والحرية والإخاء والتساوي في الشؤون السياسية. وإذا بنا نرى مجلس هذه الهيئة يخالف جميع نصوص الميثاق من غير تورع وليس عنده حرمة لدستوره أو لأي قانون دولي.
فيسمح لإنكلترا مثلا أن تبقى جيوشها في مصر والسودان والعراق وغيرها. ويقرر بأن تذبح فلسطين وتشطر شطرين يعطى منهما شطر لشعب أفاق ململم من ممالك مختلفة لكي ينشئ لنفسه دولة جديدة دينية في فلسطين، في حين أن دساتير هذا العصر ى تعتبر الدين دولة أو مملكة.
لا لزوم لإيراد أمثلة أخرى لتمرد هذه الهيئة على دستورها وعلى الميثاق الذي استندت اليه. فكأنها حكومة عالمية. ولكن بلا دستور ولا قانون ولا وازع عن الاعتداء والطغيان.
ولا مستند لها في أحكامها إلا المطامع الأشعبية. فهل يمكن أن تستقر حكومة أو دولة أو هيئة دولية على أساس التناهب والإعتداء والجشع؟.
ما فقدت هيئة الأمم هيبتها بسبب أنها لا تحرز قوة لتنفيذ أحكامها، بل فقدت هيبتها لأنها فقدت ثقة العالم بها، وإلا لزودها العالم ببوليس دولي ينفذ قراراتها العادلة. ولكن العالم رأى أنها لا تستند إلى القوانين القويمة في أحكامها وخشى أن تتورط في الظلم والعسف فتاب عن تأييدها. ولهذا يتحفز العالم لنعيها.
إن التاريخ منذ نشوئه إلى مئات القرون التي عبرها يذيع بصوت جمهوري وبصراحة أنه ما من دولة أو مملكة صمدت جيلا أو بضعة أجيال على مخالفة القوانين القويمة ونقض النظم الصالحة بل كان الاستبداد والاعتساف ونقض القوانين أسباباً لتقوض أركانها وتداعي بنيانها وتضعضع كيانها.
إن هيئة الأمم هذه تترنح الآن متداعية للسقوط لذلك السبب عينه وهو السبب الطبيعي لسقوط كل بناء اجتماعي وهيئة ودولة ونظام بشري وحكم إنساني منذ نشأ الإنسان اجتماعياً إلى الآن.
فلنبك هذا النظام الاجتماعي العالمي (هيئة الأمم) الذي كنا ننشده ونتمنى أن يكون فتحاً جديداً لملوك السلام على الأرض.
ما أسخف هذا الإنسان.
بل ما اسخف اساطين الساسة هؤلاء.
إذا كان رجل واحد يضحي بالعدالة ويفادي بالسلام ويذبح الحق ذبحاً على مذبح أنانيته - إذا كان يفعل هذه وأكثر منها لكي يرقى إلى كرسي رئاسة الولايات المتحدة فهل تحسب هذا الرجل إنساناً صالحاً للحكم؟ هل يصلح هذا الرجل أن يدير شؤون أمة مؤلفة من 135 مليون نسمة في الدرجة العليا من الرقي؟ وبماذا نميز بين الرجل الذي يضحي بسلام العالم وأمن الأمم الصغيرة ومصالح شعبه الحيوية على مذبح شهوته وغرامه بالرئاسة - بماذا نميزه عن إبليس الرجيم؟
لا يتورع عن أن يرصد 300 بليون ريال لحرب قادمة قد تكون ماحقة ساحقة. لا يتورع بأن يغتصب من ملايين الأمة هذه البلايين لكي يجعلها وقيداً لملايين الشباب في حرب أصارها على الأبواب.
مهلا يا هذا إلى أن يتنفس العالم الصعداء بعد هلاك الملايين من الأرواح وضياع الملايين من الأهوال. مهلا إلى أن يشبع الجائع ويدفأ العريان ويرتاح المتعب.
إن عصر الآلات الذي نحن فيه كفيل بأن يعيش الناس كلهم برغد في عمل اسبوع واحد من كل شهر وأن يرتاحوا أربعة أسابيع. ولكن هؤلاء الساسة الشرار لا يتورعون أن يستغلوا الناس شهراً كاملا لكي ينفقوا تسعة أعشار نتاجه في التقتيل والتخريب.
من أين يأتي ترومان بثلاث مائة بليون لأجل الحرب؟ أليس من مجهود قومه في العمل مدة 30 يوماً في كل شهر.
ليست هذه الجريمة جريمة ترومان وحده، بل هي جريمة كل سياسي من ساسة العالم الذين يلعبون بشؤون الأمم.
لقد نكب العالم بطبقة من الناس ليست على قدر كاف من العلم ولا على شئ من الحكمة ولا على ذرة من الضمير الصالح.
ألا رحمة الله على أفلاطون الذي توصل بحكمته (فلسفته إلى معرفة أن الدولة لا تصلح لإدارة شؤون الأمة ولا تعيش طويلا إلا إذا تولى أمورها فلاسفة. لأن الفلاسفة تنطبع نفوسهم على حب العدالة بحكم فلسفتهم. وإدارة الدولة لا تحتاج إلا إلى كثير من العدالة وقليل من العلم.
الأمم الآن فقيرة بفلسفة أفلاطون وغنية بفلسفة نيتشه الذي نادى بالسورمان (الإنسان المتفوق). فتفوق من أتباعه على غرار فلسفته غليوم الثاني وهتلر الأول. فذهبا ضحية فلسفته - رحم الله الثلاثة جميعاً.
نقولا الحداد.