مجلة الرسالة/العدد 76/أثر السياسة الحزبية في الأخلاق
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 76 أثر السياسة الحزبية في الأخلاق [[مؤلف:|]] |
كلمة وكليمة ← |
بتاريخ: 17 - 12 - 1934 |
للأستاذ عبد العزيز البشري
لقد عاهدت نفسي من عهد غير قريب ألا أعالج عملاً سياسيا من أي نوع كان، وأن أكتم قلمي فلا يتنفس بحديث السياسة أبدا، فأنني لم أصب من هذه السياسة إلا شراً كبيراً، ولعلي لم أجد بها على وطني خيراً كثيراً، بل لقد يراني بعض الناس صنعت في هذا الباب شراً كثيراً. فان كنت كذلك حقاً فأسأل الله أن يغفر لي ما أسأت من حيث ابتغيت الإحسان. والله ذو الفضل العظيم.
ومهما يكن من شيء فإنني عاهدت نفسي على ألا أعالج حديث السياسة، وقد صدقتها ما عاهدت. على أنني أرى صدري يجيش اليوم بكلام يقتضيني واجب الذمة الوطنية أن أنفثه نفثاً وإلاً مزق صدري تمزيقاَ. وهذا كلام قد يظهر لبعض الناس في صور أحاديث السياسة، ولو قد تفطن هؤلاء إلى ما أريد لأدركوا أنه ليس كذلك، أو أنه، على الأقل، ليس من ذلك النوع الذي أخذت نفسي بألا أخوض فيه أو أتناوله بأي علاج
إنما أخذت نفسي، في الواقع، بهجران السياسة الحزبية، فلا أخب في فتنة ولا أضع. وليس معنى هذا أنني لا أدلي برأي أراه في مصالحة بلدي، أو أنصح به لقومي، أو أنصح به عن معشري إذا كانت الجلى وتربدت وجوه الحادثات. فأنني إن فعلت فقد عطلت مصريتي، وأتمت في حق بلادي، وكنت مختلسا لشرف الانتساب إلى هذا الوطن. وأستغفر الله العظيم من هذا الذنب العظيم!
على أنني من يوم ذلك العهد لا أدع فرصة للحديث في شأن الوطن إلا تحدثت، وهذا الراديو أحاضر منه كل أسبوع، وهذه صحف شتى، ومجلات مختلفة الألوان أرسل القول فيها كلها، فأتناول الموضوعات الاجتماعية، والأخلاقية، والأقتصادية، بل إنني لألح على بعض موظفي الحكومة بالنقد القاسي على تصرفهم فيما بين أيديهم من الشؤون العامة. فإذا عد هذا كله من السياسة، فهي ليست السياسة التي جمعت العزم على هجرها من ذلك العهد البعيد
والموضوع الذي أتناوله بالكلام اليوم هو أثر السياسة في الأخلاق العامة، لا ألحظ في حديثي حزباً معيناً ولا أظاهر شيعة من الشيع السياسية القائمة في البلاد. وسيرى القارئ أنه أشبه بالبحوث الاجتماعية منه بالبحوث السياسية:
مما لا شك فيه أنه كان لتلون الحكومات التي تعاقبت على مصر في السنين الخيرة، واختلافها في النزعات السياسية وتفرقها في الأهواء الحزبية أثر بعيد جداً في الأخلاق العامة. وأشد ما كان هذا الأثر في الموظفين عامة وفي بعض أعيان البلاد
تعاقبت الشيع السياسية الحزبية في الحكم، وتداولته مرات متعددة. وكان من سوء الحظ أن المسألة السياسية الكبرى لم تستقر على حال، فكان هذا مدعاة إلى التناحر والتطاحن بين النزعات المختلفة، فكلما وليت طائفة أمر الحكم، والحكم عندنا أصبح في هذه الظروف يدخل فيه معنى الحرب، رأت نفسها في أشد الحاجة إلى الاستعانة بمن تثق بهم، وتعتمد على صدق ولائهم لها من الموظفين. وسرعان ما تعمد إلى إقصاء قوم وتقريب قوم، ورفع جماعة وخفض آخرين، لا تأخذها في هذا أية هوادة، وهل تأخذ القائد الهوادة فيمن قبله من الجند إذا حمى الوطيس واستحر القتال؟
فإذا زالت عن الحكم هذه الطائفة أو أزيلت، أسرع من يليها فيه فأقصى من قربت، وقرب من أقصت، ووضع من رفعت، ورفع من وضعت، وهكذا دواليك. وربما تطاولت القسوة في هذا التناحر الحزبي إلى تخريب الدور وتجويع العيال، حتى أصبح الموظفون وكأنهم ليسوا مستوين في الدواوين على مكاتبهم، بل على منضدة قمار، تدور الحظوظ فيها في اللحظة بالفقر واليسار، وبالغنى والإعسار!.
