الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 760/القَصَصُ

مجلة الرسالة/العدد 760/القَصَصُ

بتاريخ: 26 - 01 - 1948


قوة الحب

للقصصي الإنجليزي الشهير فيرنيك مولنار

بقلم الأديب سيد أحمد قناوى

(حيث لا يوجد الذهب، يوجد ما هو أقوى منه ذلك هو الحب القوى الجارف الذي لا يقاوم)

أخذ الهواء يعبث بالدخان الذي يتصاعد من إحدى مداخن قصر الكونت (سكارلث) ولكن أحداً في الأرض الفسيحة لا يستطيع أن طهاة (الكونت) يعدون له طعام الإفطار في الساعة المبكرة، ولو تسنى لأحد من سكان هذه القرى التي بعثرت حولها قصور النبلاء أن يدرك حقيقة ما يحدث في قصر الكونت - لعرف أن هذا الدخان يتصاعد من معمل الكيماوي (كونارد سوبابولو) الذي يقيم في قصر الكونت منذ ثمانية عشر شهراً ليحول له الرصاص وغيره من المعادن الخسيسة ذهباً. . .

والواقع أن الكيميائي الكهل لم ينجح في تجربة واحدة من تجاربه العديدة على رغم ما أنفق من الجهد في هذا السبيل.

وكان يبعث بكل ما يصل إلى يده من أموال (الكونت) إلى زوجة قد أنكرها وطفل قيل له إنه ابنه. . .

وعندما أحس بأن (الكونت) قد أخذ يضيق بإقامته ونفقاته، أراه قطعة صغيرة من الذهب لم تتحول من الرصاص ولا من غيره، ولكن (الكونت) الشرير برغم درايته بكل وسائل الخداع لم يدرك أن قطعة الذهب وضعت خفية مع الرصاص الذي ترك يغلي على النار أمام عينيه طوال الليل.

إلا أن هذه القطعة الذهبية، قد فتحت ثغرة في حياة الكيميائي الكهل فإن (الكونت) قد اعتقد أن الرجل ليس جاهلا ولكنه لص يسرق الذهب الذي يستخرجه من الرصاص.

وقد أقسم له الكونت أنه إذا لم يقدم إليه في الصباح قطعة كبيرة من الذهب الخالص فسيقوده بيده إلى أعلى برج في القصر ثم يقذف به إلى أرض الحديقة.

وكان (كونارد) يعرف أنه سيلقى حتفه في غده، فإن (الكونت) لا يحنث في يمينه. فقد أقسم من عام أن يقطع أذني خدمه وبر بقسمه، فأخذ الرجل ينتفض من الخوف، ومع هذا استيقظ مبكراً ووضع بعض الآنية على نار الموقد وهو يعلم أن لا شئ فيها غير بعض المعادن الخسيسة.

ودقت ساعة القصر الكبير السابعة، وعرف (كونارد) أنه من الموت على خمس ساعات، ولكنه كان متفائلا، وقبل أن يخفت رنين دقات الساعة فتح باب غرفته، وهال أن يرى الكونت العجوز بعظام وجهه البارزة يسد الباب بقامته الفارغة وسمع صوته الأجش يقول:

- أين الذهب الذي تستخرجه من الرصاص أيها اللص؟

وجثا (كونارد) بين يديه وهو يقول:

- لا شئ في البوتقة يا سيدي الكونت!

واصفر وجه العجوز ووثب إليه بسرعة، وأمسك بتلابيبه ليقتاده إلى البرج، ولكن الكيميائي قال هامساً:

- تمهل يا سيدي فإني لم أجد الذهب وإنما وجدت ما هو أغلى منه ثمناً.

فضحك (الكونت) ضحكة ساخرة وقال:

- وأي شئ هذا المعدن الجديد؟

- إنه ليس بالمعدن يا سيدي (الكونت) وإنما هو مركب كيميائي يحتوي على قوى الحب الذي لا يقاوم. . .

عندئذ تراخت قبضة (الكونت) عن عنق الرجل وقال:

- وهل أبتلع هذه الأكذوبة أيضاً كنا ابتلعت قصة الذهب ثمانية عشر شهراً أيها المحتال؟

وقال الكيميائي لنفسه: إن المتردد نصف المصدق.

فتنفس الصعداء وراح يتابع أكذوبته:

- ليست هذه أكذوبة بل هي حقيقة أعرف بها كيف أجعلك تقهر قلوب النساء.

واتسعت حدقتا (الكونت) الهرم، فقد كان فيما مضى زير نساء شهير فلما تقدمت به السن ويبست سواعده وبرزت عظام وجهه دعته النساء الهيكل وأشحن بوجوههن عنه، وبدت على وجهه علائم السرور فتابع الكيميائي الكهل حديثه.

- لقد خلطت مسحوق الفضة بالرماد، ثم أضفت إلى المسحوق مواد خاصة أحتفظ بسرها.

فهب (الكونت) يسأله وهو يلهث:

- ثم ماذا؟

- لا شيء إلا أنني سأصنع لك من هذه المواد قطعة صغيرة من المعدن تثبت في مقبض سيفك، فإذا أردت أن تهاجم سيدة بغرامك وضعت يدك اليسرى على مقبض السيف فوق القطعة الفضية الداكنة وثق أنها لن تستطيع مقاومة نظراتك وستنصت من توها لغزلك.

فقال الكونت:

- وهل تثق بهذا؟

- كل الثقة، وأرجو أن تترك لي سيفك الليلة، وفي الصباح سيكون كل شيء وفق ما تريد، وسأترك لك تقدير المنحة التي تمنحني إياها.

