الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 769/القصص

مجلة الرسالة/العدد 769/القصص

مجلة الرسالة - العدد 769 القصص
المؤلف: أنطون تشيخوف
المترجم: مصطفى جميل مرسي
طبيعة مبهمة Загадочная натура هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1883. نشرت هذه الترجمة في العدد 769 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 29 مارس 1948



طبيعة مبهمة!

للكاتب الروسي أنطون تشيكوف

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

مالت السيدة الوضيئة جانباً، وهي جالسة على مقعد وثير مغطى بالمخمل الأحمر في عربة فاخرة من عربات السكة الحديدية!. وقد ضمت أناملها البضة الرقيقة مروحة مريشة أنيقة الصنع رائعة الوشى. . . راحت تهتز وتتراقص عن يمين تارة وعن شمال!. .

وطفق المنظار المعلق على أنفها الدقيق الفاتن لا يقر له قرار، بينما بدت (الحلية الماسية) مشرقة تتألق على جيدها كزورق يسبح في ماء المحيط!. .

وجلس في مقعد قبالتها الناموس الإقليمي للجمعيات الخاصة وهو شاب حديث المنبت في الأدب، يخرج على القوم بين حين وحين بقصص طوال - من النسق الرفيع كما يحلو له أن يسميها - ينشرها في جريدة الإقليم. .

راح يحملق في صفحة وجهها، ويحدق عن قصد لا يحول. . بعين العارف الخبير! إنه يتأمل ويدرس. . ويتصيد ظلالا عابرة وأطيافاً حائرة بين ثنايا هذه الطبيعة المبهمة، والغموض يكتنفها!، إنه يحاول أن يفهمها ويسبر غورها. . . فروحها ونفسها. . . كلتاهما مبسوطة بينه الجلاء أمام ناظريه. . .

ثم لم يلبث أن قال لها، وهو يلثم رسغها البض على مقربة من السوار!.

(أه. . . لقد أدركت!. أدركت إلى أبعد مدى ما يدور بين جوانحك. . إن روحك ذات الحس المرهف والأمل الطامح. . تسعى في سبيل الخلاص من ربقة الحيرة الطاغية، والفكاك من أسر القاتل! إنه لصراع عنيف (نضال مخيف! ولكن تمالكي روعك وأمسكي عليك صوابك وتذرعي بالصبر فلسوف يأتيك الفوز من حيث لا تعلمين. . . أجل!)

فقالت السيدة الأنيقة في صوت خفيض مضطرب النبرات، وقد علت وجهها بسمة حزينة: (أكتب عني يا (فلدمار). . .

إن حياتي عامرة مختلفة ألوانها!. زاخرة بالمال والذهب. . بيد أني - على الرغم من ذاك - لا أذوق للسعادة طعماً، ولا أجد الهناءة إلا حلماً!. ما أنا إلا نفسي معذبة وروح شقية في صفحة من صفحات (دستوفسكي)!.

(عرف العالم بهذه النفس يا (فلدمار)، وأذع خبر هذه الروح ذات الحظ العاثر والطالع النحس!. لقد أوشكت أن تبلغ من قلبي مبلغاً عظيماً. ولعلك لا تجدني بعد ساعة في هذا القطار) - خبرني!. ناشدتك الله. . . خبريني!.)

- (أعرني مسمعيك. . . لقد كان أبي كاتباً في (الخدمة) قتر عليه رزقه. . وكان ذا قلب تعمره الطيبة ويفيض عطفاً وحنواً وذا عقل ليس بالعاطل من الفطنة والمعرفة. . بيد أن الزمام أفلت من بناته وهو في غاية العمر، وتنكب جادة الرشد وهو على شفا القبر!. . فأدمن الخمر وأغرق في الميسر. . وأمتدت يده إلى الرشوة فلوثها دنسها!. وأني لا أضمر له لوماً. . بل طالما رثيت له وأشفقت عليه!.

وأمي! - ولكن ما الذي يدعوني إلى أن أمضي في هذا!. المتربة والعوز. . والنضال المرير في سبيل لقمة تسد الرمق!. . والمشاعر التي تكتنف المرء لإحساسه بتفاهة شأنه وحقارة أمره في موكب الحياة الصاخب! أوه! دعني. . لا تدفعني إلى أن أبعث هذه الذكريات وأثير تلك الشجون. . . لقد جاهدت في أن أشق سبيلي وأنت أدرى بحال التعليم في تلك المعاهد التي تأوي من يطلب العلم فيها، وما يجتاح الشباب - وهو يتفتح - من حماقات ونوات. . ثم هذه الخفقات الأولى بين الضلوع. . . للحب الوليد! إن ذلك لرهيب مهيب!. الحيرة والأضطراب، وتلك الآلام المبرحة التي تحز في نفسي حزاً عند من يفقد يقينه بالحياة!. . .

