مجلة الرسالة/العدد 762/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)
→ الله وفلسفة الوجود | مجلة الرسالة - العدد 762 مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5) [[مؤلف:|]] |
رأي مفتي حضرموت ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1948 |
الحرية
للأستاذ كمال دسوقي
3 - الحرية بوجه عام:
بيناً فيما مضى طبيعة الصراع بين الرعايا المحكومين والسلطات الحاكمة، وقلنا إن الأمر هنا يتعلق بتعارض المنافع الفردية والحرية الشخصية من ناحية، والحكام بوصفهم ممثلي المجتمع المعبرين عن رغباته، والقائمين على تحقيق المنافع العامة بالحد من الحرية الفردية من ناحية أخرى. وقلنا كذلك إن الشعوب لم تفتأ تحاول الحد من سلطان الحاكم عليها، بأن تحمله على أن يقطع على نفسه عهوداً ومواثيق حيناً، وبأن تشترط موافقة الأمة ممثلة في هيئاتها حيناً آخر، لتضمن في الحالين عدم استبداد الحاكم واضطهاد الرعية.
وكلما زاد فهم المحكومين لطبيعة الحاكم بوصفه ممثل إرادتهم، قلت مسافة الخلف بينهما، لتتحد إرادتهما، ورأى المحكومين بالتالي أن يفوضوا إلى الحكام أمرهم، ويركزوا في أشخاصهم سلطتهم - ثم يحّاسبوهم أو يعزلوهم إن لم يكونوا لذلك أهلا، ولكن هذا الحكم الذاتي - حكم الشعب نفسه لا يلبث أن يتكشف عن مجرد إرادة الأغلبية، ويبدو هذا الاستبداد من الأكثرية - ولو أنه الديمقراطية حقاً - إجحافاً بحرية الأقلية أصحاب المصالح أيضاً التي لا تتفق معها في الرأي، ويصبح طغيان الأكثرية هذا خطراً دونه خطر استبداد الحكام وموظفيهم، لأنه يصدر عن الشعور العام والاتجاه السائد لغالبية المجتمع فثمت خطران يهددان حرية الفرد: الاستبداد السياسي من الحكام، وطغيان أكثرية المجتمع. التوفيق بينهما مستحيل، كما أن تعيين قواعد السلوك التي يتحتم علينا اتباعها بقوة القانون أو المجتمع حتى لا تتعارض الحريات هي مشكلة المشاكل. لا يتفق في تحديدها جيلان متعاقبان، أو شعبان في جيل واحد.
وآفة هذا كله أن الناس يسلكون وفق أهوائهم غير المعقولة، وقد يعززونها بأهواء غيرهم لتتخذ صورة إجماعية مقبولة، بالإجماع لا بالمنطق، وإن كان مصدرها في واقع الأمر وهما أو عاطفة، أو خرافة أو هوى، أو خوفا وحسدا، أو كبرا وبغضاء، أو أنانية ونفاقا، أ تملقا لعواطف السادة وتقربا إلى الحكام، إلى غير ذلك من وسائل المنفعة الذاتية المشروعة وغير المشروعة، ولكنها مع هذا - بحكم العادة - تصبح ذات أثر بليغ في تحديد السلوك والآداب وتقاليد المجتمع، وخصوصاً أن الحكام لم يحاولوا مراجعة هذا المبدأ - مبدأ التشريع على أساس العاطفة الجماعية كما رأينا - بل أخذوه قضية مسلمة، وشرعوا ينظرون في تفاصيل الأمور التي يرضى عنها أو يعاقب عليها المجتمع على هذا الأساس، ويضرب (مل) مثلا لخطر استبداد الأكثرية بدافع الهوى، مسألة العقائد الدينية وتعصب الجماعات فيها.
ومجمل ما يقرره المؤلف في (تمهيد) كتابه بعد ذلك، يتلخص في القضايا التالية.
1 - سلطة القانون في بلاده أقل نفوذاً من سلطان الرأي العام الذي يجعل من الحكومة خصماً له، ومهدداً لحريته، وإن كان القوم بين مؤبد لتدخل الحكومة في حرية الأفراد، ومعارض لهذا التدخل - لم يضعوا له قاعدة مقررة.
2 - منع الفرد من الإضرار بغيره هو المسوغ الأوحد لتدخل السلطات في حرية مواطن متمدين، وفيما عدا هذا، فللإنسان مطلق التصرف في جسمه وعقله، ومالم يخرج عن دائرة شخصه فلا سلطان للمجتمع عليه. ويستثنى من ذلك من لا يزال قاصراً من الأفراد والجماعات، فإنه يجوز استبداد حكامهم حتى ينضجوا ويصلحوا.
