مجلة الرسالة/العدد 760/فيدون
→ الوكر المهجور. .! | مجلة الرسالة - العدد 760 فيدون [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 26 - 01 - 1948 |
للأستاذ كمال دسوقي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
- وهنا - وبعد هذه الأدلة على خلود الروح التي قدمها سقراط - ما يزال بسيمياس وسيبيز بقية من شك تبدو في تهامسها - حتى إذا استوضحهما سقراط جلية رأيهما في تدليله على خلود الروح تقدم سيمياس، فشكك في إمكان البحث عن حقيقة الروح ما دمنا في هذه الحياة، ورأى مع هذا أن البحث عن كنه الروح ومصيرها أمر لابد منه - ثم قدم للتشكيك في أدلة سقراط نظريتهم الفيثاغورسية القائلة بأن الروح هي انسجام عناصر البدن واتساقه - والتي لو أخذنا بها لجاز أن تفتى الروح قبل فناء الجسد - على نحو ما يفنى النغم المنسجم الإلهي لمجرد تمزق أوتار القيثارة أو تحطمها مع بقاء مادتها.
وهنا يشاء سقراط أن يعارض فيثاغورية بفيثاغوري، فيحث سيبيز على مناهضة زميله، ويقول هذا إنه يؤمن بأزلية الروح في عالمها الأول - ولكنه لا يعتقد بخلود الروح في عالمها الآخر. وهو إذ ينكر عليها الخلود لا ينكر قوتها وسموها وبقاءها على ضعف البدن وخضوعه وفنائه، وليس ينهض لديه دليلاً على هذا الامتياز ما يقول به العامة من ضرورة بقاء النساج بعد موته زمناً أطول لأن آخر معطف قام بنسجه لم يزل باقيا. بل كل ما يدل عليه هذا التشبيه أن كل روح تفنى عدة أجساد كما أفنى النساج عدة أثواب - ومن يدري - فلعلها لكثرة ما تعاني من إرهاق التولد والوفاة وتكررهما تفنى ذات مرة إلى الأبد. دون أن نحس بها يكون لنا بمصيرها علم - إذ لا قدرة لنا على تتبعها في كل جسد جديد تحل فيه. وعلى هذا - فما لم نستوثق من خلود الروح إلى الأبد - لم نزل نرهب الموت.
ويأخذ هذا القول من نفس السامعين، ومن نفس الذين يقص عليهم فيدون بعد - كل مأخذ - فيرتابون ويشكون في كل ما قيل، ويعاودهم الجزع والإشفاق على مصير الروح، ولكن سقراط يستجمع فطنته ولباقته ليستأنف الجدل أقوى مما كان. وليطمئن المجتمع على أن أرواحهم بعد الموت لن تذروها الرياح، فيداعب خصلات شعر فيدون، ثم يحذر من المغالاة في كره المنطق، وعدم الثقة بالناس نتيجة الجهل بالعلم، وقلة الخبرة في اختيارهم - وكون أكثرهم شريرين وأقلهم أخياراً - والمآل كذلك في البراهين والأدلة، التي يظهر لنا كبار المجادلين أكثرها باطلاً وأقلها حقاً فيكرهون إلينا الأدلة فلا نثق بها أو نوقن بمعرفتها - ويحاول سقراط أن يبين لمحدثيه حقيقة موقفه من الجدل، وبعُده عن أن يخدعهما أو يخدع نفسه، ثم يطلب إليهما أن يقوِّماهُ إذا أخطأ، وأن يعملا معه لنصرة الحقيقة.