اللهم إن الموظف المصري قبل كل شيء إنسان يحرص كل الحرص على أن يعيش. وإنما وسيلته إلى العيش ما يجري عليه من الوظيفة الشهرية يقيم بها شأنه ويعود بها على شمله
ثم إنه لا يرى سبيلاً إلى عصمة المنصب إلا إذا استراح رؤساؤه بالثقة اليه، وهو لا يظفر بهذه الثقة منهم إلا إذا أرضاهم وطاوعهم، وعمل بكل جهده على استخراج عطفهم وإيثارهم. وقد عرفت أن الحكم الحزبي، وخاصة في هذه المرحلة التي تجوزها البلاد، قد يقتضي الموظف الإداري، على وجه خاص، شيئاً من الانحراف عن النهج والعنت على القوانين. فان هو فعل فقد فسق عن واجب الذمة وخان الأمانة، وإن هو آثر الصدق في الخدمة العامة، وتهد في جميع أسبابه بهدى القانون فلأمه الهبل!.
ثم إنه ليعلم ليس بالظن أن دوام الحال من المحال، وأن هذه الحكومة التي يعمل في ولايتها لا بد زائلة إن في قريب وإن في بعيد. وأنه ستخلفها حكومة أخرى تعاقب أولياء هذه الحكومة على ما شيعوا وما صانعوا. ولقد تكون هذه الحكومة عادلة نزيهة، فهي إن تجاوزت عن هوى الموظف إلى الحكومة السابقة، فأنها لا تتجاوز عما قارف في سبيل مصانعتها من إيذاء الناس والكيد لهم والخروج على أحكام القوانين
أما أن نطلب إلى الموظفين جميعا أن يصبروا على المكروه أشد المكروه في سبيل الحق وإيثار طاعة القانون، وأن يعصوا أمر رؤسائهم في طاعة الواجب، فيستهدفوا بهذا لطردهم، وحبس أرزاقهم عنهم، وإجاعة من يعولون من الأهل والولد، أما أن تقتضي هذا جميع الموظفين فضرب من العبث، وأقول إنه ضرب من العبث لأنه قد شهد بكذبه الواقع المحسوس، فأكثر الموظفين الكثير جداً، مع الآسف العظيم، قد نزلوا عند ما تطلب منهم الحكومات المختلفة، وفي بعض هذا الذي يطلب منهم ما لا يرتضيه العدل، ولا يستريح إليه القانون، وأقلهم القليل جداً الذين صبروا على الأذى وصابروا، وآثروا على متاع الدنيا إراحة الذمة وإرضاء الضمير
إذن فالموظف، واعني من تتصل الوسائل السياسية الحزبية بعمله، مضطر في سبيل عصمة عيشه إلى مصانعه الحكومة القائمة، ولو أدت هذه المصانعة إلى مخالفة حكم الذمة والقانون. ثم إنه في الوقت نفسه ليحسب للمستقبل كل حساب، فتراه لا يني عن العمل له أيضا. أي أنه لكي يعيش ويسلم من المكروه يجب عليه أن يجمع بين الضدين، وأن يسعى في وقت واحد في طريقين متخالفتين، وإنه لن يبلغ هذا المدى إلا إذا بذل في سبيله ما شاءت ضعة النفس، وفسولة الطبع، وإهدار الكرامة، وتميع الأخلاق، وإهراق ماء الوجوه، وفساد الذمة، أن تبلغ!
هذا الموقف لقد يقتضي هذا الموظف المسكين أن يكون له وجهان، ولسانان، وذمتان، وهويان؛ يلقى هؤلاء بواحد من أولئك، ويلقى أولئك بواحد من هؤلاء. فهو يظاهر الحكومة القائمة في إعلانه وجهره، وهو يمد أسباب الهوى للشيعة المقبلة في خفائه وسره، ولا يزال هذا شأنه ما تعاقبت الحكومات الحزبية، حتى كادت تفرى الأخلاق فريا، وتبرى الكرامات بريا، وحتى لقد نجم في بلادنا هذا الفن المحقور المرذول: فن الحرص، بكل ما اتسع له الذرع، واتسع له الخلق والكرامة، على المناصب الحكومية، فشاع به فينا أبلغ ما عرف من خلة النفاق والرياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
لست، شهد الله، ألوم في هذا أحداً، ولا أحمل الوزر فيه قوماً، ولكنني إنما أحيل الأمر كله على الظروف، ولعنة الله على هذه الظروف!
حسبي اليوم هذا القدر، وإني لعائد إلى الكلام في هذا الباب كرة أخرى إن شاء الله.
عبد العزيز البشري