3 - ومع أن الحرية حق طبيعي يعود على الفرد بالمنفعة الشخصية، فإن للمجتمع أن يجبر الفرد على الدفاع الوطني والشهادة أمام الفضاء وعمل البر وهي أمور واجبة عليه، ويحاسبه إذا امتنع عنها أو قصر فيها، أو أهمل فعلها فترتب على الإهمال نتائج خطيرة عن طريق القانون أو سلطة المجتمع، إذ الأمر هنا يتعلق بالصالح العام المقدم على المنفعة الشخصية، وفيما عدا هذا لا يتعرض المجتمع لحرية الفرد.
4 - وثمت أحوال يكون فيها الفرد مسئولاً أمام المجتمع؛ ولكن مسئوليته تحيط بها ظروف وملابسات تجعل من الخير تركه وشأنه، فهنا يجب ترك الفرد لضميره يحكم عليه ويؤاخذه.
5 - أما الأحوال التي لا يجوز للمجتمع أن يتدخل فيها مالم تؤثر في الغير تأثيراً مباشراً فهي حرية الاعتقاد والفكر والميل والشعور، والتعبير عنها، وحرية الأذواق والمشارب، ثم حرية الاجتماع والتعاون.
6 - يقاس رقي المجتمع بمبلغ تحقيق هذه الحريات، وما لم تكن الدولة في خطر فليس ثمت ما يبرر تدخلها في أخص شئون الأفراد الذاتية، مهما يكن أمر دعاة سيطرة المجتمع أمثال أوجست كونت وغيره.
4 - حرية الرأي وحرية التصرف:
وبعد تلخيص هذه المقدمة يقبل على الفصلين الثاني والثالث، وهما أهم فصول الكتاب، وأنضج آراء المؤلف، وأكثر الكتابات قيمة لمن يحاول الدفاع عن الحرية الشخصية في الفكر والعمل، أولهما يتناول بالحديث حرية الرأي والاعتقاد، والتعبير عما نفكر بالمناقشة أو الخطابة أو النشر. وثانيهما يعرض لحرية التصرف والفعل والتنفيذ في حيز العمل كما هو في حيز القول، ما دمنا لا نتعارض في هذه أو تلك مع الصالح العام.
وما الذي يسوغ لحكومة أياً كانت أن تقيد تفكيرنا أو تحمنا على ما لا نريد من الرأي، ولو كان ذلك بإرادتنا؟ إن الحقيقة في مسائل الرأي ليست من الجلاء بحيث تكون دائماً مع الحكام، ويكون المجكومون - فرداً أو جماعة - هم المخطئين، وحتى لو جاز ذلك، فتدخل السلطات لمنع الخطأ هو سبيل انتشاره. حقاً إن الناس كثيراً ما يتعصبون من الناحية العملية - وإن أنكروا ذلك جدلاً - لآرائهم التي يهديهم لها محض الصدفة أو مجرد الإجماع - كأنما هم معصومون من الزَّلل، ولكن هذا الخطأ في استعمال العقل لا يدعو إلى تحريم التفكير أصلاً، وكل ما في وسعنا أن نهيب بالأفراد والحكومات أن يبذلوا كل جهد للوقوف على الحقيقة والتيقن منها قبل نشرها وإذاعتها - فحرية المعارضة والمناقشة هي وسيلة الصواب واليقين، وما دامت أخطاؤنا وهفوات لحسن حظ البشرية وصلاح أمرها - قابلة للتقويم والتعديل فينبغي أن نطلق للأفرد أكبر حرية في الفكر والمناقشة حتى يتأدوا إلى الحقيقة التي تصلح من أخطائهم، وتردهم إلى الصواب.
ولإطلاق حرية المناقشة - فوق تحقيق الميزة الجوهرية للعقل الإنساني بتقويمه وتعديله التي قدمنا - ميزة أخرى موضوعية تتعلق بالشيء ذاته موضع المناقشة، فإن ثباته للجدل حوله والمناقشة فيه وسيلة الثقة به والاطمئنان إليه، إذ أنه لو كان ثمت حقيقة نستطيع أن نهتدي إليها، فلن نصل فيها إلى اليقين المطلق، بل لما يشبه اليقين ويظن به الصواب، وحتى هذا القدر لن نصل إليه بالتقييد والتحريم، بل بإفساح مجال الدرس والمباحثة، فنصلح تفكيرنا، ونقوي في الوقت نفسه حجة الشيء ذاته، إذ أن دعامة الثقة بشيء إنما تقوم في قدرته على تحدي خصومه للمبارزة، فإن لم يكن له معارض، أو كان له معارض سقطت حجته في الميدان؛ فقد حكم له بقربه من الصواب.
