مجلة الرسالة/العدد 766/الشعر في العصر المملوكي هل يمثل الحياة فيه؟
→ غاندي الفيلسوف المجاهد | مجلة الرسالة - العدد 766 الشعر في العصر المملوكي هل يمثل الحياة فيه؟ [[مؤلف:|]] |
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟ ← |
بتاريخ: 08 - 03 - 1948 |
للأستاذ يوسف البيومي
نستطيع أن نقول نعم ولا نكون مجازفين، ونستطيع أن نقول لا ولا نكون مبعدين.
نستطيع أن نقول أن الشعر في هذا العصر على الرغم من جنوحه إلى التقليد والصنعة قد يستطيع الباحث المنقب أن ينظر من خلاله أحياناً إلى بعض مظاهر الحياة سياسية أو اجتماعية. ونستطيع أن نقول إن الشعر قد صمت عن أهم مظاهر الحياة في هذا العصر فلم يفصح عن رأيها فيها: صمت عن مظالم العصر، ومفاسد المماليك أمراء وسلاطين. وصمت عن المفاسد الاجتماعية ووصف ملاهي مصر والقاهرة ومغانيهما وما كان يحدث عند الاحتفالات للأعياد القبطية وغيرها من تجاهر بالفسق والدعارة، ومن تظاهر بشرب الخمر والحشيش. وإذا صمت عن هذين ثم تحدث عن غيرهما فإنه يكون حديثاً لا فائدة منه ولا غناء فيه.
نستطيع أن نقول ذلك كما نستطيع أن نعلل قلة ما ورد من الشعر في هذين الموضوعين الخطيرين بضياع جل الشعر الذي قيل فيهما ضمن ما ضاع من أشعار الشعراء ودواوينهم وهو كثير
ولما كانت مظاهر الحياة قد تعددت في هذا العصر وتنوعت فأنا سنقسمها وندرس كل قسم على حدة لنستطيع أن نبين عن هذا الإجمال بالتفصيل ممثلين.
خضع الشعب لحكم استبدادي قاس أبنا عن قسوته ووصفنا موقف الشعب منها وعللنا هذا الموقف فيما سبق ونذكر الآن أن موقف الشعر من هذا الحكم الظالم، ومن حياة السلاطين الخاصة وقد ملئت دعارة وفسقاً - إلا في القليل النادر - لم يختلف عن موقف الشعب عامة والعلماء خاصة، فتكميم الأفواه وحبس الحريات، وكبت الشعور كان قدراً مشتركاً بين عامة الشعب وخاصته بين السوقة والكتاب والسراة ورجال الدين. ولكنا رأينا أحياناً تنفيساً عن الصدور المخنوقة ببعض المقطوعات وأكثر ما كان ذلك حينما يولي زمن السلطان أو الأمير وتذهب دولته ولا يجد الشاعر في ذلك حرجاً ولا يخشى منه بأساً. بل حينما يرى في ذلك إرضاء لخلفاء ووارثي الملك بعده أو مغتصبيه منه.
كان المظفر حاجي مغرماً ببعض المغنيات منقطعاً إليهن عن النظر في أمور الدولة فأرغ على إخراجهن من القصر فكانت بنفسه عليهن حسرة لم تنقض. وقد حاول أن يتسلى عنهن بلعب الحمام الذي أنفق عليه أموالاً ضخمة، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (في رسالة الشعر في عصر المماليك) ونريد أن نذكر الآن أنه لما قتل ذبحاً قال صلاح الدين الصفدي:
أيها العاقل اللبيب تفكر ... في المليك المظفر الضرغام
كم تمادى في البغي والغي حتى ... كان لعب الحمام جد الحمام
وقال فيه أيضاً:
حان الردى للمظفر ... وفي التراب تعفر
كم قد أباد أميراً ... على المعالي توفر
وقاتل النفس ظلماً ... ذنوبه ما تكفر
وكان الناصر (حسين بن محمد بن قلاوون) مغرماً بالنساء ويستصحبهن معه في أسفاره (لأنه لم يكن له ميل إلى الشباب كعادة الملوك من قبله) فلما قتله يلبغا قال بعض الأدباء في قصته مع يلبغا ومحبته للنساء موجهاً أسماء سور من القرآن الكريم - ونلاحظ أن الشعر قيل بعد مقتله كما نلاحظ أن الرغبة في التوجيه هي مبعث هذا الشعر:
لما أتى للعاديات وزلزلت ... حفظ النساء وما قرا للواقعه
فلأجل ذاك الملك أضحى لم يكن ... وأتى القتال وفصلت بالقارعه
