مجلة الرسالة/العدد 767/حول كتاب (عثمان)
→ من مذكراتي اليومية: | مجلة الرسالة - العدد 767 حول كتاب (عثمان) [[مؤلف:|]] |
الحمادون الثلاثة ← |
بتاريخ: 15 - 03 - 1948 |
حكومة النبي وخلفائه
للأستاذ عباس محمود العقاد
(يقول. . . الدكتور طه حسين في كتابه عثمان! (إن حكومة الرسول والخلفاء الراشدين من بعده كانت وضعيته وليس للدين الإسلامي يد فيها. ويستنتج من هذا أن لا فرق بين المسيحية والإسلام من هذه الوجهة وأعنى نظام الحكم والمجتمع، ويأتي بدليل قوله تعالى: وشاورهم في الأمر ويقصد الأمور الدنيوية بأسرها. . .
(ولكن ألم يقرأ قوله تعالى عز من قائل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
(هل كانت حكومة المسلمين من وضع محمد عليه الصلاة والسلام دون إيحاء من رب السماء؟ وهل كان أبو بكر وعمر يقومان بأعمالهما من تلقاء نفسيهما وليست هي من جوهر الإسلام في شيء؟ وهل كان عمر رضي الله عنه يقصد من قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء). . . أقول هل كان يقصد الأموال بأنواعها كما يعتقد الدكتور، أو يقصد الزكاة والصدقات؟
أرجو إيضاح ذلك على صفحات الرسالة الغراء. . . الخ
(الأعظمية)
عبد الكريم الوهاب
جاءنا هذا الكتاب فحذفنا منه بعض العبارات التي لا تدخل في السؤال، واكتفينا منه بما نشرناه.
والذي نراه أن الأديب صاحب السؤال قد ظلم الفكرة التي نقلها عن كتاب عثمان، لأن الدكتور طه حسين لم يقل شيئاً مما فهمه في سؤاله، وكل ما يفهم من كلام الدكتور طه أن حكومة النبي عليه السلام لم تكن حكومة (ثيوقراطية) أي حكومة تستأثر بها طائفة من الكهان والأحبار ولا تشرك فيها الأمة برأي في اختيار الحاكم وتقرير الأحكام.
وهذا في رأينا صحيح.
فمسألة الحكم في الإسلام حق لجميع المسلمين يتولاه من يصلح له وتتفق جمهرة المسلمي على صلاحه. وليس العالم بالفقه فيه إلا كالعالم بأصول الحكم في هذه الأيام، يختار لحاجة المجتمع إلى هذه الأصول، ولا يختار لأن علمه يجعل الولاية حكراً له أو حقاً محصوراً فيه وفي طائفة من أمثاله.
وليس رأي المسلمين في صلاح الحاكم بمانع أن تكون أصول الشريعة التي يحكم بها من عند الله، وكل ما يمنعه أن يعتبر (الحق الإلهي) الذي ادعاه بعض ملوك أوربة وسيلة إلى إنكار حق الرعية في الشورى والرقابة على الحكومة. وقد أبى الإسلام هذه الدعوى فكانت سنته هذه مزية بين الأديان.
وقد أوضح الدكتور طه حسين هذا المعنى فقال يرد على القائلين بالثيوقراطية في الإسلام أنهم قد يرون: (أن الحكومة التي كانت تحكم المسلمين في هذا العهد إنما كانت تستمد سلطانها من الله، ومن الله وحده، لا ترى أن للناس شأناً في هذا السلطان ولا ترى أن من حقهم أن يشاركوا فيه أو يعترضوا عليه أو ينكروا منه قليلاً أو كثيراً).
فالواقع أن الإسلام لا يعترف للحاكم بحق إلهي يمنع الناس من حسابه والتعقيب على حكمه، وهذا الذي فهمناه من كتاب عثمان حين رجعنا إليه، فلا غبار في رأينا عليه.
أما كلمة عمر عن الأموال فقد عقبنا عليها في كتابنا عن عبقرية عمر فقلنا: (إنه لم يرد في كلامه تفصيل لهذه النية. ولكن الذي نعلمه من آرائه في هذا الصدد كان لاستخلاص ما كان ينويه. فعمر على حبه للمساواة بين الناس كان يفرق أبداً بين المساواة في الآداب النفسية والمساواة في السنن الاجتماعية. . ولم تكن المساواة في أدب النفس عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات، ولم يكن يرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا، ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة، فكان يقول لهم في خطبه: يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالاً على المسلمين. وكان يوصي الفقراء والأغنياء معاً أن يتعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة وإن كان من الأغنياء. . . فيسوغ لنا أن نفهم من هذا جميعه معنى ما انتواه من أخذ فضول الغني وتقسيمه بين ذوي الحاجة، وهو تحصيل بعض الضرائب من الثروات الفاضلة وتقسيمها في وجوه البر والإصلاح).
هذا مجمل رأينا في سؤال الأستاذ الوهاب.
وقد تلقينا كنباً أخرى في هذا السياق يسأل كتابها عن مواطن في كتاب عثمان لا نرى حاجة إلى تفسيرها، لأن إنعام النظر في الكتاب نفسه يغني عن ذلك التفسير.
