الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 759/حول رسائل الصاحب بن عباد واعتزاله

مجلة الرسالة/العدد 759/حول رسائل الصاحب بن عباد واعتزاله

بتاريخ: 19 - 01 - 1948


للأستاذ محمد خليفة التونسي

قدم الدكتور احمد فؤاد الأهواني إلى قراء (الرسالة) في عددها 755 رسائل الصاحب بن عباد التي حققها وقدم لها الدكتور عبد الوهاب عزام بك عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، والدكتور الأهواني - ومن قبله المحققان - نزعة الصاحب إلى الاعتزال، فقرر انه وقف طويلا عند قول المحققين للرسائل: (ونحن نجد في الرسائل نزعة واضحة إلى القول بالاعتزال والدعوة إليه) وأشار إلى أن البحث في الاعتزال والكلام وما يتصل بهما مما تهفو إليه نفسه، ليس هذا بغريب منه وهو معنى بالفلسفة، كما أشار إلى انه كان يحب أن يجد في الرسائل ما يشبع رغبته ويرى من نصوص الصاحب نفسه ما يؤيد قول ياقوت: أن الصاحب كان (مثل أبيه يذهب مذهب الاعتزال) وذكر أن ما اعتمد عليه المحققان في نسبة الاعتزال إليه ثلاثة نصوص في الرسائل نقلها الدكتور، وأشار إلى مواضعها من الرسائل، أحدها في الرسالة التاسعة من الباب العاشر وهو باب التعازي، ذكر فيها تعديل الله ولطفه في صنعه وصلاح فعله، وثانيها في الرسالة الثانية من الباب السابع عشر وهو باب الآداب والمواعظ، ذكر فيها الصاحب بلدا كان مستغلقا (على أهل عدل الله وتوحيده، والتصديق بوعده ووعيده) وثالث النصوص في الرسالة الثالثة من الباب العاشر ايضا، وهي رسالة إلى أهل الصيمرة وصفهم فيا بشهرتهم (بالذنب عن توحيد الله وعدله، وصدقه في وعيده ووعده) وكان بلدكم من بين البلاد كغرة ادهم، وشهاب في ليل مظلم، وما النعم اجل موقعا واهنا مشرعا من النعمة في القول بالحق والدعاء إليه، والتدين به والبعث عليه ومهانة من شبه الله بخلفة فتتابع في جهده أو جوره في فعله، فشك في حسن نظرة وطوله).

وقد علق الدكتور الأهواني على النص الثاني بقوله (وشهرة المعتزلة بأنهم أهل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، اعظم من شهرتهم بالتعديل والصلاح) كما علق على النص الثالث بقوله (وهذا نص آخر أكثر في الاعتزال بيانا، فيه العدل والتوحيد والصدق في الوعد والوعيد، ونفى التشبيه وامتناع التجوير) وقد وجد الدكتور في هذه النصوص بعد أن وضحها على هذا النحو ما يكفي في نسبة الاعتزال إلى الصاحب، فعقب عليها بقوله (وهنا نستطيع أن نطمئن إلى ما ذكره عنه ياقوت من انه كان يذهب مذهب الاعتزال) واستدرك على محققي الرسائل ترددها فقال (ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان هذا من عمله هو أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال)

ولي أربع ملاحظات على ما سردته هنا من كلام الدكتور الأهواني وما يتضمنه من كلام الدكتورين المحققين والعهدة عليه هو فينا نقلت عنهما وعن الرسائل إذ لم يتح لي حتى الآن الاطلاع عليها كما نشرها المحققان الفاضلان.

أولها: ما أشار إليه المحققان، ونقله الدكتور الأهواني من نصوص الصاحب الثلاثة - المشار إليها قبل - ولاسيما ثالثها يحمل الباحث على الاطمئنان إلى أن الصاحب كان يقول بالتوحيد والعدل، والعد والوعيد، وهذه - دون شك - أصول ثلاثة من أصول مذهب المعتزلة الكلامي، ولا داعي للتشكك في نسبتها إلى الصاحب مع ورودها في نصوصه، إذ ليس الباحث مطالبا ببينات أقوى ولا اكثر من هذه البينات، وإن كان مما يرحب به وجود بينات نصية كذلك تكون أكثر تفصيلا ليضمها إلى ما لديه، كما انه ليس على الباحث أن ينبش عن قلب الرجل ليرى ما في سريرته، ولا مبرر بعد ذلك للشك أو التردد حتى يثبت أن للصاحب نصوصا تعارض هذه النصوص، وهذا ما لم يثبت حتى الآن، والدكتور الأهواني لم يحد عن مسلك العالم حين اطمأن إلى نسبة هذه الأصول الثلاثة إلى الصاحب، ولم يتابع المحققين في شكهما وترددهما، وأنا أشاركه هذا الاطمئنان، ولكني لا اذهب معه إلى اكثر من نسبة هذه الأصول اليه، ولا أتعدى معه إلى القول باعتزال الصاحب على الإطلاق بهذه النصوص وحدها حسبما ذكر الدكتور اتباعا لرأي ياقوت فيه، وسأوضح هذا في الملاحظة الرابعة.

