مجلة الرسالة/العدد 762/القَصَصُ
→ حياتنا اليومية وعلاقتها بالقانون | مجلة الرسالة - العدد 762 القَصَصُ المؤلف: أنطون تشيخوف المترجم: كمال الدين الحجازي |
قلب موزع أو بعد المسرح После театра هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1892. نشرت هذه الترجمة في العدد 762 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 9 فبراير 1948 |
قلب موزع
للكاتب أنطون تشيكوف
بقلم الأديب كمال الدين الحجازي
عادت (ناديازلينينا) وأمها من الملهى بعد أن شهدت إحدى الروايات، وعندما دخلت غرفتها خلعت ملابس السهرة وأرخت شعرها وبدأت تكتب رسالة إلى حبيبها: (أحبك. . ولكنك لا تحبني. . أجل لا تحبني) ولما كتبت ذلك ابتسمت طويلاً. كانت ناديا في السادسة عشرة من عمرها، وكانت فتاة غريرة لم يطرق الحب قلبها، إلا أنها كانت تعلم أن (جورني) الضابط و (جروندف) الطالب كانا يحبانها. ولكنها بعد مشاهدتها الرواية في الملهى بدأ الشك يتسرب إلى قلبها في حبهما لها، وكم تمنت لو كانا يكرهانها حتى تصبح سعيدة. فما أجمل أن يحب المرء شخصاً ويتهالك في حبه، بينما الآخر لا يبادله ذلك الحب! إن بطل الرواية (أونيجن) كان محقاً عندما كان يهزأ بالحب! بينما كانت (تاتيانا) تؤمن به. وقالت ناديا في نفسها: ترى لو أحب كل منهما الآخر حباً شديداً هل يكونان سعيدين؟ لا بل اعتقد أن السآمة ستنتابهما لا محالة! ثم واصلت ناديا الكتابة إلى جورني: (لا. . لا تزعم أنك تحبني. . إنني لا أصدقك، حقاً إنك شجاع جداً، ومثقف واسع الثقافة؟ وأنك تنظر إلى المستقبل متفائلاً، إلا أنني فتاة ساذجة لا أصلح لك، وأنت تعتقد في قرارة نفسك أنك لا تستطيع العيش معي. إنني لا أنكر أنك تعلقت بي وأحببتني واعتقدت أنك وجدت فيَّ فتاة أحلامك. . . إلا أنك مخطئ في هذا الاعتقاد، وكنت تسائل نفسك: لماذا أحببت هذه الفتاة! وإنني أعتقد أن طيبة نفسك لا تعترف بذلك وما إن أتمت كلماتها هذه حتى بكت بكاء طويلاً! ولما خف بكاؤها واصلت الكتابة (كم تمنيت أن أرتدي لباس الراهبات وأذهب إلى الدير لولا أنني أخشى أن يكون ذلك عبئاً ثقيلاً على أمي. . وعندها تستطيع أن تحب فتاة غيري. . آه كم أتمنى الموت!!) وكانت تتساقط دموعها على الطاولة وتشكل أقواساً متقطعة. ثم كفت عن الكتابة وأسندت رأسها على الكرسي تفكر! كان جورني جميل الخلق والُخلق، وما أبرعه في الموسيقى! وكم كنت أطرب لصوته العاطفي الحنون! كان يخفي عني حبه للموسيقى، ولكنني عرفت ولعه بها، ولو لم يكن ضابطاً لكان موسيقاراً عظيماً! ولما كفت ناديا عن الكتابة. تذكرته وهو يناغيها بكلمات الحب والغرام. . . وفجأة شعرت أن نفسها تكتب إلى حبيبها (جرونسدف) الطالب (إنه طالب ماهر، وكان يسهر معنا بالأمس، وكنا سعيدين حقاً) ثم مدت ذراعيها على المنضدة وأحنت رأسها، فتذكرت أن جرونسدف يحبها وله الحق أن ينال في كتابتها ما هو أهل له مثل جورني. وشعرت أن طيفاً بدأ يداعب خيالها فأحست بسرور لم تعهده قبلاً وانثالت عليها الذكريات بشدة، وقد سرى هذا السرور من صدرها إلى يديها ورجليها، فكأن نسيماً عليلاً داعبها وحرك شعرها فارتجفت ذراعاها فضحكت ضحكة هادئة، فاهتزت المنضدة والمصباح كأنهما يشاركانها الفرح!! وكانت الدموع تتساقط على الرسالة. . . ثم بدأت الذكريات تتوالى عليها كرة أخرى عن الطالب وحبه لها، فتمددت هذه الذكريات في رأسها وتغلبت عليها وأصبحت موزعة بين جميع الأشياء، فبينما هي تفكر في أمها إذ بها تفكر في الشارع وفي قلمها وفي البيانو، وكانت سعيدة في تفكيرها ووجدت أن كل ما يخطر على بالها حسن وجميل! وكانت تشعر أن السعادة تناديها قائلة: (ليس هذا كل شئ. . بل ستشعرين بسعادة أكثر في الغد، سيهل الربيع والصيف وسيذهب الحبيبان معك إلى (جوربكي) بصحبة أمك، وسيزورك جورني في عطلته، ويسير معك في الحديقة فينتعش حبكما سيزورك جرونسدف وستلعبان معاً لعبة الكركت ويقص عليك قصصه الحلوة اللذيذة). . .
وعندما وجدت نفسها تسير في الحديقة وتخيلت جورني يسير معها في ظلمة الليل، ترعاهما النجوم وتحجبهما الأشجار عن أعين العذال! فضحكت لهذه التخيلات الجميلة وتمنت لو تحققت في الحال. ثم عادت إلى فراشها ولم تدر كيف توزع سرورها وفرحها بالقسطاس فقد تغلبت عليها! فنظرت إلى تمثال المسيح المعلق في صدر غرفتها وقالت: (يا إلهي. . . يا إلهي، كم أقاسي!). . .
(القدس)
جمال الدين الحجازي