مجلة الرسالة/العدد 768/هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
→ شخصيات عباسية: | مجلة الرسالة - العدد 768 هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟ [[مؤلف:|]] |
زواج تولستوي ← |
بتاريخ: 22 - 03 - 1948 |
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
(تتمة)
وأقول رداً على هذا الدفع أنه بغض عما إذا كان التعدد في ذاته من حيث المبدأ خصوصية للنبي أو أن الزيادة على الأربع فيه هي وحدها الخصوصية فإن ما سبق أن سقته من الإشارة إلى الأحاديث المذكورة إنما كان للاستدلال على أن المولى جل شأنه لم يكلف إلا بالعدل المستطاع بين الزوجات المتعددات، وقد رددت فيما تقدم على ما ذكره معاليه من أن ذلك كان حكماً وقتياً. أما قوله أن النبي قد أعفى من تكليف العدل فجوابه أنه ثابت بالآثار المستفيضة أنه كان عليه السلام يحافظ على القسم بين زوجاته بالرغم من رفع التكليف عنه بذلك. وقد بين عليه السلام القسم على النحو الوارد في تلك الأحاديث فوجب على المسلمين الافتداء به في ذلك. ويؤيد هذا الآثار الواردة عن بعض الصحابة - ومنهم عمر رضي الله عنه وهو من علم تشدده في مراعاة أحكام الدين - بمعنى القسم على النحو الوارد في السنة مما يدل على إنهم كانوا يرون أنهم غير مكلفين إلا بما كلف نفسه به النبي من العدل المستطاع. هذا وقد ختم معالي الباشا رده على الاعتراض المذكور، بمعارضته بأنه إن فرض أن آية (وأن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا) مسوقة للتصريح بتعديد النساء إلى أربع فقط فإنها تقرر أيضاً وجوب الاقتصار على الواحدة عند خوف عدم العدل فلماذا لم يأمر النبي الناس بمفارقة ما زاد على واحدة لأن خوف عدم العدل يملأ كل نفس حتى نفس النبي، واقتصر على أمرهم بما هو مقتضى الشق الأول من النص أي بعدم الزيادة على الأربع وأردف هذه المعارضة بقوله (أن هذا يجعلنا نرتاب أشد الارتياب في صدق تلك الأحاديث التي يحتجون بها).
والحقيقة أن ليس فيما ورده أية مدعاة للارتياب لأنه إن أراد بالعدل هنا العدل المستطاع فليس مرد القول بالخوف من عدمه إلى النبي بالنظر إلى غيره، وإنما مرده إلى الشخص نفسه وما يشعر به من قدرته أو عدمها على إجراء هذا العدل، وهذه مسألة نسبية تختلف باختلاف الأشخاص وأحوال كل وظروفه، فلم يكن للنبي إذن ما يأمر به فيها زيادة على ما ورد في الكتابة وقد كان عليه السلام يقول في مثل هذه الأمور (سل قلبك ولو أفتوك). أ إن أراد به العدل المطلق (وهو ما يظهر أنه مراده بدليل قوله أن الخوف من عدمه كان يملأ قلب النبي نفسه) فإن معارضته مدفوعة حينئذ بأنها مصادرة على المطلوب على الوجه الذي بينته فيما تقدم، وفيها - عدا ذلك - حجة عليه لا له، وهي أن عدم ورود أمر من النبي للناس بمفارقة ما زاد على الواحدة عند نزول الآية دليل على أن العدل المشروط فيها لجواز التعدد ليس هو العدل المطلق وإلا لأمر بمفارقة ما زاد على الواحدة للقطع بخوف الجميع عدم هذا العدل.
