مجلة الرسالة/العدد 757/الطريقة العلمية في تحري الأحاديث النبوية
→ الاستيراد والتصدير في النظم الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 757 الطريقة العلمية في تحري الأحاديث النبوية [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 05 - 01 - 1948 |
للأستاذ قدري حافظ طوقان
حين رأى العرب أن من الناس من يستبيح لنفسه وضع الأحاديث ونسبتها كذباً إلى رسول الله، ولما كان الحديث من أغزر المنابع للتشريع الإسلامي في العبادات والمسائل الدينية والجنائية، لهذا ودفعاً لكل فوضى في وضع الأحاديث فقد وضع جماعة من العلماء الصادقين طرقاً لتنقية الحديث مما ألم به وتمييز صحيحه من موضوعه. وقد سلكوا في ذلك طرقاً دقيقة علمية يصعب معها التلاعب أو الاختلاق كما وضعوا قواعد للتوصل إلى الحقيقة في الحديث (تتفق في جوهرها واتجاهها والأنظمة التي كشفها علماء أوربا فيما بعد في بناء علم الميثودولوجية. . .).
قال علماء الحديث بالأمانة في نقل الحديث وفرض وجود تحري نص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلي. ولقد وضع القاضي عياض رسالة في علم المصطلح هي أنفس ما صنف في مجموعها (وقد سما بها القاضي إلى أعلى درجات العلم والتدقيق. . .) ويعترف الدكتور أسد رستم بفضلها فيقول (. . . وعلى الرغم من مرور سبعة قرون عليها فأنه ليس بإمكان رجال التاريخ في أوروبا وأمريكا أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها. وإن ما جاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج تحت عنوان تحري الرواية والمجيء باللفظ يضاهي أدق ما ورد في الموضوع نفسه في أهم كتب الإفرنج في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وإنكلترا. . .).
وطالب علماء الحديث بتعيين رواة الحديث والتدقيق في معرفة قيمة المحدث ووضعوا قواعد لتجريحه وتعديله. فلقد جاء في بعض مصنفاتهم ما يلي: قال الإمام مالك بن أنس، وكان ذلك قبل أثني عشر قرناً: (. . . لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من سفيه ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث الرسول، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به. . .).
وهناك أقوال لغير هؤلاء تبين القواعد التي على أساسها يؤخذ الحديث وتوضح الصفات التي يجب أن يتحلى بها الراوي لقبول روايته. وقسم العلماء الحديث بحسب قوته والأخذ به إلى أقسام وأطلقوا على كل قسم إسماً فقسموه إلى متواتر وآحاد. فالمتواتر ما رواه جماعة يؤمن من تواطئهم على الكذب عن جماعة كذلك إلى رسول الله. والآحاد هي الأحاديث غير المتواترة وقد قسموها أيضاً بحسب قوتها. وهكذا صار العرب والمسلمون في الحديث. ومنهم من كان يتركه إذا عارض القياس. ومنهم من كان يتركه إذا خالف المعقول.
وكان للحديث أثر كبير في أسلوب العرب وتفكيرهم، فهو من أكبر العوامل في نشر الثقافة في العالم الإسلامي. أقبل عليه الناس يتدارسونه ودارت عليه حركة الأمصار العلمية ولا سيما في صدر الإسلام، وعن طريقه انتشرت في العالم الإسلامي أنواع من الثقافة عدة. . . (فالتاريخ الإسلامي بدأ بشكل حديث كالذي تراه في كتب الحديث من مغاز وفضائل أشخاص وفضائل أمم. ثم تطور التاريخ إلى أن صار كتباً قائمة بنفسها. ودليلنا على ذلك أن كتب التاريخ الأولى كسيرة أبن هشام وما يروي أبن جرير عن أبن إسحق، والبلاذري في فتوح البلدان يكاد يكون نمطها وأسلوبها نمط حديث وأسلوب حديث. وقصص الأنبياء وما إليهم جاءت في القرآن وتوسع فيها الحديث ثم توسع القصاص. فكان القصص. . .).
وفوق ذلك فقد ثبت أن المسلك الذي أتبعه العرب في تنقية الحديث وتمييز صحيحه من موضوعه قد أثر إلى حد في أساليب العلماء إذ أبان لهم أهمية أتباع الطرق التي تؤدي إلى الحق كما أوضح لهم منهاجاً دقيقاً للسير بموجبه للوصول إلى الحقيقة والى الصحيح من الوقائع والأخبار والأقوال. وكذلك كان للأساليب التي أتبعها علماء الحديث فضل كبير على التاريخ (وأصبحت القواعد التي ساروا عليها في تحري الحقيقة هي المعول عليها لدى المؤرخين المعاصرين) ومحل تقديرهم وإعجابهم.
ولقد كان لعلماء الحديث فضل على التاريخ وأثر على الأسلوب الذي يسير عليه المؤرخون المعاصرون، وكذلك كان لعلماء التفسير فضلاً وأثر لا سيما وأن الأسس التي أتبعوها في أصول التفسير علمية وصحيحة، يتجلى ذلك في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير وفي تفسير الزمخشري. ولولا الخوف من الإطالة لأتينا على بعض نصوص تؤيد ما ذهبنا إليه.
ووضع العرب مصنفات في علوم الدين سار بعضهم فيها على منهج علمي. وكان الشافعي أول من وضع مصنفاً في أصول الفقه على أسس علمية. قال مصطفى عبد الرزاق: (إذا كان الشافعي هو أول من وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية فهة أيضاً أول من وضع مصنفاً في العلوم الدينية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه. . .) واعترف الرازي بفضل الشافعي فقال. . . (اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم رأي أصول الفقه - الشافعي. وهو الذي رتب أبوابه وميز بعض أقسامه من بعض وشرح مراتبها في القوة والضعف. . .) ويقول جولد زيهر: (وأظر مزايا الشافعي أنه وض نظام الاستنباط الشرعي في أصول الفقه، وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول.
وقد ابتدع في رسالته نظاماً للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشأن المقدم. رتب الاستنباط من هذه الأصول ووضع القواعد لاستعمالها بعد أن كان جزافاً. . .)
ويتجلى أسلوب الشافعي العلمي رسالته فهو يسلك في سرد المباحث وترتيب الأبواب نسقاً مقرراً في ذهن مؤلفها (وقد يختل اطراده أحياناً ويخفي وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض ولكنه على ذلك كله بداية قوبة للتأليف العلمي المنظم، في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى). . .
وتتجه الرسالة اتجاهاً منطقياً إلى وضع الحدود والتعاريف أولاً ثم الأخذ بالتقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم. (وقد يعرض الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها وينتهي به التمحيص إلى تخير ما يرتضيه منها. . .).
وكذلك تمتاز الرسالة بالأسلوب الذي اتبعه في (الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف في الاستدلال والنقض ومراعاة النظام المنطقي حواراً فلسفياً على رغم اعتماده على النقل أولاً بالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة).
(نابلس)
قدوري حافظ طوقان