مجلة الرسالة/العدد 765/مراجعات
→ من مذكراتي اليومية: | مجلة الرسالة - العدد 765 مراجعات [[مؤلف:|]] |
من أحاديث الإذاعة: ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1948 |
في فلسفة الوجود، وفي الفاروق
للأستاذ عباس محمود العقاد
ظن الأستاذ نقولا الحداد أننا تهكمنا حين قلنا له ما فحواه: إنه محتاج إلى أن يراجع مصادره الفلسفية.
وسيرى الأستاذ الآن أننا نجد ولا نتهكم حين نقول له أكثر من هذا: إن مرجعته لمصادره العلمية ألزم وأعجل، ولاسيما مصادره عن أينشتين الذي يلوح على الأستاذ الحداد أنه يريد أن يتكلم عنه في مصر كما يتكلم الحواريون عن رسلهم المختارين.
في شهر يونيو سنة 1930 ألقى العلامة أينشتين في جامعة نوتنجهام - بإنجلترا - محاضرة علمية كان لها دوي كبير في المعاهد العلمية والفلسفية، لأنه ألمع فيها إلى خاطرة جديدة يحاول أن يفسر بها اتصال القوى بين الأجسام بغير الوسائط المفروضة، وتحدث عن جوهر الفضاء، أو مادة الفضاء، أو المادة الفضائية لأن التجارب الكثيرة لم تثبت للأثير المزعوم وصفاً من الأوصاف لا ينطبق على الفضاء. فمن المحتمل على هذا التقدير أن يكون الفضاء جوهراً مادياً لا نحتاج معه إلى فرض الأثير.
ولم يكن إينشتين أول من قال إن الفضاء ليس بخلاء؛ فإن الفلسفة القديمة التي يحاول الأستاذ الحداد أن يترفع عنها، قد سبقت إلى القول بامتناع تصور الخلاء في الوجود، وقال معظم أساطينها بأن الفضاء لا يعني العدم ولا يعني الخلاء.
قلنا هذا للأستاذ الحداد فعاد يكتب في الرسالة قائلاً - بكل ثقة واطمئنان -: إن إينشتين لما قال عنى المكان المشغول بالمادة ولم يعن الفراغ المطلق. فمتى قلنا المكان عنينا مكاناً مملوءاً بالمادة.
والعجب أن يخطر للأستاذ الحداد - أو لغير الأستاذ الحداد - أن جامعة من الجامعات تدعو عالماً من أكبر علماء الأرض إلى المحاضرة فيها فيقول للناس أن المقصود بالمادة الفضائية هي المادة التي توجد في المكان.
والعجب أن يخطر للأستاذ الحداد - أو لغيره - أن المعاهد العلمية تهتز لهذا النبأ وتوفد الرسل إلى إينشتين لتحصل على المزيد من شرح هذا الرأي الجديد.
ولكن الواقع أن المعاهد العلمية قد اهتزت لهذه المحاضرة، أو لهذه النظرية؛ لأنها فهمت منها شيئاً غير الذي فهمه الأستاذ الحداد: فهمت منها أن الفضاء نفسه مادة قد تغني عن فرض وجود الأثير.
وليس أكثر من الكتب والرسائل التي خاضت في هذا الموضوع، ولكننا نكتفي منها برسالة مبسّطة أصدرتها دار الطباعة التي يديرها (هالدمان جولياس) في كانساس بالولايات المتحدة؛ لأن السؤال فيها بسيط لا إبهام فيه، والجواب كذلك على قدر السؤال.
سئل الدكتور لويس لونشنين تلميذ إينشتين وشارحه المعروف عما يعنيه أستاذه الكبير. فقال ما نصه بالإنجليزية:
' '
وترجمة هذه العبارة: (إن إينشتين يذهب إلى أبعد من هذا. ويزعم. . . أن الفضاء الذي كان في عصور متقدمة يعتبر خلاء، واخترعوا له في علم الطبيعة الحديث اسم الأثير للاستعانة به على تفسير بعض الظواهر الطبيعية التي تقع في الفضاء، وهو الآن مادة، أو جوهر.