ويعود سقراط إلى تلخيص شكوك صاحبته في قضية أو قضيتين، ثم ينتزع منها إقرارا أكيداً على ما في قوله بالتذكر وأزلية الروح من طرافة وصدق لا يشكان فيه، ثم يناقض هذا التسليم منها برأيها في الروح كاتساق للبدن، قائلا إنه إذا كانت الروح تشبه انسجام النغم، وكان البدن هو أوتار القيثارة ومادتها فلا يعقل أن يكون للروح توافق قبل وجود البدن الذي هو القيثارة في مذهبهما. بل لابد - لو صحت نظريتهما - ألا يتم توافق الأصوات والنغم إلا بعد الأوتار وتنافرها - كما أنه يفني قبلها جميعاً. وينتهي بهما سقراط إلى ضرورة إسقاط أحد الرأيين، فيطرح سيمياس مبدأه لأنه ظني، ويسلم بنظرية التذكر لأنها عنده يقينية - ويستطرد به سقراط فيبين له أن الانسجام نتيجة تناسق الأجزاء، ولهذا كان يتدرج بين التناسق التام والتناسق الأقل - تبعاً لتفاوت تناسق الأجزاء في ذاتها كعناصر - مكونة لهذا المركب، وأن الروح إذن تصبح تنافراً فيما لو اتصفت بالرذيلة، لأن الروح هي دائماً التي تقود الجسد، وتفرض عليه رغباتها - فلا هي إذن في انسجام معه - ولا هي نتيجة له كالأنغام للقيثارة.
ويردد سيبيس مخاوفه الأولى من فناء الروح لحلولها في عدة أجساد، فيرى سقراط أن هذا يمت بصلة إلى موضوع الكون والفساد. ويقترح أن يدلي إليهم فيه بتجربته. ومؤداها أنه فتن منذ حداثته بالعلم الطبيعي ظناً منه أنه العلم الذي يبحث علل الأشياء - من أين توجد - إلى أين تصير، وفيم كان وجودها وفسادها، وما العنصر الذي تفكر به. . الخ ولكنه لم يجد لدى هذا العلم ما يقوله في هذه الأمور، وطبيعي ألا يجدها - فما يريده هو ليس من مباحث علم الطبيعة - ولكنه إلى الميتافيزيقا أدنى - والنتيجة أن تحثه عن علل هذه الأمور في علم الطبيعة قد شككه في أبسط معارفه - ثم إنه وجد بغيته في عبارة قيل له إنها توجد في كتاب لأنكساغوراس (وهي أن العقل هو العلة المدبرة لكل شيء) فراح يسعى وراءه ويعلق عليه آمالا كباراً - حتى إذا جاءه لم يجده سيئاً. . . لقد كان سقراط يبحث حينئذ عمن يقول له، إن الكون في أحسن صورة له - وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان - ولكنه - يا للأسى!. وجد أنكساغوراس بعد أن ألقى بعبارته الجميلة - هذه جزافاً - يبعد في تفسيرها عما كان يريده سقراط أن يفعل - فأين إذن قوله بالعقل - وفيم إذن رجوعه إلى ما قال الأولون من خلط؟ لقد كان ينبغي عليه أن يعلل بقاء سقراط قابعاً هكذا في سجنه - بأن العقل هو الذي يشير عليه بهذا ما دام الأثينيون قد أرادوا ذلك ولو ظلماً - لا أن يأتي بتعليلات أخرى ولو كانت هي العلل الحقيقة في على الطبيعة، هو يريد من علم الطبيعة أن يبحث عن العلل الخفية والأسباب البعيدة - لا القريبة. . التي يسميها هو حالة - وبالجملة يريده أن يعلل كل شيء يرده إلى قوة عليا مدبرة تتصف بالعقل والخير والكمال، وهو ما لم يجد سقراط من يستطيع أن يعلمه إياه.
