مجلة الرسالة/العدد 764/الحرية! الحرية!
→ قصة فتاة. . . | مجلة الرسالة - العدد 764 الحرية! الحرية! [[مؤلف:|]] |
القتل في الشرائع ← |
بتاريخ: 23 - 02 - 1948 |
للأستاذ محمود محمد شاكر
أصبحت الجامعة العربية حديث العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، قد ناطوا بها كل آمالهم في بلوغ غاياتهم وإدراك ما تتمناه قلوبهم وضمائرهم، وحسب الجامعة أن تكون قبلة أربعمئة مليون عربي ومسلم في دنيا كلها عدوّ لنا يبغينا الغوائل. ولكن لا أحسب، فليس من الحق أن نترك الجامعة تسير وحدها في الطريق دون أن ترتفع أصوات طلاب الحق تؤيدها وتسددها وتشير عليها بالرأي بعد الرأي، فإن رجال الجامعة رجال من أنفسنا، قد رضيت العرب أن تعهد إليهم بقيادة هذه الشعوب المطالبة بالتحرر من قيود الاستعمار التي ضربت علينا ونحن في غفلة عن الدنيا الضارية التي أرسلت علينا وحوشها ترتع في حمانا، وتستأثر بخير بلادنا، وتنال منا نيلاً شديداً.
وقد آن أوان تغيير ما كان وما سار عليه العمل في السنوات الماضية. فالجامعة ترى كما يرى كل عربي ومسلم منذ وضعت الحرب العالمية الماضية أوزارها، أن أوربة الجائعة التي لا تشبع، قد خرجت من تحت أنقاض الحرب وفي زمان الحرب. وأنها تريد أن تلتهم كل شئ فتشبع ونجوع نحن، وتعبث ونئن نحن، وتستغرق في الترف وناعم العيش وإن أغرقتنا نحن في الضنك وبؤس الحياة. فهذه روسيا تريد أن توغل حيث أطاقت وحيث تيسر لها أن تتوغل. وهذه بريطانيا الكاهنة العتيقة العاتية تريد أن تتلو زمازم كهانتها على شعوبنا لتنيَمنا مرة أخرى على الخسف الذي نمنا عليها أجيالاً طوالاً. ثم هذه ثالثة الثلاثة أمريكا التي لا ينطفئ أوار ظمئها إلى البترول، تريد أن تستنفد كل شئ ما استطاعت، لتنعم هي به وبكل ما يطيق العلم أن يحدثه من ترف أو قوة، فتدخل مع بريطانيا في الحلف الاستعماري، لا تبالي أن تناقض تاريخ الأحرار القدماء من رجالها وبناة مجدها.
وترى الجامعة كما يرى كل عربي ومسلم، أن الشرق العربي والشرق الإسلامي لم يقرّ له قرار منذ سكنت نار الحرب، فقد انبعثت أندونيسيا تريد الحرية فلم يبال بها أحد، وانبعثت الهند تريد الحرية فأناموها بأن أدخلوها في نظام الدومنيون، وهبت مصر والسودان تجادل عن حقها في مجلس الأمن فأصمت الأمم الداعية إلى الحرية آذانها، وعلقوا القضية في هيكل الوثنية الحديثة التي تعبد إله الشهوات، وثار العراق يريد أن يحطم قيود الذل فأرادت بريطانيا أن تختدعه عن نفسه فأبى إباء الأحرار، وماج المغرب العربي في تونس والجزائر ومراكش، فضربت عليه فرنسا حكم الجبروت وألقت بينه وبين العالم أسداداً من فولاذ الظلم والطغيان، وسكت العالم الجديد عن هذا البغي اللئيم الذي ليس له رادع من نفسه ولا من الناس. وفارت مدغشقر فأطفأ المستعمرون تلك الأرواح المستعرة بأسنة الحراب. وأخيراً كشفت روسيا وبريطانيا وأمريكا وسائر الدول الصليبية قناع النفاق والرياء، فقضت أن تطلق على فلسطين أنذال البشرية من يهود، ليطردوا العرب من أرض آبائهم وأجدادهم منذ كان للعرب على هذه الأرض تاريخ، فأجمعت الأمم الإسلامية على أن ترد هذا العدوان وإن اجتمعت الدنيا كلها على تحقيقه ومناصرته.