12 - الاعتراض الرابع
إن الأمة قاطبة قد أجمعت قولاً وعملاً منذ عصر النبوة حتى اليوم على حل تعدد الزوجات في الإسلام؛ فهل كانوا جميعاً بما فيهم الصحابة والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم غير عالمين ولا فاهمين لحقيقة ما ورد به الشرع من تحريم ذلك؟ أم كانوا محلين لما حرم الله؟
وقد حاول معالي الباشا دفع هذا الاعتراض بأن الإجماع الذي يسري على المسلم ديانة له صور ثلاث: الأولى أن يقوم في أساسه على نصوص قرآنية مسلم بصحة قيامه عليها مباشرة أو بطريق القياس الصحيح. والثانية أن يقوم على سنة نبوية يطمئن الضمير على صحتها وإلى صحة قيامه عليها مباشرة أو بالقياس الصحيح كذلك. والثالثة أن يكون إقراراً من الناس كافة لعادة من المباحات لم يأمر بها كتاب ولا سنة ولم يمنع منها كتاب ولا سنة مباشرة ولا بالقياس. هذه الصورة الثالثة هي التي يصح أن يطلق عليها اصطلاح (الإجماع) أما الصورتان الأولى والثانية فإن الدليل الشرعي فيهما ليس هو إجماع الناس إنما هو نص الكتاب لو السنة أو القياس الصحيح على نص أيهما. والمسألة التي نحن بصددها غير مقول أن فيها إجماعاً من قبيل الاصطلاح المذكور بالصورة الثالثة؛ بل يقولون أن الإجماع فيها قائم على العمل مباشرة بقوله تعالى: (فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع) وقوله من بعد (فلا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلقة) ولا شك أن الحكم ما دام مرده إلى النص فإن لكل مسلم وإن انصاع قضاء للإجماع المرتب عليه؛ أن يعترض ويبين ما يعتقده في الأساس من خطأ التأويل.
وردي على هذا الدفع أن المتفق عليه بين القائلين بحجية الإجماع - وهم جمهور مجتهدي الأمة المعتد بآرائهم في ذلك لتأيدها بما جرى عليه العمل فعلاً في عهد الصحابة من الاحتجاج بالإجماع والتقيد بما أقره من أحكام - أنه لا بد أن يكون له سند من النص أو القياس بمعناه الواسع الشامل للاستنباط من عمومات الشريعة.
وعلى ذلك فالصورتان الأولى والثانية من الصور الثلاث التي ذكرها الباشا هي من صور الإجماع لا محالة؛ وثمرة وجود الإجماع في هاتين الصورتين - إلى جانب سنده من النص أو القياس عليه - أن هذا السند قد يكون ظني الثبوت (كما هو الحال بالنسبة لأحاديث الآحاد ومعظم السنن منها كما هو معروف) وقد يكون ظني الدلالة (كما هو الشأن في النصوص المحتملة بظاهرها لأكثر من معنى واحد، وكما هو الشأن في القياس) وقد يكون ظني الثبوت والدلالة معاً (كما هو الشأن في بعض أحاديث الآحاد التي تحتمل بظاهرها أكثر من معنى واحد؛ أو التي يظهر بينها وبين نصوص أخرى من الكتاب أو السنة وجه تعارض) والإجماع حجة قاطعة؛ فإذا ما أقر في عصر من العصور حكماً مستنبطاً من النص نفسه أو مقيساً عليه أصبح هذا الحكم مما تحرم؟؟ مخالفته ولا يكون النص بعد ذلك محل اجتهاد، فلا يحل بعد ذلك لمسلم مخالفته بدعوى أن سند الإجماع محل اجتهاد، وإنما يحل في هذه الحالة قبل نعقاد الإجماع.
هذه هي ثمرة وجود الإجماع مع النص؛ فهو - إذا سلم معنا الباشا بحجيته وانعقاده في هذا الموضوع - مانع لمعاليه من التأويل فيما تأول فيه من النصوص بما يخالف ذلك الإجماع، ومانع للمسلمين كافة من الأخذ برأيه في ذلك إن هو أصر عليه بعد هذا البيان.
