الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 761/ترجمة وتحليل

مجلة الرسالة/العدد 761/ترجمة وتحليل

بتاريخ: 02 - 02 - 1948


جزيرة الحب والجمال

بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

. . . عند مدخل خليج (نابولي) بإيطاليا جزيرة جميلة تسمى (إيسكيا أوحت إلى الشاعر الفرنسي المشهور (الفونس دي لامرتين قصيدة من عيون الشعر، فيها وصف رائع، وخيال خصيب وتصوير دقيق!

اختار الشاعر لوصف الجزيرة انسب الأوقات وأدناها إلى سعة الخيال، فعرض علينا صورة من إيذان الشمس بالمغيب وطلوع القمر بعدها في رفق وأناة فكان مبتكر في تصويره رائعا في خياله.

أصغ إليه وهو يرسل الشعر أنغاماً حلوة في مستهل قصيدته:

1 - (آن للشمس أن تحمل النهار إلى عوالم أخرى

فاخذ القمر يطلع في الأفق الخالي بلا ضوضاء

وراح - وهو يخترق الظلمات الحالكة -

يلقى برقعا وضاء على جبين الليل!)

فجعل القمر ينتظر رحيل الشمس بنهارها إلى عوالم أخرى لا تحد، ليطلع بليله في أفق خال ما فيه من الناس أحد. وجعله وقورا يتعالى في هدوء وسكون ليبدل دجى الليل نورا فإذا جبينه وضاح بعد أن ألقي عليه برقعة الشفاف، ثم يبدع في إبراز نور القمر فيدعوك إلى الطالة النظر ورجع البصر:

2 - (انظر من أعالي الجبال إلى أنواره المتموجة

كيف تغرق السهولة كأنها نهر من اللهب،

وكيف تنام في الأودية وتتزحلق على الهضاب

أو تتدفق من بعيد من صدر يتلألأ بالمياه!)

فلو تابعت أنوار القمر كما تابعها (لامرتين) لخيل إليك كما خيل إليه إنها تستطع من وراء رءوس الجبال، فرايتها تشع رويداً رويدا على السهولة، فإذا هي تنساب من فوقها كالأمواج: فتنقلب السهول في عينيك نهرا غزيرا؛ ولكنه نهر من السنة اللهيب لا من منهمر الماء؛ ورايتها تهبط إلى الأودية وئيدة مسترخية وإذا هي تستلقي عليها كالذي أخذته سنة من النوم: فتستحيل الأودية في عينيك فرشا وثيرة، غير إنها فرش بطائنها من النجم والشجرة لا من سندس وإستبرق؛ ثم رايتها تثب من نومها موفورة النشاط، وتتسلق الهضاب بخفة ورشاقة ثم إذا هي تزحف عليها في دلال كالذي استهواه الجليد فتزحلق عليه: فتصبح الهضاب في عينيك قطعا متجاورات من الجليد إلا انه جليد متناثر الحصى لا من متساقط الثلوج وبعد ذلك تراها تعدو كالسهم إلى مكان سحيق وتطوف في مجهل بعيد، فتبين من شعاعها إنها تحوم حول عيون وينابيع، فتغوص فيها ثم تتفجر من صدرها وتتدفق: فتصير الينابيع في عينيك حسانا باديات النحور بيد أن نحورها تتلألأ بلجين الماء لا بالدر والياقوت!

ويتأمل الشاعر المشهد تأملة الفيلسوف الذي يريد أن يتعمق كل مبهم، ويستبطن كل سر، ويجلو كل غامض ولو كان بعيد المتناول وعر الملتمس، غائبا عن الأبصار - فيرى بعين بصيرته ما لم يره بعين وجهه: يرى ظلا ممدودا ووميضا غامضا، فأما الظل فما مده إلا نتيجة عن منطقة النور وانزواؤه في بقاع الظلام الشاحب نورا وهاجا، وأن يضفي على ليله الفاحم البهيم شعاعاً من نهار لا زوردي بديع، ويزيد هذا الوميض غموضا وريبة وإبهاماً واستغلاقاً انه يعود حائلا خفيفا باهتا ضعيفا حيثما بعد عن العين في فضاء لا يتناهى واتساع لا يحد ومع ذلك فالآفاق تؤثر أن تسبح معه هنالك لتغرق في نوره.

3 - (والوميض الغامض. . في الظل الممدود

يضفي على الظلام الشاحب شعاعا من نهار لازوردي،

ومن بعيد. . . في فضاء لا يتناهى

يسبح بالآفاق غريقة في نوره الباهت!

