مجلة الرسالة/العدد 761/فاس عاصمة الأدارسة
→ مسابقة الفلسفة الطلابية للسنة التوجيهية (3، 4، 5،) | مجلة الرسالة - العدد 761 فاس عاصمة الأدارسة [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 02 - 02 - 1948 |
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
بدأ إدريس في إنشاء هذه المدينة ببناء السور أولا وتشجيعا للعمال لإنجاز مشروعه اشترك بنفسه معهم. ويمكننا أن نستدل من وصف كتاب (زهرة الآس في بناء مدينة فاس) لأبي الحسن الجزنائي لكيفية بناء السور أن المدينة كانت على شكل دائري وأن أبوابها قد تعددت حتى زادت عن السبعة. تزل إدريس وحاشيته في المكان الذي عرق فيما بعد بعدوة الأندلس بعد أن خصص مكان لإقامة المرضى شرقي المدينة حتى تساعد الرياح الغربية على أبعاد رائحتهم وحتى يكون تصرفهم من الماء بعد خروجه من المدينة فلا يصل ضررهم إلى سكانها وكما هي العادة المتبعة في بناء المدن الإسلامية الجديدة شرع إدريس في بناء مسجد الشرفا في عدوة الأندلسيين.
واتبع إدريس خطة حكيمة لتعمير عاصمته الجديدة ذلك انه نادى في الناس بان كل من بنى موضعا أو اغترسه قبل بناء السور فهو له هبة لله فتبارى الناس في ذلك فاكثروا من العمارة ونوعوا في الغرس حتى أصبحت المحاصيل وفيرة مختلفة رخيصة أسعارها مما ساعد على ازدياد عمرانها ما كان يقع في ذلك الوقت من حوادث في الأندلس أبان أمارة الحكم بن هشام مما ترتب عليه هجرة بعض الأندلسيين إلى فاس على اثر ثورة أهل الربض وما أنزله بهم من عقاب صارم.
خصص إدريس لهؤلاء المهاجرين حياً خاصا عرف فما بعد بعدوة الأندلسيين وهو إلى الشرق من المدينة واصبح ينزل فيه كل من ترك الأندلس كما نزل الوافدين عليه من القيروان بحي خاص بهم يعرف فيما بعد بعدوة القرويين فكان مدينة فاس عبارة عن حيين كل منهما بفريق خاص.
وكما هو الملاحظ في نشأة المدن الجديدة فان فاس سرعان ما ازدهرت وأصبحت محط رجال كثير من العلماء والفقهاء حتى ينالوا حظ التقرب من رجال هذه الدولة الجديدة فاشتهر اسمها في الآفاق وأصبحت مقصد مسلمي مراكش منذ نشأنها وعلى كل حال إليها يرجع الفضل في تخليد ذكرى دولة الأدارسة ولولاها ما انتبه إليهم المؤرخ.
ومن محاسن هذه المدينة موقعها الفريد؛ فهي بعيدة عن الصحراء المجسدية وعن البحار وأخطارها ولكنها تتصل بهما بطريق غير مباشر. تتصل بالصحراء بطريق بري وبالبحر بنهر سبوا. ثم أن هذه النهر أيضاً يشقها نصفين وتتشعب جداوله بين دورها وأنحائها ثم يخرج منها وقد حمل أقذارها وبعد أن يدبر رحيها. ولهذا النهر وكذلك ميزة خاصة في مياهه التي تساعد على شفاء كثير من الأمراض وأخيرا يجب إلا ننسى انه إلى القرب منها توجد كثير من مقاطع الأحجار وكميات وافرة من الكلس تساعد على نشاط حركة البناء.
وبعد أن اتم ادريس بناء مدينته اخذ يخرج لغزو ما جاوره من بلاد على فترات متقطعة منتظمة ولكن المنية لم تمهله اذ مات في ريعان شبابه قيل مسموما وقيل انه شرق بحبة عنب فمات. واختلفت الروايات في مكان دفنه فبعضها يقول في مسجد الشرفا بفاس وبعضها يقول انه دفن يجوار أبيه في وليلي. وبموته أخذت دولة الأدارسة في الاضمحلال ذلك أن اولاده قد تقاسموا البلاد مما ترتب عليه وقوع الشحناء والتنافس بينهم ومن ثم إلى انقسام الدولة وتفككها ومما زاد الطين بلة تلك الأخطار التي كانت تحدق بالدولة من الخارج.
فالفاطميون ومن قبلهم الأغالبة في أفريقية والمغرب الأوسط والأمويون في الأندلس وكل بعمل على محوها. وهكذا ترتب على هذا الاضمحلال السياسي اضمحلال حالة مدينة فاس فافل نجمها بعد أن سطع فترة من الزمن واصبح لا يقصدها إلا من أراد التبرك بزيادة بعض قبور الأدارسة لذلك لا نعجب إذا رأينا من الأمثلة المشهورة (فاس بلد بلا ناس).