على أننا نعتقد أن الذين يستقبلون كتاب عثمان بمثل هذا النقد لم يظلموه كما ظلمه المقرظون له بلسان التزلف والدهان، فإنهم يقولون فيه ما لا يقوله إلا عاجز عن التقدير الصحيح. وهو كاف لإعطاء الكتاب حقه من الثناء.
فهؤلاء العجزة عن التقدير الصحيح يزعمون أن الفتنة الكبرى لم تبحث على قواعد التاريخ أو على قواعد السنن الطبيعية قبل كتاب عثمان.
ومن جرأة الجهل أن يصدر مثل هذا الادعاء في هذه السنوات على التخصيص؛ لأن هذه السنوات قد ظهر فيها كتاب يسمى عبقرية الإمام، طبعت منه طبعات قبل ظهور كتاب عثمان، وترجم إلى اللغات الشرقية، وانتشر في جميع الأقطار الإسلامية، وقرأه عشرات الألوف من أقصى المشرق الإسلامي في الهند إلى أقصى المغرب الإسلامي في مراكش وإفريقية.
وفي هذا الكتاب كلام عن الفتنة الكبرى التي برزت في أيام عثمان ودامت إلى قيام الدولة الإسلامية.
وقد وصف عصر عثمان وقال: (إنه هو العصر الذي تكون فيه المجتمع الإسلامي بعد نشأة الدولة الجديدة، فيه نظام جديد على أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحة، وعلى أساس الولايات التي تولاها بعض الطبقات المرشحة للرئاسة من العلية وأشباهها).
وأحصى الكتاب أسباب التذمر سبباً سبباً فقال في مسألة الثروة: (كثر المترفون من جانب وكثر المتربون من جانب آخر، وشاع بين الجانبين ما يشيع دائماً في أمثال هذه الأحوال من الملاحاة والبغضاء).
وقال عن قلق أبناء الولايات: (إن المتذمرين توافدوا من الولايات إلى المدينة مجندين وغير مجندين، وتولى زعامة المتذمرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاء الصحابة كتبوا صحيفة وقعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة).
وقال عن التنافس بين العواصم (إن التنافس كان على أشده بين العاصمتين الحجازيتين وبين الكوفة، لا يرضي أهل المدينة بما يرضي أهل مكة، ولا يرضي أهل الكوفة بما يرضي هؤلاء وهؤلاء).
وقال عن أثره قريش: إن قبائل البادية (كانت تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة وينظرون إليهم نظرتهم إلى القوى المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة).
وقال عن طبقات المسخرين (كان العبيد والموالي والأعراب المحرومون حانقين متبرمين لا يرضون عن حظهم من العيش بعد أن علمهم الإسلام حقوق المساواة وشرع لهم شريعة الإنصاف).
وقال عن جمهرة القراء والحفاظ وأصحاب النسك والفقه والشريعة: (إنهم خلق كثير يعدون بالألوف ويتفرقون في الحواضر والبوادي ولا يزالون كأنبياء بني إسرائيل منذرين متوعدين ساخطين على ترف المترفين).
وقال إن أبا بكر وعثمان كانا يمسكان الصحابة بالحجاز ويحذران منهم أن ينطلقوا في الأرض فيقبلوا على الدنيا، وأن عثمان أهمل هذه السياسة الحكيمة وشق عليه أن يطيل حبسهم بالحجاز والهيمنة عليهم بجواره.
وقال غير ذلك مما لا يخرج عنه سبب واحد من أسباب الفتنة، ولخصها كلها في مرجع واحد وهو افتراق عهد الخلافة وعهد الملك، وأن الموقف كان في خلافة عثمان (ملتبساً. . . متشابكاً؛ لأنه كان نصف ملك ونصف خلافة، أو كان نصف زعامة دينية ونصف إمارة دنيوية. فوجب أولاً أن يتضح الموقف بينهما وأن يزول الالتباس وتقابل الضدان اللذان لا يتفقان - أن يبلغ الخلاف مداه، ولن يزال قائماً حتى تكتب الغلبة لمبدأ من المبدأين وحكم من الحكمين).
هذا بعض ما جاء من عبقرية الإمام عم أسباب الفتنة الكبرى ما تردد في صفحات الكتاب كله في تفسير تلك العوارض الاجتماعية.
فمن الجرأة التي لا توصف إلا بأنها جرأة الجهل، أن يحاول غمر من الأغمار ستر هذه الحقيقة عن الأعين، وهي تعد بعشرات الألوف.
ونحن لا يعنينا الأمر، لأنه لا يضير كتابنا عن عبقرية الإمام؛ فإن عبقرية الإمام لا يحبه كلام يلغط به غمر من الأغمار.
ولكننا ننبه إليه؛ لأن سكوتنا عنه يعد عجيباً جداً في هذا الزمن وفيما بعد هذا الزمن، ولأن وقحة الجهل خليقة أن تزجر، ليتعلم الجهلاء كيف يكتبون حين يريدون الثناء على مؤلف من طراز كتاب عثمان.
فهذا الكتاب من مؤلفات العصر التي يستطيع الناقد الخبير أن يثني عليها ولا يقول فيها إلا حقاً. فإذا لجأ إلى الباطل في الثناء عليه فإنما يسيء إلى نفسه ويسيء إلى الكتاب: يسيء إلى نفسه، لأنه يفضح عجزه؛ ويسيء إلى الكتاب، لأنه يرى الناس أنه محتاج إلى الباطل ليظفر ببعض الثناء.
عباس محمد العقاد