ولكن لا مرتين يريد أن يصف الجزيرة وجمالها، لا الشمس وغيابها، ولا القمر وطلوعه، وإنما عرض للشمس في بيت وللقمر في ابيات، ليستلهم من ذهاب النهار بضجته، واقبال الليل بروعته معاني الخلود في قصيدته.

من أجل ذلك عاد إلى الجزيرة بقلبه ووجدانه وقلب البصر بين البحر وبين شطأنه، فوجد البحر عاشقا وألفى الشطئان معشوقة؛ وما كان البحر ليعشقها لولا إنها ساكنة وادعة وهو عاصف هائج - ولا يغلب العاصفة كالسكون، ولا يهدئ الهياج مثل الوداعة - فليسرع إلى تقبيل أقدامها كلما اشتدت به ريح ولا يحسبن في ذلك ذلة أو صغارا، ولضم بين ذراعيه جزرها وخلجانها كلما أرغى وأزيد، ولا يخافن في هذا لومه ولا عذلاً، ولتدب الحياة في هاتيك الشواطئ، فعشاقها (البحر) ينفخ فيها من روحه، وينعشها بأنفاسه الرطبة الخارجة من أعماق أعماقه. . . .

4 - (والبحر عاشق هذه الشطئان الوادعة

يهدئ وهو يقبل أقدامها، من عواصفه الهائجة

ثم يضم بين ذراعيه هذه الخلجان والجزر. . .

فتنتعش الشواطئ بنفسه الرطيب. . .)

ولا يفوت الشاعر أن يسجل منظرا عجبا سريع التغير، شديد الانقلاب كثير الالتواء: منظر الموج إذ يتقدم متلاحقا متدافعا، ثم يتراجع متقهقرا مهزوما، ففي تقدمه شوق كشوق المستهام إلى حبيبته ساعة يهذي كلوعة المتحسر ساعة يعود إلى الحقيقة، فيعلم أن الطيف خيال وان الخيال سريع الزوال.

5 - (ومن بعيد. . . يسر العين أن تتابع منظرا عجباً

فترى الموج يتقدم تارة ويتراجعأخرى

كالمدنف الولهان يضم إليه في هذيانه. . .

عذراءه التي تمثل أمامه ثم نقلت من بين يديه!

وكما رأى بعين بصيرته ما لم يره بعين وجهه، يسمع (لامرتين) بأذن قلبه ما لا يسمعه بأذن رأسه: يسمع لحن الموج والشاطئ إذ يتنفسان بتأوه وأنين أما الموج فيتنفس في تقدمه وتراجعه ويبث في الفضاء شكواه! وأما الشاطئ فيتنفس كلما ارتطم الموج بصخوره ويبث مع الفضاء شكواه! فكلاهما يتنفسان تنفس الصبي الحالم النائم الذي لم يبل الحياة بعد ويبث مع ذلك شكواه!. .

حقا إنها أصوات غامضة لا نعرف مبدأها ولا منتهاها، ولا نصل إلى سرها ولا نجواها؛ ولكنها - على غموضها - تطرب أسماعنا وتشغف اذاننا، وتشفغ اذاننا، وتسعد نفوسنا فهل هي أصداء لألحان السماء؟ أم هي أنفاس الحب ترددها ارض الشاطئ وموج البحار؟ 6 - (اثنان كمثل الصبي النائم إذ يتنفس

بصوت غامض يبث في الفضاء شكواه.

ليت شعري أصدى للسماء ما يطرب منه أسماعنا؟

أم نفس الحب ترددها الأرض والبحار؟

ثم يعود إلى الموج فلا يراه ثابتا على حال، يعلو طورا كالجبال ويهبط يتلاشى، فلا يبقى من لججه شئ، كهذه الإنسان يولد طفلا فيتم تكوينه ويبلغ اشده في الشباب، ثم يضعف مع تصرم الأيام كلما رد إلى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا، ثم يلقيه العجز على فراش الموت فيحتضر بعد أن يبلو الحياة حلوها ومرها ويجرب منها سعدها ونحسها، حتى إذا عجز عنها زهد في أمتع ما فيها وإذا ذاق من لذائذها شيئا ضاق به ذرعا وطلب سواه فما يزال يتحسر على المفقود ويسام من الموجود حتى يطوى اجله في كتاب.

فكأن تنفس الموج أنين الكئيب الذي يحزن على ما فاته من مفقود، لا على ما فقده من موجود فهو ملول مما عرف، راغب فيما لم يعرف وهو من ملله ورغبته يتنفس في ضيق، ويتلوه في حنين!