ومضى الدكتور لوينشنين يقول إن مادة إينشتين الفضائية قد يتضح أن تكون من جوهر لن تدركه حواسنا ويروع من كل دليل مباشر في المعامل.
أما الدكتور لونشتين هذا فهو الذي قدم إينشتين إلى الجامعات وقاعات المحاضرات عند زيارته للولايات المتحدة في سنة 1921. وهو على علمه بمباحث الضوء والكهرباء، حجة في شؤونها العلمية ومستشار فني معروف لشركات من أكبر الشركات الكهربائية، وعلمه بهذه المسائل لا يقل عن علم الأستاذ الحداد على أقل تقدير.
فليس قصارى الأمر أن الفضاء لا يوجد إلا إذا وجدت فيه هذه المادة التي نعرفها. بل تقضي هذه الخاطرة بأن الفضاء نفسه هو مصدر تكوين المادة، وأن جوهره قد يدق عن الحس وعن التجارب في معامل العلماء.
والأستاذ الحداد يقول بأن الوقت عدم أو وهم من الأوهام.
فله أن يضيع منه ما يشاء. أما نحن فلا نقول بأنه عدم ولا بأنه وهم. ولهذا لن نضيع منه أكثر مما أضعناه في إقناع الأستاذ الحداد بأنه محتاج إلى التواضع بين يدي الفلسفة التي يعالجها، على هذا النحو من التفكير.
هذه مراجعة.
أما المراجعة - أو المراجعات الأخرى - فهي عن صفات الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي مما نتلقاه كثيراً في هذه الأيام من جانب الأساتذة، ومن جانب التلاميذ والتلميذات
وبودنا أن نجيبها جميعاً لولا أن السؤال عن المفردات اللغوية يغني فيه الرجوعاللغوية يغني فيه الرجوع إلى المعجمات، ولا تتسع له الصحف والمجلات التي يقرأها من يعرفون تلك المفردات، أو يملكون الرجوع إلى تلك المعجمات.
ولهذا نكتفي بالجواب عن المسائل الفكرية أو النفسية، وهي المسائل التي يسرنا من التلاميذ والتلميذات على الخصوص أن يقبلوا على بحثها والنظر في معانيها وتكوين الرأي في دقائقها بالمراجعة والاستفسار.
سأل أستاذ فاضل عن أسلوب عمر فقال إن بعض العبارات التي نسبت إلى عمر قد تكون من قبيل العبارات التي تضاف إلى العظماء المشهورين، وليست هي من أقوالهم على التحقيق.
ورأينا في هذا أن ميزان التشكيك ينبغي أن يحمل بكفتيه ولا يحمل بكفة واحدة.
فإذا كان العظماء جميعاً سواء في نسبة العبارات إليهم، فهل اجتمع مثل هذه العبارات فيما نسب إلى الصديق؟ هل اجتمع مثلها فيما نسب إلى الإمام؟ وهل اجتمع مثلها فيما نسب إلى معاوية أو إلى عمرو بن العاص؟
إن كان الأسلوب واحداً فيما نسب إلى جميع هؤلاء فالشك هنا معقول.
أما إن كانت العبارات المنسوبة إلى عمر كلها مما تنفرد به، فهي صالحة للاستدلال بها على أسلوبه الخاص الذي لا يشركه فيه سواه، وبخاصة حين تتواتر ذلك التواتر الذي أحصينا شواهده في الكتاب.
وسأل الأستاذ الفاضل عن قصة الحيلة التي استغلها عمر مع أبي سفيان حين مد يده إلى خاتم في يد أبي سفيان فأخذه منه وبعثه إلى زوجته، وأمر الرسول أن يقول لها باسم زوجها: انظري الخرجين اللذين جئت بهما فابعثيهما.
ويقول الأستاذ إنه يخالف الرواية ويرى أن عمر كان أولى أن يبهم العدد لأنه ربما يكون في العدد الذي ذكره نقص أو زيادة.
ورأينا أنها رواية أمامنا، وأن الجزم بنفيها هو (الادعاء) الذي يقوم على غير دليل لأن الجزم بالنفي هنا حكم باستحالة جميع الاحتمالات التي تقع في الخاطر، وليس شئ منها بمستحيل.