أما لماذا اختارت إدريس الثاني هذه التسمية (فاس) لمدينته فقد تعددت في ذلك الروايات وان اختلف بعضها في التفاصيل فان اغلبها قد اجتمعت على وجود مدينة قديمة قبلها قد طمرت معالمها وانمحت أثارها حتى جاء إدريس الثاني فجددها في شكل مدينة فاس. فقيل أن هذا الاسم قد اختاره لها إدريس عقب ذهابه لرؤية المكان الذي تم اختياره إذ صادفه رجل اسمه على انه (فاس) فسمى المدينة باسمه. ولكن هذه الروايات ضعيفة، ولا يمكن الأخذ بها. ويرى صاحب الدرر السنية ويشاركه في هذه الرواية الجزنائي أن احسن ما يمكن أن نعلل به هذه التسمية أن الإمام إدريس عندما خرج لمعاينة المكان الذي اختير لمشروعه مر به شيخ كبير من رهبان النصارى قد زاد عمره على المائة والخمسين سنة كان مترهبنا في صومعة قريبة من تلك الجهة؛ فوقف على مولانا ادريس وسلم عليه ثم قال أيها الأمير ما تريد أن تصنع بين هذين الجبلين. قال أريد أن اختط مدينة هنا يعبد اله تعالى بها، ويتلى بها كتابه وتقام بها حدوده. قال أيها الأمير أن لك عندي بشرى. قال: وما هي أيها الراهب؟ قال: انه اخبرني راهب كان قبلي في هذا الدير له منذ توفى مائة سنة انه وجد في كتاب علمه انه كان بهذا الموضع مدينة تسمى (ساف) خربت منذ ألف سنة وانه يجددها ويحيى أثارها ويقيم دارسها رجل من آل بيت النبوة يسمى ادريس، ويكون له شان عظيم وقدر جسيم لا يزال دين الإسلام قائما بها إلى يوم القيامة فقال مولانا إدريس: الحمد لله أنا إدريس وأنا من آل بيت رسول اله ﷺ وأنا بانيها أن شاء الله تعالى. فلما بناها قيل له: كيف تسميها؟ قال: باسم المدينة التي كانت قبلها (ساف) ولكن اقلب اسمها الأول ونسميها بقلبة وسماها (فاس) وهذه العامة المتفق عليها ولكن في الغالب انه كانت هناك مدينة قد اندثرت معالمها وهذا ما دفع الجزنائي إلى القول (ويدل على ذلك ما رواه البرنس أن رجلا من اليهود احتقر أساس دار من قنطرة عزيلة من المدينة المذكورة. . . فوجد في الأساس قطعة رخام على صورة جارية منقوش على صدرها بالخط الهندي هذا موضع حمام عمر ألف سنة ثم خرب فأقيم موضعه بيعة العبادة)
ويذكر لنا الجزنائي رواية أخرى ينقلها عن صاحب الاستبصار وهي أن الأمام إدريس عندما شرع في بناء مدينته كان يعمل فيها بيده كما سبق ذكره فصنع اله فاس من ذهب وفضة فكان الإمام إدريس يمسكه بيده ويبدأ به الحفر ويختط به الأساسات للفعلة فكثر ذلك على السنتهم طوال مدة البناء فكان الفعلة يقولون هاتوا الفأس، خذوا الفأس، احفروا بالفاس، فسميت مدينة فاس. وربما كان هذه الرواية اقرب إلى الصحة على الرغم من أن الجزئاني لا يأخذ بها ولا يؤيدها بل يعارضها لأنه يرى فيها ما يتنافى مع تمسك الإمام إدريس بعقيدته الإسلامية التي تتنافى مع استعمال الذهب بهذا الشكل وعلى أي حال فان استعمال الذهب أو الفضة بهذا الشكل، ما زالوا معمولا به حتى يومنا هذا عندما يقوم بعض الملوك أو من يمثلهم في الاحتفال بوضع الحجر الأساسي لأية منشاة جديدة لذلك نراه ينتقل إلى ذكر رواية أخرى وجدوا فأسا كبيرا طوله أربعة أشبار سعته شبر واحدة وزنته ستون رطلا من علم الأوائل فسميت المدينة به.
بقيت كلمة صغيرة عن جامع القرويين ذلك انه لما كثر على مدينة فاس الواردون أيام يحي بن محمد بن ادريس كان ممن قدم عليها من القيروان محمد بن عبد الله. الفهري القروي ونزل كما هو المتبع بعدوة القرويين مع اهل بلده. وعند وفاته ترك ابنتين قد تحصل لهما ميراث كثير رغبتا أن تصرفاه في وجوه البر فلما علمتا أن الناس في حاجة لبناء جامع كبير في كل عدوة من فاس لضيق الجامعين القديمين بالناس، شرعت إحداهما في بناء جامع عدوة القرويين أما الآخر فقد تكفلت ببناء جامع الأندلس. وفي سنة 307هـ أزيلت الخطبة من جامع الشرفا لصغره وحل محله في ذلك جامع القرويين لاتساعه وكبره والذي اصبح ملتقى العلماء والطلاب لسماع بعض الدروس الدينية فيه وما زالت حلقاته عامرة إلى يومنا هذا.
مصطفى بعبو الطرابلسي