واستفاضت الأنباء بقصة القطعة الفضية التي وضعت عند قبضة سيف (الكونت اسكارلت) لتمكنه من غزو قلوب النساء.

وقبل أن تمر ثلاثة أيام كان الكيميائي الكهل قد تلقى ثماني عشرة رسالة من النبلاء الذين يقيمون في المناطق المجاورة بدعوته إلى الإقامة في قصورهم ويعدونه المنح والهدايا لو باح لهم بسر قواه الجديد.

ولكن (سكارلت) كان أبسط يداً كما كان أضن بأن يترك (كونازلد) يبارح قصره.

وفي اليوم الرابع بدأ (الكونت سكارلت) أولى غزواته وقد تقلد السيف الذي يحمل القوى العجيبة. . . فتخير لغزوته قصر سيدة صغيرة موسرة تعيش على مقربة منه وقد فشل أكثر من مرة في التقرب إليها. . . وكانت هذه النبيلة الحسناء تعيش عيشة البذخ تحيط بها اثنتان وثلاثون سيدة من وصيفات الشرف.

فبعث (الكونت) في الصباح الباكر إلى جاريته الحسناء ينبؤها بقدومه عند الظهر. . . وأثارت رسالته ضجة عالية، كانت (الثلاث والثلاثون) سيدة ينتظرنه وكل واحدة منهن تزعم لنفسها أنها أقوى من هذه القطعة الفضية التي وضعت عند مقبض السيف، ولكن سيدة القصر صرفتهن عندما دخل عليها (الكونت) وتقدمت إلى لقائه في البهو الكبير وقدمت إليه مقعداً وهي لا تعلم أن أربعاً وستين عيناً كانت ترقب كل حركاتها من وراء السجف.

واتكأت الحسناء على مقعدها، وكانت حتى تلك اللحظة تسخر من منظر (الكونت) الهرم وتضحك من عظام وجهه البارزة ولكنه عندما وضع سيفه بين ركبتيه على عادة الفرسان أخذت تحدق في السيف، فراعها مرآه، وخلبتها هذه الماسات الكبيرة التي زادها الضوء القليل سواداً.

ولم يفطن الكونت والحسناء الشابة أن اثنتين وثلاثين سيدة يراقبنهما، وقد قررن في أنفسهن أن (الكونت) يبدو مهيب الطلعة.

قال الكونت بثقة:

- إنه يوم جميل.

فقالت السيدة وهي لا تزال تنظر إلى القطعة الفضية ساخرة:

- أجل جميل.

ووضع (الكونت) يده اليسرى على القطعة الفضية وهو يقول:

- وهو دافئ أيضاً.

وأحست السيدة برعدة عابرة وتحركت السجف ودار همس خافت (لقد قبض بيده على القطعة الفضية)،

ولم ترفع الحسناء عينيها عن يده، ولم تلق بالها لحديثه التافه ولكنها كانت تستشعر الخوف فلم تفطن إليه وهو يقترب منها حتى جلس بجوارها في المقعد الكبير وأخذ يقول:

- مم تخافين؟ مني. . . إنني أكن لك احتراماً منذ أمد بعيد. وكان من الممكن أن تسمع السيدة الهمس وراء السجف فقد كانت اثنتان وثلاثون امرأة يتهامسن بعد أن قررن أن الرجل قد انتصر وأنهن يجب أن ينصرفن.

وأحست السيدة رهبة خفية عندما سمعت صوته يقول إنه يحبها منذ أمد بعيد فهمست:

- إن كنت تحبني فارفع يدك عن تلك القطعة الفضية التي تحلى مقبض سيفك.

فقهقه (الكونت) وهو يقول:

- محال!

وازداد تمسكا بقبضة سيفه.

وفي اللحظة التالية كان يطوق خصرها بيده اليمنى ويقبلها، وحاولت الحسناء أن تقف فلم تستطيع وسقط رأسها الجميل كزهرة يانعة فألصق شفتيه بشفتيها وراح يقول هامساً:

- إنني أحبك وسأقصر حياتي كلها عليك.

- وأنا كذلك سأظل لك. . .

ومضت عشرة أعوام كانت مليئة بنجاح غرامي متصل (للكونت سكارلت) لم يقطعه إلا الموت.

وانتقل الكيميائي الشيخ وقد أشرف على التسعين إلى منزل (البارون دويرون) وكان الكيميائي قد هده المرض العضال، ولكن البارون لم يطق صبراً، فقرر في نفسه خطة وذهب إلى الكيميائي المريض يسأله عن سر القوى؛ فقال إلا مريض بصوت خافت متهافت:

أقسم لك يا سيدي (البارون) أن المسألة خرافة؛ فليس هناك قوى سحرية ولا شبه ذلك، فالقطعة الفضية لا فرق بينها وبين حدوة الفرس.

إن سر المسألة: ثقة الرجل بنفسه، وهذه الثقة هي قوة الحب. ولا مخلص لامرأة حسناء من قبضة رجل يثق بنفسه، وإذا وثق الرجل بشيء وثقت المرأة به. إنك ستكذبني وستذهب إلى السيدة التي تريدها وأنت فاقد الثقة بقوتك الحقيقية، وهي القوة الكامنة في عينيك ولسانك وشخصيتك فتفقد كل شيء، ولذا. . . ولم يكد يتم الكيميائي الشيخ حديثه حتى ضربه (البارون) بجمع يده على رأسه يريد أن يسخر منه.

ولكن الرجل قد مات والحقيقة على شفتيه لأن الناس دائماً لا يصدقون الحقيقة!.

(السودان)

سيد أحمد قناوي