وعاد سقراط من دراسة هذه المذاهب خاوي الوفاض، وكل همه أن يبقى على عين بصيرته، ونقاء روحه - أو (عيانه) - الذي يستطيع به أن ينفذ إلى باطن الأشياء يتأملها ويتعرف حقيقتها، ويفض يده من الأشياء ليبحث عن صورها الكاملة في عالم المثل - وقولة: (هذا سبيلي التي سلكتها: فرضت بادئ الأمر مبدأ. . . . ثم أخذت أثبت صحة كل ما اتفق معه. . . الخ ص264 من الترجمة العربية) حجة يجب أن يقف عندها طويلا طلاب المسابقة - لأنها تثبت لسقراط السبق في القول بنظرية المثل كما عرضت لأول مرة في محاورة برمنيدس، باعتراف أفلاطون - وهو كاتب الحوار - ولكن مناقشة زينون وبرمنيدس إلايليين لهذه النظرية الجديدة التي يعرضها سقراط وهو في العشرين من عمره (سنة 450 ق. م - كما تدل عليه ظروف المحاورة) - قد حملت هذه المناقشة سقراط على التراجع والحذر، والعمل على أن يجمع لنظريته الأدلة التي تقويها - حتى لا يهاجمها أحد آخر غير هذين، دون أن يتحدث عنها إلا في ظروف خاصة، وفي هذه الحجة وحدها ما يكفي للرد على المؤرخين الذين لا يريدون أن يعترفوا لسقراط بنصيب في نظرية المثل.
إن الأشياء الجميلة توحي إلينا بالجمال المطلق، والخِّيرة بالخير المطلق، والعادلة بالعدل المطلق؛ فهذا مثل كلية مطلقة تذكرنا بها الأشياء الجزئية النسبية التي تدركها حواسنا، وهذه الأشياء جميلة وخِّيرة وعادلة بقدر مشاركتها في مثال الجمال والخير والعدالة، وكذلك مثل الكبر والصغر والتساوي، وبهذا نكون قد أثبتنا نظرية المثل ومشاركة الأشياء المحسوسة فيها مشاركة نسبية تتفاوت بين الكبر والصغر أو تجمع بينهما بالنسبة إلى شيء وآخر. أما المساواة التامة فلا يمكن أن تصلها الأشياء لأنها لا توجد إلا في مثال التساوي المطلق الذي تنزع إليه هي أبداً.
والكبر والصغر إن أمكن اجتماعهما في شخص بعينه بالنسبة إلى شخص وآخر، فإن مثالي الكبر والصغر لا يمكن إلا أن يكونا متضادين، لأن المثل كلية مطلقة بينما الأشياء المشاركة فيها جزئية نسبية. وبهذا يصح أن يتولد الصغير من الكبير، أو الحي من الميت، دون أن يعني ذلك تولد الكبر من الصغر والحياة من الموت - هي أن الأشياء التي تشارك في مثلها إلى حد كبير فتعارض مع أضدادا تعارض مثلها ذاتها - لأن جزيئاتها تصبح هي الأخرى مشاركة في المثال - كالنار والثلج - كل ذرة أو جوهر فيها مشارك في مثال الحرارة والبرودة. وكالزوجي والفردي من الأعداد - كل وحدة مما يدخل في تركيبها من العدد إما واحد واحد، أو زوج زوج - فالثلاثة ثلاث وحدات، والأربع وحدتين زوجيتين،. . الخ وهذه الأضداد تتعارض وتطارد، حتى يتراجع أحدها ويثبت الآخر. وتراجعه لا يدل على فنائه بل هو مجرد تراجع أمام خصم - أو التسليم له -.
وقس على هذا الموت والحياة، فهما متنافران متطاردان أبداً لا يتضمن أحدهما الآخر، وإن أمكن نشوء الحيِّ من الميت كما كان قرر سقراط - وإذا تأملنا الحياة وجدنا أن لها مبدأ ملازماً وشرطاً ضرورياً لا توجد إلا به هو الروح - وهو لمشاركته الكاملة في مثال الحياة لا يقبل الموت بدوره. فالروح كمثاله الذي يشارك فيه - مثال الحياة - غير قابل للفناء، اي أنه أبدي خالد - ولكنه يتوارى ويختفي - ولا يزول. إذا غلبه خصمهُ: الموت. فالروح الشاركة في مثال الحياة يتصارع عليها مبدأ الخلود والفناء , وحين يتغلب هذا الأخير تتراجع الروح وتختفي ولا تزول - لأنها بطبيعتها خالدة باقية يستحيل عليها أن تقبل ضدها: الفناء - أما البدن فهو الذي يفنى لأنه مشارك من قبل في مثل الموت والفناء.
