مجلة الرسالة/العدد 766/رسالة النقد
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 766 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 08 - 03 - 1948 |
ميزان الحكمة
لأبي الفتح عبد الرحمن المنصور الخازن
حققه وعلق عليه الأستاذ فؤاد جميعان
بقلم الأستاذ محمد عبد الغني حسن
هذا كتاب كان مخطوطاً فنشره لأول مرة في المطبعة العربية الأستاذ فؤاد جميعان، وذلك فضل يجب أن نسجله للناشر الذي رأى أثراً من الآثار الإسلامية مجهولاً عند المسلمين اليوم فآثر أن يعرضه على قراء العربية في طبعة أنيقة وذوق في الإخراج مع التعليق في بعض المواطن التي تحتاج إلى تعليق.
والحق أننا محتاجون إلى إحياء التراث العربي وكشف النقاب عن ذخائره، فإن كثيراً من هذه الآثار لا يزال مطموراً في ظلمات لم يكتب لها إلى اليوم أن ترى النور. كما حدثني بذلك الأستاذ الدكتور محمد سامي الدهان الذي رأى بعينيه كثيراً من مخطوطات برلين العربية مدفوناً في دير من الأديرة الكاثوليكية في ألمانيا بعد أن صارت العاصمة الألمانية غرضاً للقنابل الإنجليزية
لذلك فرحت أشد الفرح حينما رأيت كتاب (ميزان الحكمة) للخازن يظهر إلى دنيا المطبوعات بعد أن كان في دنيا المخطوطات؛ فإن كل مخطوط عربي يقدم إلى المطبعة اليوم فإنما هو يد يسديها ناشره إلى الأمة العربية وإلى تاريخها الطويل الذي أسهمت به في بناء الحضارة مدة من الزمان.
وينبغي أن لا تخرجنا العجلة في طبع المخطوطات ونشرها عن القواعد الصحيحة للنشر والتحقيق، وأن لا تعجلنا الفرحة بالإخراج عن الأناة في التحقيق والتحري له وحسن الضبط فيه؛ فإن من الخير أن يظل المخطوط مخطوطاً على أن يخرج إلى الناس على غير الوجه الذي أراده مؤلفه. وإن من الأمانة لتراث الأسلاف أن يظهر كما كان لا كما نتوهم نحن أن يكون.
ولا أعني بذلك أن أنقص من عمل الأستاذ فؤاد جميعان أو أن أهون من أمر إخراجه لكتاب (ميزان الحكمة) على هذا الوجه الذي طالعنا به مكتب الشروق للطباعة والنشر، فأنا على ثقة أن عناية كبيرة بذلت في سبيل إخراج هذا المخطوط الذي تلفت منه كثير من الصفحات، والذي فقد منه فوق ذلك جزء ليس بالقليل. فإن الفصول الثلاثة الأولى من الباب الثاني من المقالة الخامسة مفقودة، وقد أشار الناشر إلى ذلك في ذيل صفحة 107. أما الباب الثالث من هذه المقالة فلم أقف له على أثر في موضعه من الكتاب ولم أجد المحقق أشار إلى ذلك، بل وصل ما بين البابين الثاني والرابع من غير تعرض لهذا الباب المفقود.
على أن إخراج المخطوطات يجب أن يرجع فيه إلى أكثر من مخطوط واحد حتى تتم المقابلة بين النسخ الخطية من الكتاب على أتم الوجوه. ولكن هذا العمل قد يعني القائمين به ويرهقهم من أمرهم عسراً. ولكن العسر في سبيل التحقيق العلمي هو وسيلة يهون عندها الوصول إلى أنبل الغايات؛ وهي إظهار النص على حال لا يبعد به عن أصله الذي أراده له مؤلفه. ولا يلجأ إلى المخطوط الواحد إلا حين تنعدم من العالم نسخ خطية أخرى. فهل كان الشأن كذلك حين نشر الأستاذ جميعان هذا الكتاب عن نسخة خطية واحدة؟
يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان في التصدير الذي قدم بين يدي الكتاب (إن قنصل روسيا في تبريز عثر صدفة في منتصف القرن الماضي على هذا الكتاب (كتاب ميزان الحكمة) ويقول في موضع آخر: (وأخيراً توفق الأستاذ فؤاد جميعان في الحصول على مخطوط لميزان الحكمة فنقله مع شئ من الشرح والتعليق) ويقول الأستاذ جميعان ناشر الكتاب في صفحة 17: (وربما كانت النسخة التي بين أيدينا هي تلك النسخة الموجودة في فارس إذ لم أستطع أن أتبين تاريخها وذلك التشويه الكبير الذي ألم بها). ويقول أيضاً في الصفحة نفسها: (لكن المستشرق الألماني ويدمان يذكر أن نسخة منه موجودة في أحد جوامع بمباي في الهند).