هذا ولا يفوتني أن أنبه هنا إلى ما هو الحق في نقطة أثارها الباشا في بحثه ومن شأنها أن توجب بعض اللبس على الناس في صحة انعقاد الإجماع على هذه المسألة، فقد قرر أن بعض المتطرفين قالوا بجواز التعدد إلى تسع وبعضهم إلى ثماني عشرة مستندين إلى تفسيرهم لعبارة (وثنى وثلاث ورباع) بما يوافق ذلك. والحق أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا القول بل كل ما نقل عنهم يفيد العكس أي أن الحكم الشرعي جواز التعدد إلى الأربع فحسب. فإجماعهم إذن لم يخرقه أحد، وقد قررت ذلك صراحة معظم كتب الحديث والتفسير فليرجع إليها من يشاء كما نقل هذا الإجماع عدة من الثقات في هذا الباب. أما مخالفة ذلك النفر ممن سلم الباشا بتطرفهم وسفه رأيهم؛ فهي - إن ثبتت - فلا يعتد بها من خرق الإجماع المذكور لأنهم وجدوا بعد انعقاد الإجماع على هذه المسألة واستقراره بانتهاء العصر الذي انعقد فيه؛ وذلك لأن هذا الرأي منسوب إلى بعض الظاهرية وهؤلاء لم يوجدوا إلا بعد عصر الصحابة. على أن شيوخ هذا المذهب أنكروا صدور هذا الرأي عن أحد ممن ينتمون إليهم؛ فثبوت قولهم به إن محل نظر. وحتى على التسليم جدلاً بأن خلافهم ثابت وأنه قادح في هذا الإجماع؛ فأن قدحه لا يتناول منه إلا إفادة الآية لتقييد التعدد بالأربع؛ فهو يمس ناحية الحظر في التعدد لا ناحية الإباحة التي تظل بعد ذلك قدراً متفقاً على انعقاد الإجماع على دلالة الآية عليه، وهو ما يخالف رأي الباشا القائم على الحظر وعلى أن عبارة (مثنى وثلاث ورُباع) مفيدة بظاهرها الإباحة المطلقة للتعدد الجزاف وإنها - مع ذلك - ليس مقصوداً بها حل التعدد مطلقاً ولا تفيد هذا الحكم بحقيقتها، فرأيه إذن مخالف للقدر المتفق على انعقاد الإجماع عليه قطعاً في جميع العصور. . .
ولمعالي الباشا أيضاً في دفع هذا الاعتراض - فيما يتصل بالإجماع العلمي قصة عجيبة مسلسلة الحلقات قوامها أن فترة الإسلام الأولى منذ الهجرة حتى آخر الدولة الأموية كانت عهداً مليئاً بحروب المسلمين وفتوحاتهم (والجنود في كل أمة يدللون ويتجازون لهم عن كثير من الآثام في مقابل أنهم وهبوا حياتهم. . .) والشباب من جند المسلمين كانت تتنبه فيهم الغريزة الجنسية في فترات الفراغ والراحة بين المواقع الحربية ولا سبيل لهم إلى إجابة داعيها بغير التزوج لأن الزنا محرم (لكنهم كانوا) إذ أراد الواحد منهم بعد إحدى الوقائع أن يتزوج فوق من تزوجها بعد واقعة سابقة - كانوا يجدون قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) مانعاً من التعدد. . . ولكنهم من جهة أخرى يعرفون أن آباءهم وأجدادهم المسلمين متزوجون قبل وفاة النبي (أو كانوا في حياته وقبل وفاتهم هم متزوجين) بعدة من النساء ليس عليهم (أو ما كان عليهم) إلا العدل بينهن بقدر الاستطاعة عملاً بقوله تعالى فلا تميلوا - الآية، فيتأففون لسلبهم ميزة التعدد لمجرد تأخرهم في الوجود عمن أبقيت لهم هذه الميزة وهؤلاء كانوا من القاعدين عن القتال لتقدم السن بهم، لذلك كان الشباب المجاهدون يرون أنفسهم أجدر بهذه الميزة ممن خصوا بها مما دفعهم (إلى التحلل من حكم الآية، والى تعديد النساء واغتفر أولوا الحل والعقد للجنود هذا التجاوز. . . وبديهي أن السياسة الشرعية ما كانت تأبى هذا الاغتفار لأن النفع الذي كان يحدث للدين الإسلامي من استرضاء الجندي وتحصينه من الزنا أكثر بكثير من إثم التعدد) (استمر الجنود إذن على التعدد كما إخال، ولكنهم في ديانة الاقتصار على واحدة، فما العمل؟ لم يعدموا من يهون عليهم هذا الوضع بالحيل الشرعية) فتلمسها لهم المتلمسون في لفظ (رباع) في الآية وحللوا لهم الأربع وألزموهم الوقوف عندها وكان لهم في السبيات الجميلات اللاتي توزعهن ملكاً لهم ما يغني عن التزوج زيادة عن الأربع بالمهيرات الثقيلات النفقة من الحرائر (ولولا هذه الظروف المسهلة لما تنازل الجنود عن التعدد ولاستحلوه إلى ما فوق الأربع ولوجدوا من يعينهم على هذا. . .)
