مجلة الرسالة/العدد 762/لوعة صديق على صديقه (إسعاف)
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 762 لوعة صديق على صديقه (إسعاف) [[مؤلف:|]] |
رحلة إلى الهند ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1948 |
للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي بك
يا زعيم العربية!، ويا إمام المحققين!
أما وقد حُمَّ قضاء الله فيك، وانفض سامرك، وانطوى بساطك، وذوي (نُقلك)؛ فإنني لا أجد ما يصَّبرني عنك، ولا ما يعزيني فيك، إلا أن أستعير من بيانك ما أناجى به روحك العذب، وإلاَّ أن أرثيك، بمراثيك!. . .
ألم تهتف غداة مات (شوقي) بشعر شوقي:
(إنما الدنيا شجون تلتقي ... وحزين يتأسى بحزين)
(ضَحِكُ الدنيا احتشاد للبكا ... وأغانيها معدات الأنين!)
ولقد استطعتَ أن تُبْهِجَنَا ليلتَك الأخيرة؛ لتُبكينَا أيامَنا الطويلة! ألم ترسل فيه اللوعة المريرة ثم تندبه بقول حبيب:
(أُصيبتُ فيه وكان عندي ... على المصيبات أن يُعينا)
(كنت عزيزاً به كثيراً ... وكنت صباً به ضنينا)
(آليتُ أنساهُ ما تجلى ... صبح نهار لمدلجينا)
ولقد آلينا لا ننساك!!
ألم تبعث فيه الأنين الوفيُّ، ثم تتمثل بقول (أبى تمام):
(تذكرت نضرة ذاك الزمان ... لديه؛ وعمران ذاك الفناء)
(وأذ علمُ مجلسه موردٌ ... زلال! لتلك العقول الظِّماء)
(وكنتُ أراه بعين الجلال ... وكان يراني بعين الإخاء!)
وإننا لنتذكر، ثم نتذكر. . .
ألم تسكب أنت في (شوقي) عَبرَتك الحرَّي، وروحك الملتاع، وشعورك المتأجج، في فقرات من البيان الذي هو نسيج وحده! كما أنت نسيج وحدك! فأخذت تهتف ببنات العروبة؛ ليُسعِدنك يوم (شوقي) بالنحيب، وجعلت تقول:
بلبل (الكرمة) ولّى، أين غاب البلبل؟، بهجة زالت وجاءت وحشة! مِدْرهُ العُرب قضى، يا فتاة العرب!، فالبسي ثوب الحداد اذكريه، اندُبيه، أبَّنيه، بمراثٍ، مشجيات، خالدات! ولقد حق لنا اليوم أن نهتف في يومك، بما كنتَ تهتفُ به في أمْسَك!
يا كريم الإخاء ويا سيد الأوفياء: إني لأشهدُ هذا الشعر كله على نفسي كما أشهدتَه، وأشهدُ بيانَك الذي أبدعته واخترعته، أن لوعتي عليك لمشبوبة، وإن فجيعتي في علمك وأدبك لا يذهبها كرُّ الغداة ولا مرُّ العشي! وأنى أصبت فيك، وأنك لِمدْرة العرب، وأنك لبهجة زالت. . .
ولقد خدعتْني نفسي، وأنا أصافحك في الليلة الموقوتة، فحسبتُني عائداً لك! غداً أو بعد غد! وإنما خدعتني قوةُ نفسك! ويقظة ذهنك، وأنك تركتَ الطب وراء ظهرك يعالج! وأقبلتَ علينا بوجهك تحاضر! فتقول:
(لقد ذكر القدامى أن الشعراء ثلاثة: المتنبي، وأبو تمام، والبحتري. ثم ذكروا الكتاب؛ فعينوا لنا اثنين: الجاحظ، وأبو حيَّان، فمن هو الثالث؟ ثم تسكت ونسكت!! فلمَّا لم تجدْ جواباً! جاهرتَ، وصحْتَ: (إنه (الزيات)، إنه (الزيات)، إنه أمير النثر والناثرين، وإنه لسيد البلغاء).
فهل حسبنا وأنت تحاضرنا، أنه لم يبق بيننا وبين أن ينطفئ هذا السراج الوهّاج، إلا سويعات! ألا لشدَّ ما تحطّمنا الأقدار، ويسخر منا ومن آمالنا الليل والنهار! لقد وعَظْتَنيِ حيا وميتاً! ألم تصحبني لمواساة (آل عبد الرزاق) عشيةَ فجيعتهم في (الشيخ الأكبر) فلما جلستَ إلى (عليَّ) إعتلج الهمُّ، وكان وجومٌ، فما راعنا إلاَّ صوتُك يقطع الصمتَ، ويعَّبر عن روعة المموت:
(خَرِسَتْ لعمرُ الله ألسنُنا ... لما تكلم فوقنا القدَرُ!!)
إن العربية اليوم لوْلهي، تتفرع من هول يومك، وإن مصر لحزينة على العالم الأكبر، والباحث الأكبر، الذي صات صوته في أرجائها: (ألا إن محمداً، وذكرى محمد، وقرآن محمد، ولغة محمد، وعربية محمد، وأدب محمد).
(كل ذلك لن يزول، كل ذلك لن يبيد وفي الدنيا مصر لقد عرفتْ مصرُ لك هذا الفضل وذلك الجميل، وإن جحده جاحد. فها هو ذا حوها يتلقى أنفاسك الطاهرة، وهاهو ذا ثراها يزكو بعظامك، ويستأثر برفاتك، حانياً عليها مزهواً بها! وها هي ذي سحائبها تروَّي أجداثك بكرة وعشيا، فلطالما روَّيت وأبهجت قلوباً، ثم نافحتَ وجاهدتَ وناضلت لتسود لغة القرآن.
يا شهيد العلم والتحقيق:
لقد رفعك الله مكاناً عليَّا، وجعل لك في الخالدين ذكراً سريَّا: وإنك ميت، وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون! ونشهد! ما عرفنا ولا رأينا لك ضريباً، يرسل قلبه في كلامه، ويسكب عقيدته في حديثه، ولا أدركنا أميناً يؤدي أمانة العربية كما أدْيتَها، ولا صادقاً ولا وفياً يتحرق وجداً ببيان القرآن، ولا شجاعاً مغواراً، إذا رأى أو سمع - الهجين - أَرسل عليه صيحات من بلاغته، لا بل سهاماً من كنانته. . .
إني لأمتثلُ فيك بقول (الشريف)، كما كنتَ تتمثلُ بقول (الشريف):
يا ليتَ أني ما اقتنيتُكَ صاحباً ... كم قُنيةٍ جلبتْ أسًى لفؤادي
أعْزِزْ عليَّ بأن يفارقَ ناظري ... لَماَنُ ذاك الكوكب الوَّقاد
فيا أرواح الشهداء والمجاهدين: لقد جاءكم روح (إسعاف)، فيا وحشتنا بعده، ويا أنسكم به!!
محمد عبد الرحمن الجديلي