ترى الجامعة العربية كل هذا كما يراه كل مسلم وعربي، ولكنها لا تزال تسير في أمر هذه الثورة الجامحة - التي يريد بها العرب والمسلمون أن يطهروا أنفسهم من الاستعباد، وأن يطهروا أرض الله من البغي والعدوان - سيرةً لم يسرها قبل مطالب بحق يعلم أنه حق لا نزاع فيه. فهي تشغل نفسها مثلاً بقضية فلسطين وحدها - على خطر شأنها - وتنسى ما يجري في مراكش وتونس والجزائر، وما يحدث في العراق، وما هو كائن في مصر والسودان، وما لا يزال يحدث في أندونيسيا وسائر البلدان والأمم المطالبة بالحرية. ولعلها تقول إنها تنظر في الأهم ثم المهم، وإنها لا تريد أن تخرج عن الأصل الذي وضعت له والذي يدل عليه اسمها وهو (جامعة الدول العربية)، لا جامعة العرب، ولا جامعة الإسلام، ولا جامعة الشرق. وهذا حق، ولكن ما الذي يحسبها على هذا وحده؟ وما معنى أن تقصر أمرها على الدول العربية (المستقلة) في ظاهر الأمر؟ إن هذه الدول العربية (المستقلة) ليست مستقلة في حقيقة الأمر، وإلا ففيم ثورة مصر والسودان؟ وفيم ثورة العراق؟ وفيم غليان شرق الأردن؟ فليس من الرأي أن تظل الجامعة العربية مقيدة بأشياء هي حبر على ورق؛ بل ينبغي أن تضم إليها رجالاً من تونس والجزائر ومراكش، وينبغي أن تضم إليها رجالاً من سائر الدول الإسلامية والشرقية ممن لهم مع العرب صلات لا يمكن أن تقطعها هذه القواطع المزيفة، وينبغي أن تعلن الجامعة العربية أنها قد أخذت على عاتقها أن تدافع عن حرية العرب وحرية المسلمين، وينبغي أن تكون هي المؤتمر العام الذي ينضم إليه كل ناشد للحرية في هذه الأرض مهما اختلفت الأجناس والأديان.
بل ينبغي أن تجمع الجامعة العربية في يدها أمر السياسة العربية والإسلامية جملة واحدة، وأن تضع المبادئ التي يجب على كل أمة تنضم إليها أن تعمل بها، وأن تكون هي المعبرة عن النداء العام الذي تنادي به هذه الأمم والشعوب وهو: الحرية! وينبغي أن تسير في ذلك كله مرة واحدة، فلا تفرق قضية الحرية إلى قضايا كل واحدة منها تعالج على أسلوب يخالف أخاه أو يتخلف عنه
إن روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول المستعمرة، أو أذيال الدول المستعمرة، قد اتفقوا جميعاً على العرب والمسلمين وأهل الشرق، ففيم نتأخر نحن أو نحجم أو نتلجلج؟ ولم لا نعمل جميعاً جملة واحدة، ويداً واحدة، وفي وقت واحد، وأي عائق يعوق المطالبين بالحرية والناشدين لها عن اجتماع الكلمة على هذا الحق الذي لا يملك أحد أن يمنحه أحداً، لأنه عطية الله ونعمته، ليس لأحد أن يسلبه؟ وكيف يسلبه وهو قوام هذا البنيان الإلهي؟ فإذا خلا هذا البنيان من الحرية، فقد خلا من الحياة وانهدم، وكان أنقاضاً تسعى على أرض تلفظها، وتستظل بسماء تلعنها.
إن جامعة الدول العربية، إنما تتكلم اليوم باسم الشعوب العربية لا باسم الحكومات وحدها. فلتعلم الجامعة أن الشعوب قد سئمت هذه السياسة العتيقة البالية، سياسة المداورة والمحاورة، سياسة الظنون الخداعة، سياسة المغررين الذي يحسبون أن سينالون حقوقهم بالمفاوضات والمحادثات والمخابرات والمخادعات. فلتحذر إذن أن تقف دون الغاية التي تسعى إليها شعوبها، ولتخط الخطوة الواسعة التي خطتها الشعوب في سبيل درك الحرية وانتزاعها من الجبابرة الظالمين. إنها اليوم أعظم قوة في هذا الشرق العربي والإسلامي، فلزام عليها أن تنطق بإرادة هذه الشعوب مجتمعة، لا بإدارة حكومات تغرر بها السياسة، ولا بإدارة أفراد مهما بلغ سلطانهم فهو دون سلطان الشعوب التي يمثلونها، بل ينبغي أن تكون الجامعة هي الرقيب الذي لا ينام على إرادة هذه الحكومات وعلى إرادة هؤلاء الأفراد، طبقاً لإرادة الشعوب وحدها.