بل كان كل ما في هذه الطبيعة - لا الموج وحده - يتحسر مثلنا معشر الناس حتى في ساعات الهناء والنعيم!

7 - (إنه يعلو ويهبط. . . ويولد ثم يحتضر

كأنه ضاق ذرعا بأنواع اللذائذ

وي! كان الطبيعة تتنفس في هذه الليالي

متحسرة مثلنا حتى في ساعات الهناء!)

ويرى الشاعر عند هذا أن الإنسان خلق عجولا، يسرف في أنواع طلبه، ويزيد في ضروب رغبته، ولا يقنع بالحاضر من لذته، فيشيح بوجهه عن قليل بين يديه، حبا لكثير لا يصل اليه، فتضيق عليه الأرض بما رحبت ويعيش كاسفاً باله قليل الرجاء؛ فهو لم يمت فيستريح ولكنه ميت بين الأحياء فينادي لامرتين هذا الميت - وهو في اعتقادي لا ينادي غير نفسه - ليثوب إلى رشده، ويفتح لتيارات الحياة روحه: إذ الحياة لا تضيق إلا بضيق الأنفس ولا تظلم إلا بظلمها، كما لا تتسع إلا بسعتها ولا تشرق إلا بإشراقها. فليفتح الإنسان للحياة ما استغلق من أبواب قلبه حتى يشعر بأنه حي، أما إذا جعل دونها سدا فلا يلومن إلا نفسه إذا بقى ميت الروح. وليتلق الإنسان لذاذات الليل الحاضر، ومتعه العاجلة بجماع حواسه، حتى يشترك سمعه وبصره وذوقه وشمه وكل عضو فيه في الشعور بالحياة الحقيقية. وليغتنم الليل إذا سجا؛ فإن له لباسا يغشى وحجابا يستر، وظلا يناجي، وكوكبا يهدي. وليسكر بخمرة الغرام. فإنها أشهى المدام: أما إذا لم يفعل فهو في نظر هذا الشاعر ميت الروح حقيق بان يسمع النداء:

8 - (أيها الميت! افتح روحك لتيارات الحياة

وتلق بجميع الحساسات لذاذات الليل

فظله يناجيك ليسكرك بالغرام وكوكبه في السماء يطلع ليهديك!).

وإن في هذا الإغراء ما كان لمثلي أن يتقبله بقبول حسن ولا كان لي أن اسكت عليه لولا إني أمام قصيدة نصيبي منها ترجمتها وتحليلها، ولولا ما يشفع للشاعر من انه في (جزيرة الحب والجمال) وان له في تلك الجزيرة محبوبة تواعدت معه على اللقاء عند هضبة قريبة واتفقا على أن توقد نارا لتكون منارا يضئ بين الحب فيجد هدى في الاستدلال إلى الطريق. فالشاعر هنا يخاطب نفسه ويصور أحاسيسها قبل أن يخاطب أحداً أو يصور أحاسيس أحد. وإن ما في هذه القصيدة من قوة الروح لعائد إلى إنها نابعة من إعجاب قلب (لامرتين) في شئ من خصوصيات حياته.

فالنتيجة التي يريد أن يبلغها بنظمه هي إحاطة نفسه بشيء من معاني الجمال التي لا تتناهى في الزمان والمكان، وفيما تسمعه الأذان وفيما تبصره العين وفيما تمسه اليد وفيما يحسه القلب، قبل أن يصل إلى موعد اللقاء الذي تبدو فيه الحبيبة من بعيد منحنية انحناءة الزنبقة العطشى إلى الماء، لأنها عطشى إلى لقاء المحبوب، تتسمع كل نامة في الليل وكل حركة وتحسبها خطاه التي تذرع الأرض في سبيله، إليها لتكتحل عينه بمرآها، ويفرح قبلها برضاه.

9 - (أترى على الهضبة ناراً ترتجف من بعيد

هناك بيد الحب منار يضيء

هناك تنحني الحبيبة انحناءة الزنبقة وقد أعارت إذناً صاغية تتربص خطى المحبوب!).

هذه (ايسكيا) جزيرة الحب والجمال وصفها لامرتين فاحسن وصفها وسكب روحه كلها في أبياتها، لذلك اخترتها من بين قصائده لأترجمها وأحللها ما استطعت دليلا على إرهاف حسه وصدق شعوره وعمق خياله، ولأسجل إعجاب النثر بشاعر عظيم.

صبحي إبراهيم الصالح