أوه إنك مؤلف!. وتدرك ما يفعم قلوبنا. . معشر النساء! لسوف تفهم كل شئ!. كم كنت تعسة شقية!: أتلمس السعادة وأي سعادة! وأتوق إلى أن أطلق لروحي عنان الحرية! أجل فها هنا. . . تكمن سعادتي وتستكن راحتي!.)

فغمغم (المؤلف). . وهو ينهال على رسغها العاجي فيلثمه مرة أخرى عند السوار!. (يا لك من مخلوق رائع! إني لا أقبلك أنت. . . بل أحي فيك الإنسانة المعذبة. . ألا تذكرين (رسكولنكوف) وبقبلته الخالدة!. .)

- (أوه. . . يا فلدمار. . إني لتواقة إلى المجد، مشوقة إلى الرفعة ظامئة إلى الشهرة! إني لأحن إلى أمر غير هذه الأمور التي لا تفتأ تدور على وتيرة واحدة. . . أمر غريب عجيب لا تألفه النساء!.

وبعد هذا!. ألفت إلى المقادير قائداً عجوزاً عظيم الثراء وافر النعمة!. هلا فهمتني يا فلدمار. لقد كانت تضحية بالنفس وأي تضحية!. وإنكاراً للذات وأي إنكار! ينبغي أن تعلم هذا!

لم يكن بوسعي أمر غيره فقد علقت (الأسرة) آمالها وعقدت أمانيها على أن أقبله. كم عانيت منه فلشد ما أثار سخطي وأهاج بغضي فقد كان عناقه شيئاً كريهاً وحديثه تافه النفس.

وكنت - على الرغم مني - أظهر له اللطف وأتكلف الرقة؛ إنها لحظات مريعة. بيد أن الرجاء كان يراود نفسي والأمل يداعبها فأمنيها اليوم الذي يوارى الرجل فيه التراب ويضمه اللحد حينئذ سوف يخلو سبيلي، فأحيا كما يروق لي وأهب نفسي إلى الإنسان الذي أعبده سعيدة راضية لا مجال للريب في أنه ثمة إنسان يقع من النفس موقع الشغف يا فلدمار).

وراحت السيدة الوضيئة تحرك مروحتها في شئ من العنف وبدا وجهها وكأنما اتخذت سماته الأهبة للبكاء، ومضت في حديثها مستأنفة (وأخيراً خمدت أنفاس الرجل وذاق منيته فحلق لي نصيباً ليس باليسير. لقد صرت طليقة كالطائر الذي يحوم في جو السماء فيقع على ما يهوى إنها الساعة التي حانت فيها سعادتي أليس كذلك يا فلدمار؟ لقد أقبلت السعادة تطرق نافذتي ولم يكن علي إلا أدعها تدخل.

ولكن أسمع يا فلدمار ففي هذه اللحظة التي كنت فيها أسعى لرجل الذي أهيم به حباً لأهبه نفسي وأصبح شريكة حياته، وساعد عون له وناصره لشوكته فأسعد به وأستريح اليه.

في هذه اللحظة تبددت الأوهام وطارت الأحلام شعاعاً. وإن حياتنا حقيرة تمجها النفس، تافهة لا معنى لها. إني بائسة أشد البؤس، يائسة أبلغ اليأس. . .!

لقد كانت ثمة عقبة أخرى في سبيلي فلما أنثنيت أتلمس السعادة إذا بها نائية عني بعيدة كل البعد. . . أوه! ما اشد هذا ألما وتبريحاً لو أنك تحس هذا الألم وتستشعر ذاك العذاب).

- (ولكن ما الذي قام في سبيلك ونهض في وجهك هذه المرة؟! بالله خبريني ما هو؟!).

- (قائد عجوز آخر واسع الثراء ف: اني مثل الذي فر من الموت، وفي الموت وقع).

وأنسدلت المروحة (المحطة) على الوجه الوضئ، وأعتمد (المؤلف) رأسه الضخم على راحة يده وأغرق في لجة من الفكر وقد لاح في هيئة الفيلسوف الحكيم.

وانطلقت القاطرة تدوي بصفيرها وصليلها بينما اصطبغت سجف النافذة بالحمرة الموردة وقد أشاعتها الشمس الغاربة!.

(الدقي)

مصطفى جميل مرسي