لو عامل الرحمن فاز بكهفه ... وبنصره في قصره في السابعة
من كانت القينات من أحزابه ... عطعط به الدخان ناراً لامعه
تبت يدا من لا يخاف من الدعا ... في الليل إذا يغشى يقع في القارعة
وكان سنجر الشجاعي مشد عمارة مدرسة قلاوون ووزير الديار المصرية في عهد الناصر محمد بن قلاوون من أقسى المماليك وأظلمهم، فلما قتل وطافوا برأسه على مشعل قال سراج الدين الوراق:
أباد الشجاعي رب العباد ... وعقباه في الحشر أضعاف ذلك
عصا ربه فالعصا نعشه ... وشيع للدفن في نار مالك
والشجاعي هذا هو الذي يحذر ابن السلعوس منه بعض الشعراء حيث يقول:
تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على أفاعي وكن بالله معتصماً فأني ... أخاف عليك من نهش (الشجاعي)
وكانت عادة التسمير والتعليق منتشرة يعاقب بها الخارجون حتى الوزراء، فهذا الفخر بن مكانس قد علق (بسرياق) من رجليه لما غضب عليه برقوق بعد أن ضرب ضرباً مبرحاً وهاهو ذا يذكر هذه الحادثة معتذراً عنها بقوله:
وما تعلقت (بالسرياق) منتكساً ... لزلة أوجبت تعذيب ناسوتي
لكنني مذ نفثت السحر من أدبي ... عذبت تعذيب هاروت وماروت
وكانت المظالم تصب على خلفاء المسلمين فيخلعون ويسجنون وقد حكى الشعر بعض ذلك في المقطوعات: قبض برقوق على الخليفة المتوكل على الله وخلعه وسجنه فقال شهاب الدين ابن العطار:
أبشر أمير المؤمنين فما جرى ... أقوى دليل أن عزك سرمد
لا تختشي فيد العدا مغلولة ... ويد الخلافة لا تطاولها يد
وابن الوردي أجرأ شعراء العصر على التعرض لمظاهر الحياة العباسية ومظالم السلاطين في كثير من مقطوعاته
المولى الأشرف كجك وهو ابن ثماني سنين قال ابن الوردي في ذلك واصفاً خلف الأمراء وتنازعهم!
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهما الشيطان قد نزغا
وكيف يطمع من مسته مظلمة ... أن يبلغ السؤل والسلطال ما بلغا
وفي سنة 742 عوقب الأمير لؤلؤ القندشي بدار العدل بحلب حتى مات واستصفى ماله وشمت به الناس فقال ابن الوردي في ذلك:
الؤلؤ قد ظلمت الناس لكن ... بقدر طلوعك اتفق النزول
كبرت فكنت في تاج فلما ... صغرت سحقت سنة كل لولو
وفي سنة 740هـ قبض الناصر محمد بن قلاوون على النشو شرف الدين القبطي الأصل وعاقبه حتى هلك تحت العقوبة بعد أن كان قد قهر أهل القاهرة وبالغ في الإيذاء والمصادرة والقتل والخنق فقال ابن الوردي:
النشو لا عدل ولا معرفة ... قد آن للأقدار أن تصرفه من أتلف الناس وأموالهم ... يحق للسلطان أن يتلفه
وتاريخه وديوانه مملوءان بأمثال ذلك وهكذا على الرغم من انصباب المظالم من كل جانب على هذا الشعب وعلى الرغم من أنها أخذت على المحكومين كل تفكيرهم حتى رأيناها تظهر في أخيلتهم الشعرية ويستمدون منها التشبيهات المختلفة كقول بدر الدين بن حبيب يتحدث عن الخمر.
مظلومة سجنت من بعد ما عصرت ... مع أنها ما جنت ذنباً ولا اجترحت
فإنهم قد وقفوا عامة وشعراء وعلماء حيالها هذا الوقف المزري الشائن: لم يجأروا بشكوى ولم يظهروا ما كمن في نفوسهم من استياء وألم، وإن ظهر شئ من ذلك فعلى ما رأيت من هذا الاحتياط وبعد أن يكون المشكو مشلول القوى عاجزاً عن أن يظلم أو يرفع ظلماً، وبعد أن يكون خلفه الذي يتقرب إليه بما يقال فيه ينهج نهجه ويؤذي الشعب إيذاءه وربما كان إيذاؤه أشنع وأقسى وأفظع وأنكى وأشد وقعاً على نفوس الشعب شعرائه وعلمائه وذوي النفوذ فيه.
يوسف البيومي
المدرس في كلية اللغة العربية