إني لا أزال أنذر الناس أننا نعيش اليوم في زمن غير الزمن الذي ألفوه منذ خمس سنوات وحسب، فاليقظة التي تدب اليوم في كيان الشعوب العربية والإسلامية أضخم وأعظم وأقوى مما يخطر ببال أحد، إنها القوة التي لا يقف دونها سلطان ولا طغيان ولا بأس. نعم، إن النظر العابر الخاطف لا يكاد يدل على هذه الحقيقة، ولكن النظرة المتأنية المتعمقة تستطيع أن تحس بهذه الحركة الجياشة التي فار فائرها تحت هذا الظاهر الساكن المطمئن. وإنما يغفل من يغفل عن إدراك هذه القوة، لأنه ألف شيئاً مضى، فقاس عليه شيئاً جديداً يراه وهو متأثر بهذا الماضي، ولأنه مسوق في عنان هذه السرعة الخاطفة التي يجري بها عالمنا الحاضر إلى الغايات التي لا يعلم غيبها إلا عالم غيب السموات والأرض. ولكن الجامعة العربية قد فرض عليها أن تنظر النظرة المتأنية العميقة لتدرك هذه الحقيقة التي لا تخفى، ثم نقيم سياستها على هذا الأصل وحده دون الأصول الأخرى التي ورثتها عن السياسات العتيقة، سياسة المفاوضات والمخادعات، وسياسة الأخذ والإعطاء، وسياسة تقسيم القضية الواحدة - قضية الحرية
إني أنذر الحكومات، وأنذر الجامعة العربية بأن هذه اليقظة القوية العنيفة سوف تنكشف عن قريب، وأنها إذا لم تجد الحكومات، ولم تجد الجامعة العربية، قد تهيئوا للسير في خطاها. فهي ستدمرهم جميعاً عصف الرياح بهشيم النبات. فليتق الله كل عامل منا، ولينظر إلى غد، وليعرف حقيقة هذه الشعوب، وليأخذ نصيبه من التبعة التي ألقاها عليه مكانه من الناس ومن الشعوب
إن قضية الشعوب العربية والشرقية والإسلامية (قضية واحدة)، فاكتبوا هذه الكلمة في كل مكان، ورددوها بكل لسان، واهدروا بها هدير الأمواج في هذه البحار المظلمة، فإنها كلمة النجاة لكم ولشعوبكم وللناس جميعاً.
إن ساعة الخطر الأعظم قد دنت وتطابقت علينا عقاربها من هنا ومن ثم، وإن بريطانيا أولاً ثم أمريكا وروسيا وأذيالهم من أمم الاستعمار الصليبية، تدرك هذه الحقيقة كل الإدراك، فهي تريد أن تمزق شمل هذه القوة قبل أن تجتمع وتبدو جملة واحدة. فبريطانيا تريد أن تشغل كل قبيل منا أول كل دولة بشأن من شئونها التي تثير جماهير رجال السياسة القدماء، أولئك الرجال الذي نشئوا في أحضانها، أو في أحضان استعمارها الخبيث. وأمريكا تريد أن تشغل كل أمة منا باللعنة الماحقة التي تقوم عليها قوتها وهي البترول ومنابع البترول، تشتريه من هذه الأمم الفقيرة بأبخس الأثمان، فتنقله إلى بلادها فيكون أرخص ثمناً من البترول الذي تستخرجه من نفس أرضها! وتخدع هؤلاء المساكين بالدولار تعطيه، وهو ليس عطية، بل محنة وبلاء واستعباداً للإنسان الفقير الذي يظن أن المال هو كل شئ في هذه الدنيا. وأما روسيا فهي تعمل جاهدة على أن تأتي هذه الشعوب من طريق فتنتها عن الهدف الأعظم وهي الحرية، وتوجهها إلى الفتنة الخبيثة توقدها بين الغني والفقير، والمالك والمستأجر، والعامل وصاحب المال، حتى إذا صرفت الوجوه عن حقيقة الحياة - أي عن الحرية - دخلت فاستقرت وتحكمت واستبدت، وفعلت بنا ما فعل هؤلاء الديمقراطيون: زعموا أنهم يدافعون عن الحرية ثم سلبونا حريتنا، وتدعي روسيا أنها تريد المساواة بين الناس؛ فإذا دخلت بيننا حرمتنا هذه المساواة. إن هذه الدول جميعاً على اختلافها واختلاف مصالحها قد اتفقت على مصلحة واحدة هي أن تقتلنا، ثم يأتي بعد ذلك تنازعهم واقتتالهم على أسلاب هذا القتيل.
فالجامعة العربية هي التي كتب عليها منذ اليوم أن تقف حيال هذه القوى مجتمعة لتردّها عن هذا الهدف اللئيم الذي تسعى إليه. فلتجمع في لسنها ضمير هذه الشعوب المستهدفة للخطر الأعظم، ولتنطق بالكلمة الواحدة التي تعبر عن هذا الضمير، وهي أن قضية العرب والشرق والإسلام قضية واحدة، قضية لا تتجزأ لأن الحرية لا تتجزأ. والجامعة العربية تعلم - أو ينبغي أن تعلم - أنها إذا نطقت بهذه الكلمة وجعلتها أصل سياستها التي لا تقبل فيها مهادنة ولا مفاوضة ولا مجادلة، انبعث من ورائها قوة أربعمئة مليون نسمة تهتف من ورائها هتافاً يهدّ الجبال الراسيات، ويشتت بأس الأمم الطاغية بسلاحها ومدمراتها وجبروتها وبغيها ويهودها أيضاً. إنهم أربعمئة مليون يهتفون بلسان واحد في وقت واحد: الحرية الحرية!
إنها قضية واحدة أيتها الجامعة! إنها قضية واحدة أيتها الحكومات! إنها قضية واحدة أيها الملوك والأمراء! فاجمعوا أمركم وتنادوا جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها - من حدود الصين إلى بلاد المغرب الأقصى، ومن بلاد الشام إلى جنوب إفريقية. تنادوا بالكلمة الواحدة التي تزلزل هذه الأرض التي امتلأت جوانبها بغياً وظلماً وفساداً، تنادوا بحرف واحد، وبلسان واحد، وفي وقت واحد: الحرية! الحرية! (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
محمود محمد شاكر