فمن المحتمل أن عمر كان يعرف عادات السروات من العرب في رحلاتهم، أو يعرف على التخصيص عادات أبي سفيان.
ومن المحتمل أن عمر استكثر ثلاثة أخرجة على رحلة واحدة، واستقل خرجاً واحداً يعود به أبو معاوية من عنده وهو أمير علي على الشام؛ فتوسط بين العددين.
ومن المحتمل أن عمر رأى ضرورة التحديد؛ لأنه لو طلب كل ما جاء به أبو سفيان من أمتعة السفر لاسترابت زوجة أبي سفيان وفطنت لما يراد. فجازف هذه المجازفة - بعد ذلك التقدير - وصحت مجازفته فحفظت ورويت، ولو لم تصح لما سمعنا بها أو لسمعنا من شأنها غير ذاك.
ومن المحتمل أن عمر قد علم بنبأ الخرجين وكانت له عيون تترقب العائدين من الرحلات، كما ذكرنا في الكتاب.
فلماذا ندعي أن الذي حصل هو غير ما جاء في الرواية، وليس لدينا ما نمنع به احتمالاً واحداً من جميع هذه الاحتمالات؟
أما الأسئلة التي تلقيتها من التلاميذ والتلميذات، فمنها سؤال من الآنسة (رسمية علي خليل) بالمدرسة السنية تطلب فيه مثلاً على فطنة الفاروق، وهي صفة من صفاته التي وردت في باب الصفات من الكتاب.
والفطنة إنما يستدل عليها بالكلام الذي ينم عن فهم الطبائع والأخلاق، وفي كلام الفاروق الذي أوردناه ما يدل على فطنته لهذه الأمور.
أو يستدل عليها بالأعمال، وقد دلت أعمال الفاروق على الفطنة في كل ما تولاه تسيير الجيوش وتدبير الفتوح وتنظيم البلدان وتوجيه النصائح إلى الولاة والقادة والقضاه، وإنشاء الدواوين واستشارة ذوي الرأي من الشيوخ والشبان.
أو يستدل عليها بشهادة العارفين، وقد شهد له بها أكبر دهاة العرب كالمغيرة وعمرو بن العاص.
وقد سألت الآنسة عن الفرق بين الرؤية والرؤيا والشعور على البعد، وكلها مما يدل على الاهتمام بعالم الغيب، أو أن الإنسان لا يقصر همه على الواقع المحسوس، ومن هنا يكون على استعداد للتدين والإيمان، ولهذا ذُكرت هذه الخصال، أو هذه الملكات لبيان استعداد الفاروق بطبيعته لقبول الدين.
والرؤية هي أن يتراءى للإنسان منظر أو صورة لا يراها غيره بحواسه المعهودة؛ لأنها تتمثل في النفس على نحو من ظهور الأشباح للنائم في حلمه. وقد يراها المستعد للرؤية وهو في حالة من حالات الغيبوبة. وقد تكون رمزية يفهم منها الرائي معنى من المعاني على طريقة الفهم من الرموز والكنايات. والفرق بين الرؤية والتلبائي أن التلبائي ينتقل بين شعورين على البعد، وقد تظهر الرؤية لإنسان واحد ولا تكون لمناظرها صورة خارجية يتلقاها الآخرون بحاسة النظر المعهود.
والاعتداد بالرؤيا هو اهتمام الإنسان بما يراه في أحلامه، وليس من دأب كل إنسان أن يهتم بهذه الأحلام أو يتخذ منها دليلاً على حادث مخبوء له في الغيب.
على أنني أرجو الآنسة معذرة إذا أحلتها على نفسها وهي تستوضح هذه العبارة: (كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة)؛ فإنها تسأل عن معنى هذا مع تفصيل الكلام فيه عدة صفحات، وعليها هي أن تجهد نفسها لتجيب سؤالها، وهي قادرة على الإجابة بغير جهد كبير.
وأسألها وزميلاتها معذرة إذا أحلتها على علم أساتذتها وعلم المعجمات في تفسير بعض المفردات؛ فليست هي مما يخفى على الأساتذة أو يخفى عليها إذا رجعت إلى تفكيرها، أو رجعت إلى معجم صغير مما يتيسر للطلاب في معاهد التعليم.
عباس محمود العقاد