الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 767/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 767/من وراء المنظار

بتاريخ: 15 - 03 - 1948


صدقة ترفض

الصباح بارد الأنفاس يلذع نسيمه الوجوه وينفذ إلى العظم، والأرض مبتلة من أثر مطر خفيف، وليس خارج داره بل ليس خارج فراشه إلا من يغدو إلى عمله فما يملك أن يتراخى أو يقعد.

ووقفت أنتظر إحدى السيارات العامة، وأنقل بصري في وجوه السابلة أرى كيف يسعى الناس سعيهم في سبيل العيش، وكيف تقوم الحياة في المدينة على كدح من لا يأبه لهم، وأتبين ذلك الجد المحبوب في خطوات الناس وفي صفحات وجوههم الصابرة الشاحبة التي محا الإشراق منا الغلاء والكدح. . .

وانعطف أحد بائعي اللبن على عجلته المثقلة بصفائحه من أحد الشوارع وهو غلام في نحو الثامنة عشرة، فما كاد يستقيم حيث أقف حتى أنزلقت به العجلة فوقعت على الأرض، وهوى المسكين على جنبه واللبن يتدفق فيجري على الأسفلت دفاقاً. . .

وخف إليه بعض السابلة فأنهضوه ورفعوا العجلة يحفظون ما بقي من اللبن، وراح بعضهم يحوقل، وراح البعض يمص شفتيه يظهر الأسف، ولكن لم يخل الحال من ماجنين راحوا يصيحون من هنا ومن هناك: عليه ميه. . . عليه ميه! وأخذوا يضحكون في غير مبالاة كأنما يشتمون من الغلام شماتة الواثق من أنه أضاف إلى اللبن ماء. . .

وذهل الغلام عن نفسه لحظة ثم نظر إلى اللبن يجري بين يديه ومن خلفه، فما أحسبه والله لو أنه كان ينظر إلى دمه يجري هكذا على الأرض ما كان يبدو أكثر مما بدا جزعاً وهلعاً. . . لقد كانت ترتعد فرائص المسكين كأن بهما زلزلة، وكأن مفاصله لا تقوى على حمله، وكان يمسك العجلة بيد مرتجفة ويلطم وجهه بالأخرى وفي هذا الوجه صفرة كصفرة الموتى. . . ثم كان يصرخ بين الفينة والفينة صرخة أشبه بصرخة الثاكلة تزفر النار على كبدها ويرمض الحزن مهجتها، وكان يلفظ لفظة من ألفاظ الثكالى يعبر بها عن ألمه. . .

ورأيتني على رغمي أمام صورة من صور الفزع الإنساني اشمئز منها خاطري وتحرك لها قلبي، ففيها مع الخوف الذلة والمكنة وما أثقل على قلبي رؤية ضعيف في موقف الضعف فما بالك بموقف الفجيعة والخوف.

وأدخل بعضنا أيديهم في جيوبهم ثم مدوها بما جادوا به إلى فتى نبأتني كتبه ودفاتره أنه من الطلبة، تولى جمع صدقة لذلك المكين واجتمع عدد من السابلة يواسونه بكلماتهم التي كان يمجها سمعه فما فيها غناء تلقاء هذه الكارثة. . . ودنا منه أحدهم وهو شاب في ملابس العمال فقال له في لهجة قوية. وماذا جرى حتى تفعل هذا كله. . . عيب. . . أسكت. . . خليك جدع. . . وقال المسكين: سيطردني الخواجة فلا أجد عملاً. . . واقترب منه عدد من العمال وفي يد كل منهم بعض أدوات حرفته أو منديل طعامه، وكان جميعاً يستشعرون العار مما يفعل، فكانوا يطلبون إليه أن يكف وهو في حيرة من أمثال كلماتهم. . . (بلاش عبط) (خليك عاقل و (إيه يعني) وإضرابها لا يرى فيها حلاً لورطته القطيعة. . .

ونظر هؤلاء العمال إلى ذلك الطالب الذي كان يجمع الصدقة، فارتاحت نفوسهم، وإن بدا شيء من الخجل في وجوه بعضهم؛ ومشى الطالب إلى كهل بادي الوجاهة شهد الحادث من أوله، فرجا منه أن يجود بشيء؛ فتكره لح واحمر من الغضب وجهه، وحار لحظة ماذا يذكر من علة للرفض؟ ثم انفرجت شفتاه الغليظتان الصارمتان عن قوله، وهو يشير إلى اللبن بسبابته: من غير شك دا عليه ميه!

وضحكت، وما كان أحوجني إلى الضحك ساعتئذ، فقد أثقل الألم قلبي. . . ونظر إليه العمال نظرات كريهة، ومشى الطالب إلى بائع اللبن المسكين يعطيه ما جمع له، فما كان أشد عجبي أن رأيت أحد هؤلاء العمال يعود إلينا بتلك القروش ويطلب إلى كل منا أن يسترد ما أعطى؛ ونظرت فإذا بهم يخرجون أيديهم من جيوبهم الفقيرة بالقروش يدفعونها للغلام المسكين ويكفكفون بها دمعه، ومضيت وما سرى عن قلبي ما أثقله إلا ما في عملهم هذا من مغزى: لقد رفضوا الصدقة التي صحبها الأذى واحلوا محلها العون، وقالوا لنا، وإن لم ينطقوا: لسنا في حاجة إلى عطفكم وأن كنتم إلى سعينا وكدحنا أبداً محتاجين. .

الخفيف