الروح إذن خالدة أبدية. وهي أحق بالرعاية من البدن الفاني لأن كل خطر يتهدد مصيرها يهددها إلى الأبد - وإذا جاز لنا أن نفرح بخلاص أرواحنا من أجساد=هـ فيجب أن نكون قد هيأنا لها أسباب السعادة بمزاولة الحكمة والفضيلة. فهما زادها إلى الآخرة.
والطريق إلى الآخرة عسير ملتو، لا تهتدي له إلا الروح الفاضلة الحكيمة، حيث تخلد في نهاية في النعيم السرمدي. أما الأرواح الفاسدة الشريرة فتضل طريقها وتمضي متعثرة حتى تستقر في الشقاء الأبدي.
والحياة الآخرة يتقدم سقراط في وصف منازلها ومواضع الأرواح الخيرة والشريرة منها والمراحل التي تمر بها كل من هذه وتلك في نعيمها وسعادتها، أو في عذابها وهو أنها وبألمها، وهو يطلق لخياله العنان في هذا الوصف على ما وقف عليه من كتب الأساطير اليونانية وأقوال الشعراء. ولا يريد أن يقطع بصدق هذا الوصف كما ينبغي أن يفعل الحكيم.
ثم إن سقراط يكرر لأصحابه النصح أن يعنوا بأمرهم ومصير أنفسهم، وألا يدَّعوا ما لا يعلمون فيضروا أنفسهم، وُينبه رفاقه إلى أنهم إنما يوارون منه الثرى الجثة وحدها. أما الروح فهي صائرة إلى النعيم، وفي هذا عزاء الأقريطون. ثم يعد خادم السم أن يبادله جميلا بجميل، ومعروفاً بمعروف، فلا يؤذيه ولا يسوءا كما يفعل غيره عند موتهم. وحين يعود يستوضحه سقراط طريقة تعاطي السم، ثم يصلي، ويتجرع الكأس.
ويتباكى الرفاق فيهدئ سقراط روعهم ويخفف لوعتهم - ويرميهم بالجبن والأنوثة، ويوصى بدين كان له على إسكلابيوس ثم يسلم الروح. . .
كمال دسوقي
المدرس بالمنصورة الثانوية
شاعرة ترثي أباها
حنانك قلبي كفاك انهيارْ ... فما من شِراك المنايا فرارْ
أما كُنت تعلمُ أن المنايا ... كُؤُوسٌ على كل حي تُدار
أديرتْ على الخلق من آدم ... كُؤوسُ المنايا فلم تنج دار
أبي كان بيتك كهفاً رحيباً ... وأنساً بكل صديق وجار
فما ردَّ باُبك ذا حاجةٍ ... وكنْت المجير إذا الدهر جار
كريم الخلال جوادٌ بما ... لدْيك وقد شحَّ أهلُ اليسار
أَبي كُنت لي في حياتك نوراً ... هداني كما يُهتدي بالمنار
فهلاًّ عن الموْت حدَّثتني ... وعمَّا نُلاقي بتلك الدَّيار؟ كأني سمعتُ الملائك إذْ ... تلقوك بدرا عليهم أنار
وقالوا اتخذْ منْ جنان الخلوُ ... د مقرَّاً رحيباً فنعم القرار
أَيا حُرقة الشوق لو كان قلبي ... حديداً لأردي به الانصهار
أبي كنت للعين والقلب نوراً ... فما لك أبدلت نوراً بنار
سَرتْ في ضلوعي وحاقت بقلبي ... فأسعفْته بالدُّموع الغزار
فلا النَّار ولت ولا العين كفت ... ومالي بهذا الفراق اصطبار
فعجَّلْ إلهي بصبر جميلٍ ... فمالي سواك به يُستجارْ
ناهد طه عبد البر