مجلة الرسالة/العدد 766/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 766 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 08 - 03 - 1948 |
الاعتزال!
للكاتب الإنجليزي هاتسفورد جونسون
بقلم الأديب سيد أحمد قناوي
غطت الآنسة (ويلدون) آلة الكاتبة بعد أن نال منها الملال وأدركها الكلال ثم ارتدت معطفها الخفيف الداكن اللون وألقت نظرة سريعة على المنضدة الكبيرة التي أمامها ثم أطفأت المصباح الصغير لتبارح مكان عملها.
كانت قد تأخرت عن موعد انصرافها من العمل كل ليلة، فكل الغرف قد أقفرت من شاغليها وأمستالعمارة الكبيرة في صمت موحش، وسكون رهيب. . . ولكنها لمتكن في حاجة إلى الإسراع في العودة إلى منزلها الصغير، فليس هناك من ينتظرها. . .
وهذا العمل ينسيها إلى حد ما عزلتها الموحشة التي تعيش فيها فضلاً عن أن تأخرها يساعدها على أن تجد مقعداً في السيارة تستريح فيه من عناء يوم قضته في العمل بدون انقطاع ولا فتور.
كانت الآنسة (ويلدون) قد بلغت السادسة والثلاثين من عمرها. . . ولم تسعد بما تسميه الفتيات (اللحظة السعيدة)؛ فهي لم تحظ بزوج يخفف عنها أعباء الحياة، ولم تعرف رجلاً شريفاً يذهب بها إلى (دور السينما)، ولم يقدر لها قط أن تجد شاباً عند الباب ينتظرها ليتأبط ذراعها ويسير بها إلى حيث يعلم هو وحده. كانت قد سمعت بهذا كله همساً من الفتيات الكثيرات اللاتي عملت إلى جانبهن. . . ولكنها هي لم تعرف حقيقة المشاعر التي تجيء في ضوء هذه الحوادث. . . ومع ذلك فهي سعيدة بعملها سعيدة بغرفتها الصغيرة في (بييزووتر). وبذلك الطريق الهادئ الذي تقطعه على قدميها كل صباح وسط (كنجستون جاردتر)، فإذا أظلم الليل وعادت إلى غرفتها وجدت فرصة طيبة لتتناول كوباً من الشاي ثم لتأكل بعض البيض والجبن ثم تنصرف إلى المطالعة. . .
وتذكرت (الآنسة ويلدون) وهي تهبط الدرج إلى باب المنزل أن برنامج الإذاعة جميل، وعلى هذا فستستطيع أن تقضي بعض الوقت في سماع الموسيقى؛ وقد تستطيع بعد ذلك أن تضطجع في فراشها لتقرأ قصة من القصص العاطفية التي تدخرها للحظات العزلة.
وبلغت الآنسة (ويلدون) الطريق ولكنها وجدت ما أدهشها. . . فقد كانت السماء تمطر مطراً خيل إليها أنه يزداد لحظة بعد لحظة، وصدمتها هذه الحقيقة فهي لم تفكر في هذا المطر ولم تتوقعه. ثم إن معطفها الخفيف لا يمكن أن يرد عنها البرد وإن ردّ عنها قطرات المطر إلى حين، وضاقت بالمارة الكثيرين الذين يسرعون الخطى إلى محطة السيارات لأنها لن تجد المقعد الخالي الذي ترجو أن تستريح فيه. وإنه لا يبقى أمامها إلا أن تسير على قدميها مسافة لا تقل عن ميل حتى تصل إلى محطة المترو، وهي مسافة ليست قصيرة ولا يسيرة في هذا المطر الوابل
ولكن الآنسة (ويلدون) تكره البقاء بلا عمل فجمعت أطراف معطفها حولها وراحت تجد في السير. . . وفجأة أحست يداً تلمس ذراعها فدارت على عقبيها لتجد نفسها أمام وجه باسم لرجل في قرابة الثلاثين من عمره. قطبت الآنسة (ويلدون) حاجبيها، فهي لا تعرف هذا العبث ولا تستمرئه، ولكن الرجل لم يلبث أن قال لها في هدوء:
- لا تسرعي هكذا، إن ثيابك مبللة. . خذي هذا.
ومد الرجل يده بمعطف من المعاطف التي تقي من المطر. . ودون أن تدرك ما تقول أجابت في همس:
- شكراً لك. . إنني راضية بهذا البلل. .