هذه خلاصة قصة هذه المخطوطة كما ذكرها الناشر ومقدم الكتاب، وليأذن لي الأستاذان الفاضلان أن نسخة خطية من هذا الكتاب توجد في (الخزانة الآصفية) وهي خزانة عامة (تحت نظم الدولة الآصفية) بالهند. واسم الكتاب مذكور في فهرس الخزانة جـ1 ص125 كما ورد في كتاب (تذكرة النوادر) المطبوع في حيدر أباد الدكن والذي أخرجته جمعية دائرة المعارف العثمانية سنة 1350هجرية. - راجع التذكرة ص166 وهذا المخطوط كما وصفته التذكرة بمقالاته الثمان - هو الذي نشره الأستاذ جميعان. ومعنى هذا أن من هذا الكتاب نسختين خطيتين كان أولى بالناشر أن يحصل على ثانيتهما بطريق التصوير مثلاً؛ فربما كانت هذا النسخة الآصفية أكثر ضبطاً وأكمل صفحات وأسلم من التلف. وبهذا كان يتجنب هذا الفراغ الكبير الذي تركه في الكتاب المطبوع معتذراً بتلف الأوراق أو فقدانها.
أما النسخة التي يذكر المؤلف أن المستشرق الألماني ويدمان يقول إنها موجودة في أحد جوامع بمباي في الهند فقد وقفت طويلاً عند ذكرها وأطلت الوقوف. . . ويظهر أنها مقالة أو أكثر من مقالات (ميزان الحكمة) نسخت في ربيع الآخر سنة 585 بساحل بحر عمان في موضع نفال أي بعد حياة الخازن ببضع عشرات من السنين. ولكن (تذكرة النوادر) ومؤلفها أحد علماء الهند المعاصرين يذكر أن بين مخطوطتي الآصفية وجامع بمباي اختلافاً في عبارتهما وإن كان يذكر على سبيل الاحتمال أن الكتابين شئ واحد.
ويذكر الأستاذ قدري حافظ طوقان شيئاً عن ترجمة الخازن في الكلمة التي عنونها بهذا العنوان؟ (من هو الخازن مؤلف هذا الكتاب؟). والحق أنها كلمة لا يسمو بها الإيجاز والاقتضاب أن ترتفع إلى مرتبة التعريف بعالم طبيعي من علماء المسلمين. ولو أنه نقل ما كتبه البيهتي في كتابه (تاريخ حكماء الإسلام) الذي حققه الأستاذ محمد كرد علي بك لأضاف إلى التعريف بالخازن شيئاً عن زهادة هذا العالم الجليل وعفة نفسه وجمال خلقه (ونقاء جيبه عن الأطماع الخسيسة). كما يذكر المؤرخ (ظهير الدين) في كتابه صفحة 162.
ويظهر لي - والله أعلم بالسرائر - أن الأستاذ الناشر أراد أن يخرج كتاب الخازن على أي وجه. . . وأن الأستاذ طوقان أراد - أو أريد له - أن يقدم الكتاب على أي وجه. . . فخرج الكتاب وظهرت المقدمة. . . ولكن الكتاب لم يُظهر لنا (ميزان الحكمة) على أصله وحقيقته؛ ومقدمة الأستاذ طوقان لم تظهر لنا (الخازن) الحكيم العربي على حقيقته. فإن الأستاذ طوقان يعلي من قدر (الخازن) إلى حد خشي معه أن يتوهم القارئ أن في ذلك انتقاصاً من قدر العلماء الأوربيين: (تورشلي) و (بسكال) و (بويل). وما هناك بأس أن ننصف آباءنا العرب حين تجب النصفة. ولكن ماذا يقول الأستاذ طوقان في أن مقدمته كانت تحتاج إلى كثير من الشرح العلمي الطبيعي، لا مقدمة عابرة يسد بها فراغ. وما كان هناك موضع أولي بشرح نظريات (الخازن) من مقدمة لكتاب ألفه الخازن ليفهم على حقيقته بعد موته بأكثر من سبعة قرون وما كان هناك أحد أولى بمثل هذه المقدمة من الأستاذ العالم قدري حافظ طوقان. ولعل عالمنا العربي الجليل يعوض ذلك بمقال عن (الخازن) في إحدى المجلات العربية العلمية الرصينية.
أستغفر الله ما قصدت أن أعنف على ناشر له فضل النشر كالأستاذ جميعان، ولا على عالم - له فضل التعريف بعالم عبقري - كالأستاذ طوقان؛ فكلا الرجلين له فضل التقديم بأثر يعتز بذكراه المسلمون والعرب حين كانت لهم مقاليد العلم وميادين البحث - ولله عاقبة الأمور. . .
محمد عبد الغني حسن