مجلة الرسالة/العدد 764/إسعاف النشاشيبي
→ التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود | مجلة الرسالة - العدد 764 إسعاف النشاشيبي [[مؤلف:|]] |
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟ ← |
بتاريخ: 23 - 02 - 1948 |
للأستاذ داود حمدان
ودعا أيها الحفيان ذاك الشخ ... ص إن الوداع أيسر زاد
واغسلاه بالدمع إن كان طهراً ... وادفناه بين الحشى والفؤاد
واحبواه الأكفان من ورق المصح ... ف كبراً عن أنفس الأبراد
واتبعوا النعش بالقراءة والتس ... بيح لا بالنحيب والتعداد
إي والله هذا مقامك يا أديب العرب، وواحد الدهر، ويا حبيب المصحف، وعاشق لغة القرآن، ويا خليل محمد وخلصان دينه.
وإنه لقليل عليك أن تغسل بالدمع الطهور، وتدفن بين الحشى والفؤاد، ولكن. . . من أين لنا الدمع وقد جف من هول المصيبة، وتمزق الحشى وذاب الفؤاد من شدة الحزن وحرارة الأسى. . .
أي أديب العرب! إنك لتجل عن أن يقول مثلي رثاءك، ولن يقول رثاءك الحق إلا من يقول مثل هذه الأبيات، أو من يقول مثل قولك في شوقي وهنانو، وهيهات. . . وما هذه الكلمة إلا وفاء لحق لزم، وتنفيس لحزن أقام ولا إخاله يريم، لتعذر العزاء عنك بسواك، ومن سواك يسد مسدك ويغني غناءك؟ وهل تعود الدهر الجود بالأفذاذ؟ أنت لم يأت نظيرك من ألف سنة. . . فإن كانت هذه سنة الدهر، فيا طول ما ينتظر المنتظرون!
إن العربية ستؤرخ ابتداء فقرها من هذا النمط المجيد بارتفاع روحك الطاهرة إلى الرفيق الأعلى.
أي إسعاف، لقد كنت والله إسعافاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى: لقد أسعفت اللغة فقالت بلسان المرحوم أمير البيان: (قد أحسن الله إسعاف بإسفاف)، وأسعفت الدين (بالإسلام الصحيح) مما يفتري عليه المفترون ويطعن في مساواته الطاعنون، وأسعفت الأخلاق الكريمة فتمثلت بك بشراً سوياً لا يعرف الكذب قط ولا يستطيعه، ولا الغش، ولا الرياء، ولا الجبن، ولا البخل، ولا القسوة، ولا الكبر، بل كأنما خلقت من الصدق والصراحة والجرأة والكرم والرحمة والتواضع، وكيف لا تكون كذلك وإمامك محمد وطريقتك القرآن؟ وأسعفت الفقراء والمحتاجين والغارمين، فكم من فقير أعطيت، ومحتاج أغنيت، وغارم لولاك كان من المفلسين؟
فعليك رحمة الله ما نطق باللسان الفصيح ناطق، وخفق بالإسلام الصحيح خافق، وسلام عليك ما ذكر المكرمات ذاكر
وبعد، فالرثاء حزن يتبدى أو مناقب تعدد، وكلاهما يحتاج إلى بيان، ولست ممن يدعيه، غير أني أشهد أن حزني على إسعاف عظيم، وإني لا أستوفي مناقبه حصراً وعداً.
كنت لم أره بعد، وكان ذلك منذ أكثر من خمس عشرة سنة، حين كتب كاتب في بعض الصحف الفلسطينية ينتقده وينتقد شوقي معاً، فحملني حبي لهما على أن أدفع عنهما ما قاله بغير حق، فكتبت الدفاع في جريدة الجامعة العربية، وعلى أثر ذلك أهدى إلي كتبه، ثم زرته وتوثقت روابطنا حتى كان لا يدعو إلى بيته أحداً من ضيوفه، وكلهم من أهل الفضل والأدب، إلا دعاني مدة إقامتي في القدس، فلم أجد مجلساً أحفل بالفوائد الأدبية والإنسانية من مجلسه، ولم أجد محدثاً أجذب للسمع والفؤاد منه، ولم أجد أغير منه على كتاب الله ودين محمد، فمحمد عليه السلام عنده معنى الكون، وكان اسمه الكريم مكتوباً بخط جميل ومعلقاً أمامه لا يحب أن يقع نظره إلا عليه.
ولا يستثيره شئ أكثر من أن يمس الإسلام أو القرآن من قريب أو بعيد، وشدة غيرته هي التي تأتي بالعجب، فكتابه (الإسلام الصحيح) إذا رأيته بتحقيقاته وحواشيه ظننت أنه تهيأ له من سنين، والحقيقة أن موضوعه لم يكن يخطر له ببال، وما هي إلا مناسبة عرضت حتى هب كالأسد يزمجر بالإسلام الصحيح، وواتته سعة الاطلاع وسلامة الفهم والذوق فكان الكتاب، وكذلك كان رده على كتاب المبشرين الذي نشر تباعاً في الرسالة. ولم يكن يضيع شيئاً من وقته، فما هو إلا قارئ أو كاتب، وكانت رحلته في الصيف إلى الشام رحلة في طلب المزيد من العم، وكان نهماً في القراءة، حتى لقد طالع في مكتبات دمشق أكثر من خمسمائة كتاب في رحلة واحدة، ونقل منها نصوصاً تؤيد كتابه الإسلام الصحيح، وكانت رحلته في الشتاء إلى مصر ليتزود كذلك من مكتباتها. وهذا كله بالإضافة لما عنده من مكتبة عظيمة نادرة المثال.
وكانت معرفته لما اطلع عليه من آداب الغربيين وهو كثير معرفة اتفاق، وكان يحسن التحدث عن آداب الغرب ويقارنها بآدابنا، ويجد لكل جديد منها مثالاً من قديمنا يفوقه روعة وبهاء
وكان طيب الله ثراه يحب التجويد في كلامه، وإذا بدا له خاطر في تغيير حرف أو كلمة من مقالة ذهبت للنشر أبرق إلى المجلة بوقف النشر حتى يأتي تصحيحه، وكان يسارع بالرجوع إلى الحق ويحمد من ينبهه إلى خطئه، وقراء الرسالة يعرفون ذلك. ومرة أشرت بكتاب خاص إلى نقلة من نقله، فكتب إليّ أن هذه النقلة ستحذف هي وأخوات لها. وكان إذا عملت له معروفاً يبدو وكأنه عاجز عن شكرك بكثرة ما يحاوله بأساليب مختلفة، ولكن بشعور صادق، وطالما أخجلني من ثنائه عندما نشرت مقالاً في جريدة الدفاع علقت فيه على (الإسلام الصحيح) بما أراه حقاً.
قبل سفره إلى مصر رأيته في القدس ضعيفاً متهدم الجسم، فشعرت بالخوف عليه، ثم سافر إلى مصر ولم أره، ثم جرى اختيار عضو فلسطين لمجمع اللغة العربية، وعجبنا بل شدهنا لذلك الاختيار العجيب، وسكت مدة وأنا في حيرة ودهشة، ثم رأيت أن من حق الأستاذ عليّ أن أكتب في هذا الموضوع، فكتبت كلمة أنصفته فيها ولم أطعن في العضو المنتخب، وهيأتها لأرسلها إلى الرسالة، ولكن يا للأسف في صباح ذلك اليوم الأغبر قرأت نعيه في الجرائد، فطويت الكلمة، وطويت ضلوعي على الحزن.
(اللد - فلسطين)
داود حمدان