ثانيتها: ومن أجل هذا الاطمئنان حق للدكتور أن يستدرك على المحققين ترددهما الذي لا مبرر له، وعدم جوابهما على سؤالهما (أكان هذا (أي الاعتزال) من عمله هو، أم من علم الدولة، فقد كان عضد الدولة - فيما يظهر - يذهب إلى الاعتزال)

ولشك - كما يظهر من السؤال - لا مبرر له بعد النصوص لا سابقة - إلى ما ذكر ياقوت ونقل هنا - ولم لم يكن لدينا غيرها، فضلا عما سنذكر في الملاحظة الثالثة، كما أن السؤال لا موضع له على هذا النحو فماذا يطعن في اعتزال الصاحب أن كان من عمله هو أو من عمل الدولة لأنه كما ذكر المحققان. - (قد كان عضد الدولة يذهب فيما يظهر - إلى الاعتزال) فهل يوهن ذلك من اعتزال الصاحب ويحملنا على الشك فيه؟ ليكن أن (عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال) أو لا يكن، فأي قيمة لاعتزال عضد الدولة في هذا الموضع لموج به فيه؟ أيطعن في إسلام ثابت لوزير أن يكون الملك الذي استوزره مسلما، وأن تكون دولته إسلامية؟ ثم ما قيمة اعتزال عضد الدولة أن كان منتهى الثقة في القول به إنه - كما ذكر المحققان - فيما يظهرلهما، لا فيما ثبت لهما ثبوتا قاطعا أو راجحا؟ ثم ما قيمته إذا لم يكن هناك دليل عليه؟ بل ما قيمته إذا لم يثبت أن عضد الدولة كان يؤثر المعتزلة دون غيرهم بامتياز يدل على ميله إليهم فضلا عن ذهابه مذهبهم؟

لقد قرأت مما كتب في تاريخ عضد الدولة - وما هو بالقليل - فلم أجد فيه ما يدل على أن عضد الدولة كان نؤثر مذهب الاعتزال أو المعتزلة بعطف خاص؟ فمن أين هذا الذي ظهر للمحققين الفاضلين حين أشاروا إلى اعتزاله؟ وكيف ظهر لهما؟

لا أزعم إني قرأت من تاريخ عضد الدولة اكثر مما قرأ المحققان، فلعل عندهما علم ما لا اعلم منه، وهما - دون شك - كثر اطلاعا وفهما مني - ولست ابغي من معرفة ما ظهر لهما من اعتزال الصاحب غير مصدره وكيفية ظهوره!

ومع هذا قد وفقت في دراستي لتاريخ الاعتزال على أن هذا المذهب كان ذائعا قويا في أيام عضد الدولة وفي دولته خاصة، إذ ظهر فيها كثير من شيوخ الاعتزال، وتولى بعضهم الأعمال لها، ومنهم من كان على صلة بعضد الدولة نفسه، وكانت الدولة تعرفهم وتعرف ميولهم واعتناقهم الاعتزال ومع ذلك لم تجد ما يدل من قريب ولا بعيد أن الدولة كانت تؤثرهم بعناية خاصة إلا في أيام الصاحبة نفسه، وهذا الإيثار كان من عمل الصاحب وحده لا من عمل الدولة، ومن المعروف أن عضد الدولة - هذا الذي يرى المحققان فيما ظهر لهما إنه يذهب إلى الاعتزال - جاءته رسالة من إلا أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني، أو الباقلاني، وابن الباقلانيكان - دون شك - متكلما على مذهب الأشعري شيخ أهل السنة، وكان من اشد خصوم المعتزلة آلف الكتب للرد عليهم والحط من أقدارهم. ويروى إنه أبى أن يخض لرسوم البلاط البوهي حين لقي عضد الدولة فلم يكفر له في مدينته أفلم يكن في دولة عضد الدولة من رجال المعتزلة الذين تعرفهم الدولة وتعرف فضلهم من يحمل هذا الجواب كما حمله ابن الباقلاني السني خصم المعتزلة؟

لو أن الدولة البويهية عطفت على المعتزلة وآثرتهم بعناية خاصة لكان هذا موافقا لأصلها العام لأنها شيعية زيدية، والزيدية في كل زمان ومكان - منذ عهد زعيمهم زيد بن علي تلميذ واصل بن عطاء شيخ المنعزلة - يدينون بالاعتزال أصوله كلها أو بعضها، أو يعطفون عليه، وكانت الفتن كثيرة في عهد الدولة البويهية بين أهل السنة والشيعة، وكانت الدولة دائما تنصر الشيعة على أهل السنة، بل كان بعض هذه الفتن يثير أهل السنة تمردا على تشيع الدولة، ومع ذلك لم نقرا خبرا عن فتنة بين المعتزلة وأهل السنة نصرت الدولة فيها لا معتزلة على أهل السنة كما نصرت الشيعة عليهم

لقد ظهر إلى الصاحب في عهد ركن الدولة وعضد الدولة، ووزر لمؤيد الدولة ثم أخيه فخر الدولة، فأما ركن الدولة فلا نعلم من أمر نظره إلى الاعتزال إلا خبرا واحدا مؤداه انه أرسل مرة إلى الصاحب عينا من عيونه يشاكسه في مجلسه ويتحدى سلطانه ومذهبه الاعتزالي ويجادله في بعض تعليماته: وهو القول بخلق القران. وأما عضد الدولة فقد قدمنا مبلغ علمنا في نظرة إلى الاعتزال، وأما مؤيد الدولة فلا اعرف من أخباره ما يدل على ولاء ولا عداء للاعتزال وأما فخر الدولة فلا نعرف في نظره إلى الاعتزال غير خبر واحد ذكره الصاحب في صدد علاقته واحتشامه فقال ما استؤذن لي على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة فيأذن لي فيه، وما اذكر انه تبذل بين يدي ومازحني قط إلا مرة واحدة فانه قال لي في شجون الحديث: (بلغني إنك تقول: المذهب مذهب الاعتزال والنيل نيل الرجال) فأظهرت الكراهية لانبساطه، وقلت: (بنا من الجد ما لا نفرغ معه للهزل) ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إلى مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري مجرى الهزل والمرح) وليس في هذا الخبر ما يدل على أن فخر الدولة يشارك وزيره اعتزاله، ولا انه يرى للاعتزال امتيازا على غيره، وإلا لم يستدرك على الصاحب ميزه الاعتزال بعنايته من سائر المذاهب الإسلامية الكلامية.

هذا إلى أن فخر الدولة - كما يجب أن يعلم - كان يعرف خطر وزيره في دولته، وحاجته إليه في تدبيرها بل فضله عليه إذ جعله هو وأعوانه على أملاك أخيه مؤيد الدولة في أصفهان بعد موته سنة 373 هـ (984م) وأضاف إليها غيرها من حصون المتمردين عليها، وكانت كلمته فوق كلمة ملكه في دولته ولم يكن ينزل عن جلاله وكبريائه وحشمته معه.

ومن هذا العرض الموجز تنكشف علاقة ملوك البويهية الذين عاصرهم الصاحب جميعا بالاعتزال والمعتزلة، وليس فيه من قريب ولا بعيد أية دلالة على تحيز من الدولة أيام الصاحب إلى الاعتزال فضلا عن اعتناقه.

ومن هنا يتضح لنا أن لا موضع للسؤال الذي سأله المحققان الفاضلان كما نقله عنهما الدكتور عزام بك الأهواني في استدراكه عليهما فقال (. . . فقال ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان من عمله هو (الصاحب) أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب فيما يظهر إلى الاعتزال.

بل أن هذا السؤال الذي ترك المحققان الجواب عنه دون مبرر يتضح من وضعه على هذا النحو انه محاولة للإفلات من القضاء بحكم مع هذه المقدمات الواضحة، وهذه المحاولة لم تحل الإشكال الأصيل بل خلقت إشكالا آخر لم يكن داع لخلقه، وأقحمته في غير موضعه ثم تركته دون حل كما تركت سابقه وأثارت شكا لا موضع له ولا حاجة إليه وكان حل الإشكالين ميسورا.

(له بقية)

محمد خليفة التونسي