ولعلها كانت تريد أن تضع حداً لهذه القصة التي لا تسيغها ولا تريدها. . ولكن الرجل لم ينصرف بل قال:
- لا تكوني حمقاء. إنك تسيرين بنفسك إلى حتفك فهمست قائلة:
- ولو كان هذا حقاً فماذا فيه؟
فابتسم الرجل وهو يقول:
- ليس جميلاً أن يموت الإنسان في مثل هذا السن. تدثري بالمعطف، وأنقذي هذا الصدر الجميل.
وكان صوت الرجل قوياً يحمل على الطاعة، وكان جديداً على سمعها لم تعرفه من قبل، وهي إلى جانب هذا في حاجة إلى هذا المعطف، فلم تشعر إلا بالمعطف حول جسمها، فمدت ذراعها لتستكمل ارتداءه ثم ضمت أطرافه حول صدرها وهي تقول:
- ولكن ماذا تصنع أنت؟
- إن ثيابي غليظة، وأنا رجل.
- شكراً لك.
ولم تكن الآنسة (ويلدون) تعرف ما تقول، فهي لم تشعر قط بأنها كانت يوماً ما موضع عناية أو اهتمام من أحد، اللهم إلا مستر (بردفور) الشيخ الذي تعمل سكرتيرة له، ولكن شتان بين هذا وذاك! على أن الذي كان يشغلها هو ماذا يكون بعد هذا. . .
ولم تلبث الدهشة أن استولت عليها عندما سمعت الرجل يقول لها:
- هل تناولت الشاي؟
ولم تكن في الواقع قد تناولت شيئاً بعد الظهر ولهذا أجابت بسرعة: - لا. . .
ولعلها أحست في سؤال الرجل أنه يدعوها إلى قدح من الشاي؛ وهي وإن كانت حقاً في حاجة إلى شراب ساخن بعد أن بللها المطر إلا أنها لم تكن لها خبرة بمثل هذه الدعوات فاعتذرت شاكرة، ولكن الرجل تظاهر بأنه لم يسمع شيئاً وقال:
- هيا بنا، هناك مكان دافئ نجد فيه حاجتنا.
ولدهشة الآنسة (ويلدون) رأت نفسها تسير إلى جانب الرجل وقد تأبط ذراعها، وأحست بأصابعه تلامس صدرها. . ورأت كأنها تقرأ قصة من قصص الفراغ التي تدخرها لوقت النوم. وولجا الباب وأعجبها المكان كما لذها لدفء فلما انتحيا ركناً بجوار المدفأة قال الرجل وقد تهلل وجهه:
- الآن تستطيعين أن تخلعي المعطف حتى تجف ثيابك. ورجت هي أن تهنأ بلحظة سعيدة كهذه اللحظات التي سمعت عنها فأطاعت الرجل وراحت تحتسي الشاي في سكون.
ومرت اللحظات في أحاديث عن الجو والرياضة، وفجأة نظر الرجل في ساعته ثم قال:
- يا إلهي! لقد كدت أنسى أن أمي دعتني إلى العشاء هذه الليلة. لقد أعدت لي دجاجة كبيرة. . . إنني أتركك الآن؛ ولكن لا تسرعي في الخروج فسأدفع للساقي ثمن الشاي.
- ولكن كيف أرد إليك معطفك؟ وكانت وهي تقول ذلك تأمل أن يتفقا على موعد لعله يكون في الغد. وضحك الرجل ضحكة مرحة ثم قال: لقد نسيت هذا. . . على أية حال هذه بطاقتي إذا شئت أن تتحدثي إلي في أمر المعطف. ومد الرجل يده بالبطاقة ثم انصرف. وظلت الآنسة (ويلدون) برهة في شبه حلم، فقد كان الحادث كله غريباً لم تألفه، وكان كل ما مر بها منذ أن تركت مكان عملها يرغمها على أن تفكر في أشياء لم تكن لتتوقع حدوثها قط.
وألقت نظرة خاطفة على البطاقة فقرأت فيها:
(جون برونت) وكيل شركة المعاطف الواقية من المطر. ولقيت في طرف البطاقة إشارة تلفت النظر إلى ما خط في ظاهر البطاقة، فلما قلبت البطاقة قرأت ما يأتي:
(إذا أعجبك هذا المعطف فأرسلي لنا جنيهاً وعشرة شلنات وإلا فاتصلي بنا تلفونياً فنرسل إليك من يتسلمه منك).
وبذلك تبددت أحلا الآنسة (ويلدون) ومرت بها قصة عاطفية قصيرة كلفتها جنيهاً وعشرة شلنات ولكنها أبقت لديها أثراً لها هو معطف جديد للمطر. . .
وهكذا انصرفت الآنسة (ويلدون) عن الناس وآثرت أن تعيش على هامش الحياة.
سيد أحمد قناوي