وكما أنه لا يجوز حمل الناس على غير ما يريدون بادعاء العصمة في أنفسنا وفيما نريدهم عليه، حتى ولو كان معنا الإجماع؛ ما دام من الممكن أن يكونوا هم على حق، وما دمنا لم نفسح المجال لنتبين خطأ الأمر من صوابه في مناقشات حرة؛ كذلك ليس لن أن نحملهم عليه بحجة المنفعة، أو بدعوى الفائدة للمجتمع أو أية ذريعة أخرى، فما دمنا لم نسمع رأي الفريق المعارض، ولو كان نفراً قليلا لا نجزم بأن المنفعة في جانبه أو في جانبنا، فالمشكلة باقية لم تحل، ولم نزل ندعي العصمة في أنفسنا - ونرمي معارضينا بالخطأ - في تعرف النفع كما ادعيناها من قبل في الاهتداء إلى الحق.
فنحن حين نقيد حرية الرأي في الأفراد إنما نحملهم على اتباع رأينا، ونسوقهم إليه باسم الإجماع على الحق حيناً، ومنفعة المجتمع حيناً آخر - مما يحمل في طيه ادعاء العصمة من الفساد في آرائنا - والعصمة من الصواب في معارضينا، وليست الحقيقة - كما قلنا - بحيث نتعرفها بهذه السهولة، بل لا بد للوصول إلى بعض اليقين من حرية مناقشة واسعة النطاق، حتى في أخص مسائل الحياة كالدين وحسب البشرية ما ترتب على العصب الديني والطائفي والكنسي من اضطهادات ومظالم وشهداء - يتوسع (مل) في الاستشهاد بها - ليس ينهض عذراً لها ما يقال من ضرورة اجتياز الحق لهذه المحن، فإن في إتيان هذه الفظائع قضاء على التجديد والإحسان والعمل على ترقية الجنس البشري. وفضلا عن أن الاضطهاد يزهق الحق ويخفيه ويعوق انتشاره، وينزل بدعاته العذاب، فإنه يقتل الشجاعة الأدبية ويصادر حرية الفكر، وجرأة الحق، ويعوق نمو السلطات وانتشار ثمرات الإبداع في حينها، ويؤدي إلى تستر المفكرين وذلتهم وسعيهم لتملق عواطف المجتمع بدلا من البحث عن الحقيقة. ومع هذا فالحق لا بد يوماً أن يظهر ويبهرنا ضوءه فنضطر متأخرين إلى الإيمان به - بعد إذ أسأنا إلى أصحابه وعذبناهم - وبعد أن لم نسلم من الثورات الفكرية التي يولدها الضغط والتقييد.
وبعد أن فرغ (مل) من إثبات شطر حجته الأول: عدم ادعاء العصمة في حمل الفرد على حق أو منفعة، انتقل إلى الشطر الثاني منها - وهو خطر إخماد رأي الفرد ولو كان خطأ - إذ أن منع المناقشة منعاً باتاً أمر ضار ومستحيل - خصوصاً في المباحث المتعارضة الآراء - ولضرورة دراسة حجة الخصم وتفهيمه علة خطئه ليتثقف عقله، بعد أن نسمعها منه بنزاهة وصدق رغبة، بلا تحيز ولا محاباة، أو تفريق بين عام وخاص. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن تقييد المناقشة يتعدى أثره الخمود العقلي إلى خمود المعاني الأخلاقية في العقائد موضوع المناقشة - بما يجعل منها ألفاظاً منسية جوفاء - وإلى جمود العقائد والأقطار ذاتها بعد أن تصبح تقليداً محافظاً مستقراً، اطمأن عليه حماته ونام عنه خصومه، وهذا التحجر في العقائد - دينية أو غير دينية - يجعل منها رسوماً وطقوساً أولى منها معاني جميلة وعقائد. فلا بد من الخلاف والمناقشة حتى نصل إلى الحقائق اليقينية التي تعين على رقي النوع البشري، ولا بد من تهيئة الوسائل التي تثير هذا النقاش المستمر حول الحقائق حتى لا تموت باستقرارها، ولا بد أخيراً أن نكمل جزء اليقين الذي في آرائنا بيقين آراء معارضينا. وأن نشفع نزعة المحافظة دائماً بنزعة مساوقة إلى التقدم والإصلاح في سياستنا.
كمال دسوقي