مجلة الرسالة/العدد 761/مصاب العرب والعربية
→ عود إلى مسألة العقل | مجلة الرسالة - العدد 761 مصاب العرب والعربية [[مؤلف:|]] |
(الفتنة الكبرى) ← |
بتاريخ: 02 - 02 - 1948 |
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية
روعت الأمة العربية ليلة الخميس حادي عشر ربيع الأول بنعي علم من أعلام لغة العرب، وأديب نابغ من أدبائها، وكتاب مبدع من كتابها. فجعت أمة العرب في ابن بار منحها قلبه ولسانه وقلمه عشرات السنين؛ فما حل بها خطب، أو حز بها أمر إلا تصدى له ينصر امته، ويرمى عدوها بنيران من الكلم، يرمى بها عن قلبه ولسانه وقلمه. وما اتهم العرب متهم، أو ازدرى تاريخهم مزدر، أو تجنى على نعتهم متجن إلا انبرى يشيد بالعرب وتاريخ العرب ولغة العرب دفاع ذي الحفاظ الحر العارف الثبت وما كتب كاتب فجار عن القصد في كلمة من العربية أو قاعدة من قواعدها أو أخطأ في رواية من الشعر أو النثر إلا سارع يرده إلى الصواب، ويقيمه على المنهاج وهو في كل هذا لا يدعي ولا يزهي ولا يجور ولا يفخر بل كثيرا ما كان يخفى نفسه بأسماء يستعيرها وإن دل عليه أسلوبه، ونادت عليه طريقته.
وما ضم نديه جماعة من الأدباء - وما كان اشد حرصه على لقاء الأدباء - إلا أفاض في حديثه ودل على تمكنه في الأدب وسعة روايته، وقل أن ينصرف جليسه إلا بجديد يستفيده في اللغة والأدب.
ما احسب القارئ إلا قد أيقن إني عنيت مدرة العربية، الذائد عنها والمجاهد لها محمد إسعاف النشابيبي رحمه الله رحمه واسعة.
فمن شاء فليقرأ كلمته عن اللغة العربية التي نشرها قبل عشرين عاما، ومن شاء فليقرا كلمته عن شاعرنا شوقي وكلمته عن المعري، وخطته عن صلاح الدين في ذكرى موقعة حطين. ومن شاء فليقرأ رثاءه لإبراهيم هنانو ولعبد المحسن السعدون، ومن شاء فليقرا غير هذه من أثاره ليعرف أي قلب كبير فجع به العرب، وأي قلم فياض صوال حرمته العرب. وأي مدد فقدته الأمة العربية وهي في حومة الوغى. وما عهد القراء بعيد بهذه النقل التي والى نشرها في مجلة الرسالة منذ سنين فعرف بطرف من تاريخنا، ونوادر من أدبنا، وغرائب من سيرنا فملا ثارت الثائرة في فلسطين رأينا نقله في آيات الجهاد وأخ المجاهدين لا تدري اجمعها بديهة أم كان لهذا اليوم عدها. ولقد مات رحمة الله وهو ينشر هذه الكلمات تثبيتا للمجاهدين وتوهينا للباغين.
وكان طيب الله ثراه، نسيج وحده، في كتابته وخطابته لا يتقبل أحدا ولا يشبه أحد انم كان صورة نفسه، وترجمان فطرته، ووحي نبوغه وعبقريته.
وحسب الإنسان أن يكون صورة متميزة ونجزة مستقلة واكثر الناس كما قال أبو الطيب:
في الناس أمثلة تدور حياتها ... كمماتها ومماتها كحياتها
وكان محمد إسعاف، طاب مثواه، خلقا من الأدب والمودة والوفاء يحرص على أصدقائه ويبالغ في إكرامهم والاحتفاء بهم، وكان إلى ذلك أبياً متجبرا ثائرا أن سيم خسف، أو عرض أحد لكرامته، أو توهم أن أحدا يحاول الازدراء به. هنالك يتجلى العربي الأبي فيما ورث من أخلاق العرب، وما أشربته نفسه من تاريخ العرب وأدبهم.
وكان، رحمه الله، يحرص في بلده على أن يلقى كل أديب يمر به، ويرى فرضا عليه أن يحتفي به ويؤنسه ويدعوه إلى داره. وكم كانت داره ندوة الأدباء ومجمع العلماء، وقد قال فيها بعض أصدقائه: (ولهذا شدتها على الجبل وفي ملتقى السبل، علما على علم وراية للمروءة والكرم).
لقد عظمت فجعة إسعاف على كل من عرفه حق المعرفة، وتبين الفراغ الذي خلفه هذا العربي العبقري، وإن مصيبة العرب كلهم فيك لكبيرة، وإن خسارة اللغة والأدب بفقده لفادحة: ولكن الرجل ترك فؤاده ولسانه وقلمه في هذه الآثار الخافقة النابضة التي يقرا فيها كل عربي وكل متأدب بأدب العرب علم إسعاف، وأدب إسعاف وحماسة إسعاف وجهاده لقومه.
وبعد فحسب الرجل أن جعل مثله الأعلى محمدا ﷺ، وجعل إعظامه وإجلاله ديدنه وهجيراه. ولقد رأيت في مكتبه من داره لوحا كتب فيه (محمد) وقد علقه على الجدار أمامه يرمقه وهو جالس إلى مكتبة. ولقد قال لي: حسبي هذا الاسم استوحى منه كل خير، واستمد منه كل سؤدد.
وقد حدثني انه كان في أزمة من أزمات حياته يناجي رسول الله قائلا: (يا محمد، خادمك وخادم دينك ولغتك تتركه لنفسه وتسلمه للأحداث).
يا صديقي إسعاف، من لي بقلمك لأرثيك؟ انموا هذه كلمات كتبتها على عجل في هول الفاجعة التي تذهب باللب، ويطيش لها البيان، وان ذكراك لفي قلوبنا وعلى ألسننا وستبقى على أقلامنا ما ذكر الأدب العربي واللغة العربية، وما ذكر تاريخ العرب في العصور الثائرة التي نعانيها.
رحمك الله ورزقنا الصبر في المصيبة، وعوض العرب فيك خيرا.
عبد الوهاب عزام