(ولقد يخيل إلي (هذا نص كلام معاليه) أن أولئك الجنود الذين استنوا تلك السنة قد شايعتهم عليها أهلوهم (المتخلفون عن القتال ممن كان سارياً عليهم حكم (فلا تميلوا) والذين كانوا - مع ذلك - بحاجة إلى (الاستزادة من الأزواج فوق الواحدة الباقية ممن كن عندهم وقت نزول هذه العبارة، فكان من مصلحة الجميع المبادرة إلى تحبيذ سنة الجنود إلى تعميمها والسياسة الشرعية أيضاً كانت ترى المصلحة في هذه المناصرة، وذك لأن الحرب تهلك الجنود وتقلل عدد المواطنين، ومن الواجب التغاضي عن العمل بالواحدة في حق المتخلفين (أي عن القتال) وإباحة تعديد زوجاتهم بزيادة النسل. . .)
(استمرت إذن عادة الأربع. . . ودامت بدوام الحروب والثورات في القرنين الأول والثاني) فلما جاء عصر التدوين في آخر الثاني وأوائل الثالث كانت قد صارت من التقاليد القديمة المستقرة المحببة إلى المسلمين والملائمة لغرائزهم الموروثة. . . فاضطر الفقهاء في كثير منالجهات إلى مسايرتها وتدوين الواقع من متابعة الناس لها وتساهلوا في تأويل سندها القرآني كما تساهل فيه المحاربون الأولون. . وما كان في استطاعتهم غير هذا خصوصاً وليست المسألة من العقائد التي تدعو إلى التحرج ونبذ المسايرات)
ذلك تلخيص القصة التي أوردها معاليه لما قصد دفعه من هذا الاعتراض وقد أدعمنا هذا التلخيص وبنصوص كلامه نفسها كيلا تتسرب إلى القراء أدنى شك في صحة نقلنا، وندع لحضراتهم بعد ذلك الحكم على قيمة هذا الاتهام الخطير الذي تناول بالتأثيم - على الأقل - جميع الصحابة والخلفاء الراشدين والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين وفقهاء المذاهب في جميع الأزمنة والعصور، إن لم يكن بارتكاب المحرم فبإقراره بالتغاضي والسكوت عنه طوراً وابتكار الحيل التأويلية للنصوص طوراً آخر، ثم ينشر ذلك على الناس أخيراً في عهد التدوين على أنه حكم الله في هذا الموضوع متغافلين - طبعاً - عن أنهم مسؤولون أمام الله عما أحدثوه من هذا الحدث الخطير وهذه (الجريمة المستمرة) في الإسلام بالخرق لأحكامه وتقريرهم الحرام للناس على أنه حكم الله فيما أحل ليتبعوه فاتبعوه فعلاً - في رأي معال الباشا حتى يومنا هذا، ومتغافلين عن القاعدة التي قرروها استنباطاً من عمومات الشريعة وهي أن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وعما توعد به الله من يحكم بالهوى وبغير ما أنزله.
وإنما قلت فيما تقدم أن رأي الباشا يتنازل بالتأثيم جميع من ذكرت (على الأقل) لأن الوقائع الحربية لم تبدأ منذ عهد الصحابة بل بدأت في عهد النبي عليه السلام كما هو معروف. . .
وأخيراً أدع لحضرات القراء الحكم على رأي هذا سناده في تأويل القرآن بما يخالف المتفق عليه في تفسيره، ورد السنن المؤيدة لهذا التفسير، وتسفيه الإجماع المقرر لكل ذلكقولاً وعملاً. والله أحكم الحاكمين.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد