مجلة الرسالة/العدد 757/مرحباً بالتقسيم! مرحى للصهيونية
→ بين القديم والجديد | مجلة الرسالة - العدد 757 مرحباً بالتقسيم! مرحى للصهيونية [[مؤلف:|]] |
دين الله واحد ← |
بتاريخ: 05 - 01 - 1948 |
للأستاذ أحمد رمزي بك
جاء وعد بلفور ونحن في غفلة من الزمن، وجاء وعد التقسيم والعالم العربي يتحرك ويتذمر، مر الأول ولم يشعر به أحد منا، وجاء الثاني فإذا نحن في يوم مظلم للصهيونية وساعة قائمة عليها، فبراءة من العهود والمواثيق والمعاهدات، وأذان إلى الأمم العربية أن تقاتل في سبيل الأرض المقدسة، فمرحباً بالتقسيم ومرحى للصهيونية!
أن يوم التقسيم يوم أسود عليها، إنه يوم الفصل، إذ فيه يبدأ الكفاح الحقيقي للعرب في سبيل كيانهم ووحدتهم وتحقيق آمالهم في نظام هذا العالم الجديد.
ولا يغرنكم أيها العرب ما ترون من فتور فإني واثق من أن سعة أعشار الإنسانية معنا وفي صفنا، وأن الداء الذي نشكو منه ونئن، يشكو ويئن منه ملايين من الخلق مثلنا وهم ليسوا بعرب ولا مسلمين ولكنهم إما ذاقوا من اليهودية العالمية ما جعلهم أعداء ألداء لها، وإما أنهم في وضع سياسي واقتصادي واجتماعي لا يختلف عن الوضع الذي نشكو منه في كثير أو قليل.
فهم جميعاً لهذا السبب أو لغيره من الأسباب حلفاء لنا. ولقد جاء التقسيم فكان خير دعاية لنا، وجاء كفاح العرب ووقفتهم إزاءه لكي يشعر كل طرف من أطراف الإنسانية الواعية الراشدة أن هناك ظلماً يحيق بالعرب وأن هناك كفاحاً وقتالاً في سبيل الحق فمرحباً بالتقسيم مرة أخرى!
وهناك أكثر من ذلك، لقد أمضى أسلافنا وقتاً طويلاً وهم في حالة ركود وإغماء عقلي لا يشعرون بما كان يحالك حولهم، بل كانوا ينظرون إلى العالم الخارجي نظرة الرجل المطمئن إلى غده الواثق من جاره وصديقه، القانع بالتسليم والرضى، لقد جاء التقسيم فأعلمنا أن هناك قوات تهيم في الأرض، أكثر تلاعباً بالألفاظ منا، فأصبح حتماً علينا تطليق النظريات الأولى والفلسفات الشرقية والجمود والخضوع، والهدوء والرضا. أصبح حتماً علينا مواجهة العالم بنظرة جادة وقوة متوثبة، وعقل جديد، وهذا من فضل التقسيم علينا إذ أعلمنا أن أي تراخ أو نكوص أو تراجع، هو جناية منا في حق أنفسنا، لأن الأجيال القادمة ستحاسبنا على أي خطأ حساباً عسيراً، فالويل لنا إذا لم نقف أ ونحاربه.
لقد عاش الشرق في سنوات الفوضى والجمود والتخاذل، فإذا بطارق غريب عليه استخف العرب بأمره في بادئ ذي بدء، وإذا هو أشد وطأة من حملة نابليون وجنوده، وأخطر من بريطانيا وجبروتها، وأعمق من إيطاليا وجحافلها السوداء، وأقوى من فرنسا وقوادها. لقد تشجع هذا الطارق فإذا به يدق الأبواب بشدة لم تعهدها آذان أهل الشرق منذ الإسكندر وقيصر، ظناً منه أنه يرعب الشعوب التي وقفت تحارب أوربا، وقضت على ملك الإغريق وبيزنطة ورومية، وساقت الأسرى من الحروب الصليبية لتزين بهم قصور الهند وآسيا، فإذا بالنائم يستيقظ وإذا بنا نبعث بعثاً من جديد، وإذا بالطارق يدفعنا دفعاً ليحرك الجموع ويرتب الصفوف ويخلع علينا حلة جديدة من الكفاح، فمرحباً به! أن النفوس التي وقفت تقارع الاستعار الأوربي بأساليبه المختلفة تتقدم اليوم لتقارع الصهيونية بأساليب وأسلحة لم يكن يحلم بها واضعوا قرار التقسيم فأهلاً به.
لقد كنا نقنع بأن الأعمال التي في هذا الركن من العالم في غضون هذه السنوات كافية، وكنا نقارن أنفسنا بما كان عليه أسلافنا. فنقول ها قد أصبحنا أكثر انطلاقاً منهم في أشياء، وها قد حققنا لبلادنا ما يشبه بعض ما تتمتع به المجموعات الراقية من مظاهر السيادة والقوة والسلطان، فأصبح لنا دستور وجيش ونظام مالي. أما اليوم فلم نعد نقنع بالأقوال ولا بهذه المظاهر: إننا نصارح الدنيا والتاريخ ونقول:
إذا كانت حملة نابليون بداية سيطرة أوربا علينا بنفوذها المادي، فأن مجيء الصهيونية بداية الوثبة الكبرى، بداية التطور المادي والعقلي معاً استعداداً لكسب معركة الشرق في أرض فلسطين والتحرر النهائي من سيطرة أوربا علينا.
إننا ذقنا طعم الانتصارات الحربية ولمع فيها أسم صلاح الدين وبيبرس، وقدمنا الضحايا بالملايين في مدى قرنين من الزمن، وبرهنت المعارك أن الدماء التي تجري في عروق أبطالنا وشهدائنا أقوى وأشد من دماء فرسان أوربا، ونحن على استعداد لخوض معارك جديدة، وتقديم الضحايا بالسخاء الذي عرفته الحروب الماضية، ولكننا نرحب مرة أخرى بالصهيونية، ونقول لها مرحى! لماذا؟ لأن حكم الغرب وجبروته وسنوات الاستعمار لم تدفعنا إلى الأمام إلا في الطريق المادي. أما الحرب القائمة الآن مع الصهيونية والمنظمات اليهودية العالمية فستدفعنا إلى ما هو أبعد وأقوى إلى تحطيم الجمود العقلي الذي فرض نفسه علينا. نعم لأجل فلسطين ولكي نكسب حربها ومعاركها سيسترد الشرق استقلاله الفكري وحريته العقلية، وسيخرج من ربقة الاستعمار الذهني وهو بعقل أوربي أكثر قضاء وتعمقاً مما يتوهم الأعداء، نعم سينشئ ويبني وينظم ويقود لينتصر انتصاراً يهز العالمين: أوربا وأمريكا.
فقال للذين يشكون في هذا أن يخرجوا أقلامهم وأوراقهم ويقيدوا ما أقول: لم تعد تبهرنا السياسة التي تصب لنا الأشياء في القالب الذي يرضى الاستعمار وأهله وأذنا به وتقول لنا هذا من عند أنفسكم.
لم تعد تجدي معنا أساليب تحريك الأطماع والغرائز وتقديم أشباه الرجال ودعاة التفكك. لقد شببنا عن هذا الطوق!
ونهمس مرة أخرى في آذانهم فنقول:
إذا كان الاستعمار الأوربي لم يجعل منا بعد مائة وخمسين عاماً رجال عقل وفكر وإرادة، فقد تكلفت الصهيونية بهذا إذ نقلتنا نقلاً من عالم أشباه الإنسان إلى عالم الإنسان، كان ذلك بمحض إرادتنا للتغلب عليها وإقصائها عن أوطاننا.
فإذا ترك الاستعمار بلاد الشرق فوضى وأهلها يحطمون بأيديهم ما بنوه واتهمنا بأنا نسير على غير هدى ونعمل تحت وحي تيارات الساعة، ومصلحة الأحزاب وإيحاء صحافة هدامة، فليطمئن دعاة الاستعمار وأذناب الصهيونية علينا: من هذا أو أكثر بعد اليوم.
ألا فليؤمنوا أن دروس الحقائق الكبرى التي ألقتها علينا الصهيونية في فلسطين تعدل ألف درس مما ألقاه علينا الاستعمار الأوربي. فإذا كنا لم نحطم الأصفاد والأغلال التي وضعتها أوربا يوماً في أيدينا وأعناقنا فأن قضية فلسطين أصبحت جديرة بأن نكسبها، وفي سبيل كسبها حطمنا الأغلال والأصفاد ووثبنا الوثبة التي لا يمكن أن ترد.
أندري ماذا علمتنا فلسطين؟
علمنا الصهيونيون أن العلم قوة ثورية هائلة على الأرض ولهذا ملكتنا عقيدة الاقتدار والانتصار بالعلم.
نعم سيكون العلم في حياتنا سلاحاً قاطعاً فيصلاً لحل مشاكلنا معهم.
لقد تعلمنا أن الظروف المحيطة بنا لا تخلق حسب أهوائنا حتى نحل متاعبنا طوع إرادتنا ووفق أهوائنا. وعلمتنا فلسطين كيف ندرس كل حالة ونتعرفها، وتعرف الشيء تكييفه بناء على طريقة منظمة وتبعاً لمنهج منطقي تحليلي. فالفضل لكم يا أهل صهيون ولأطماعكم إن أصبح الشرق قوة يحسب لها حساب. لقد أخذنا عنكم أن المنهج هو القوة الوحيدة النهائية الفاصلة التي لا تحد والتي لا يمكن أن يثبت أمامها شيء في الوجود أو تعترضها معضلة من غير أن تجد لها حلاً، لقد أخذتم عن الغرب روحه وعقله وأتيتم إلينا تطبقون هذا على أراضينا.
أما نحن فقد وقفنا نفكر علمياً ومنطقياً لندفع بالفكر العربي حتى يتعرف نفسه في كل شيء، وليبسط نفوذه ومضاءه وقوته حتى نعيدكم إلى الأقطار التي جئتم منها:
إنكم دفعتم العرب إلى الثورة مرات قبل اليوم وكنتم تنظرون إليهم نظرة المتفرج، أما اليوم: فستكون الثورة الكبرى في هدوء ونظام تسير على برامج وتضبط في المعامل وتقرن بالأرقام.
ستكون ثورتنا وليدة المصائب التي حلت بنا، وخاضعة للعقل الذي قيد كل ما فرطنا فيه فوضع الخطط لسنوات قادمة ولأجيال مقبلة.
ولذلك سنجعل لكل يوم عراكاً يناسبه، ولكل شهر كفاحاً يتفق مع مراميه، ولكل سنة حرباً تتطلبها تلك السنة.
لقد جربتم حظكم معنا في وقت لم نكن نفهم فيه أو ندرك شئون عالم يتطور. أما اليوم فاسمعوا واكتبوا ما أقول:
إننا سنتبع التفكير بالمنهج، وسنعرف كيف نسيطر على الظروف، لا بل كيف نستبق الزمن ونلين الطبيعة ونتعرف قوانينها وعلاقاتها بالأشياء، لأننا سنلاقيكم ليوم وغداً وبعد غد، وسترون أننا في كل مرحلة سيكون التلاقي على صعيد أنسب لنا وأقرب إلى جعل النصر تحت متناول يدنا. وتلك سنة جديدة لنا لم تعهدوها في الماضي عنا.
لقد طالما سمعنا كم ترددون: وماذا تصنع بلاد العرب التي تهدمها عوامل التفكك والانقسام ويؤخرها التشيع الذي يقتل جهودها ويقصي النافعين من أبنائها، ألم تروا كيف تحكمت فيهم الأغراض والمساوئ: فأصبحت بلادهم ضعيفة مستامنة خاضعة طائعة.
ونحن الذين عانينا ما تقولون نؤكد لكم أن قتالكم فرض علينا، وأن هذا القتال سيجعل من كل قطر عربي مجتمعاً منسجماً أننا أخذنا أسلحتكم كما أخذتم عن الغرب أسلحته، فالويل لكم منا بعد اليوم. إننا نسلم بأن فيكم رجالاً كانوا قادة وبناة من الطراز الأول، وأن هذا الوطن الذي تحاولون إنشاءه على نهر من الدماء هو من صنع تفكيرهم.
ولكن حلمهم لن يتحقق، ولن تقسم البلاد العربية إلى شطرين الشطر الإفريقي والشطر الأسيوي، هذا لن يكون أبداً. لأن منا رجالاً قد اخذوا على أنفسهم العهود والمواثيق لكي يحولون دون ذلك، وهم من مدرسة جديدة لن تجدوا لها قبيلاً في منظماتكم. أتدرون كيف هم: إني آتيكم بنبأ عنهم: هم قوم فيهم التضحية إلى أقصى حدود التضحية، ولكن بغير نفسية الاستحداء والضعف، حماستهم ثبات وهدوء، ووقفتهم في القتال رائعة، سيقدمون البذل كفرض عليهم، كما فرض المسلمون الأول الجهاد والتضحية والبذل على أنفسهم ولذلك لم يعرف عنهم أنهم ولوا الأدبار؛ كذلك رجالنا.
نفوسهم عالية: يعلمون ويتعلمون، يدربون ويدربون، يحاضرون الغير وينصتون للغير، ويلقون الدرس ويتلقونه عن الغير. فيهم قوة الملاحظة وهدوء الأعصاب، تلمس اليقظة مع الوعي فيهم، وقوة الإرادة مع التواضع، ولذلك يسيرون إلى الموت بالتهليل والتكبير والفرح والغبطة: إنهم الطليعة الأولى.
أعرفتم أيام الإسلام فيفجره؟ أعرفتم أنه بدأ غريباً وقامت قيامة الدنيا عليه، فتغلب على الدنيا وقيامتها، كذلك طلائعنا اليوم سنعيد أمجاد الطلائع الماضية: سيكون فيها المتحمسون والرواد والمحاربون والشهداء، نعم نسير لننتصر، ونموت لنحيا.
قلوبهم عامرة تشبه قلوب الطلائع الأولى، ستأتي زرافات إليكم من الأرض والهواء والبر والبحر طلباً للشهادة في الأرض المقدسة التي وعدنا بها. أليست أرضنا وبلادنا ومنزل الوحي عندنا؟
فأين أنتم منا؟
أحمد رمزي