الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 756/الكأس والغواص

مجلة الرسالة/العدد 756/الكأس والغواص

بتاريخ: 29 - 12 - 1947


للشاعر الكبير (جيتة الألماني)

بقلم الأديب عبد الموجود عبد الحافظ

وقف الملك وحوله حاشيته وأفراد شعبه يطلون على البحر من هذا العلو السامق، ونظر الملك وأجال طرفه بين الحضور كأنه يبحث عن شيء ثم قال: (من منكم أيها الفتيان النبلاء والفرسان الشجعان يقدر على الاندفاع في هذا البحر اللجي والهوة السحيقة؟ لقد رميت قدحاً من ذهب فابتلعته المياه في جوفها، فمن آنس قدرة في نفسه وحصل عليه فليحفظه فهو منحة له).

فما أتى الملك على آخر كلمته حتى ألقى من عالي الصخور المنحدرة المشرفة على البحر الهائج واللجج الهائلة، قدحاً من عسجد في قاع البحر وكرر قوله (من منكم يأنس في نفسه الإقدام على غوص هذه الأعماق؟)

واستولى على الحضور سكون رهيب كأنه صمت القبور، وما هي إلا هنيهة قصيرة حتى هب شاب من بين الجمع الحاشد تظهر فيه آثار الترف والنعم وقد جمع بين اللطف والإقدام، والحسن والجرأة، فتقدم في ثبات وعزم وحل منطقته وخلع رداءه وتجرد من كل شيء؛ فدهش القوم وبغت الرجال والنساء وأزداد عجب الفتيات وأعجبوا جميعاً به أيما إعجاب. وقف الشاب على حافة الهاوية يتأمل هذا الهوى البعيد، فسمع اللجج في أغوارها تقصف كأنها الرعد.

زمجر الموج وأرغى البحر وأزبد وغلى غليان الماء في المرجل وأرتفع الرزاز حتى صافح الوجوه، وتبعت الموجة موجة واللجة لجة، وكأن قوة هذا الجبار المهلك تتجدد ولا تنفد.

ثم سكن هذا الطغيان الجارف وخفت وطأة الموج المنحدر ولمح الناس وسط الزبد الأبيض فوهة سوداء لا قرار لها فاغرة فاها كالجحيم لا تلبث أن تزدرد كل ما يهوى فيها من الموج الصاخب.

وأعتمد الشاب على ربه وطلب منه العناية. . . وألقى بنفسه في هذه الفوهة المفتوحة، وسمع وهو يهوي صياح الفزع والرعب وغاب هذا الغواص الجريء وانطلق عليه فم الوحش الكاسر.

صمت كل شيء وأصبح القوم كأن على رؤوسهم الطير، ولكن الأنواء ما فتئت تدوي في ظلمات الأغوار، وطفق القوم يقولون والأسى يقطر من نفوسهم والدمع يسيل من عيونهم: (الوداع الوداع أيها العزيز) وما برح هريم الهاوية يهبط رويداً رويدا حتى هلعت القلوب وحارت العقول وأمسك القوم أنفاسهم من شدة الهلع.

ثم قال أحد الحاضرين (والله لئن رميت تاجك في هذا الغور الهائل، وقلت: الملك لمن يرده ما سولت لي نفسي التطلع إليه).

(وكم من فلك اختطفته هذه الأغوار ولم ينتج منها إلا حطاماً وساريات ودفن باقيها في بطون الرموس. .) وعلت زمجرة اللجج بغتة فغطت على بقية القول وهاجت عاصفة الموج وعلا كالطود وهجم على الشاطئ كأنه وحش مفترس فخيل للحضور أنه يريد أن يتفهم كما أبتلع قبل ثوان ذلك الشاب الجميل فخافوا وفزعوا.

وعلى غرة من القوم ندت صرخة فرح من أحدهم فقد شاهد بين صخب الموج وتلاطمه القوي العنيف ذراعاً وعنفاً مسدلاً عليهما شعر أصفر صفرة الذهب. وما هي غلا لحظات حتى طفا الشاب يسبح بقوة وجبروت على سطح الماء يحمل في إحدى يديه الكأس الذهبية والبشر باد على محياه فزاده نوراً على نور.

وعلا صياح الناس فرحين مستبشرين بنجاته من الغرق وقد تغلب على قوة هذا الجبار واقتحم مناطق الخطر وخرج منها سالماً مظفراً.

وتقدم الفتى في زهو وخيلاء والتفت حوله الناس معجبين مهللين حتى بلغ مكان الملك فركع عند قدميه ومد يده بالكأس الذهبية يشع منها النور، فأشار الملك إلى ابنته المحبوبة أن تأخذ الكأس ونملأها من رحيق فاخر وتقدمها للشاب الباسل، وصاح الفتى يقول:

(أعمر الله سيدي ومولاي الملك؛ إن من نعم الله على البشر أن أسعدهم باستنشاق هذا الهواء النقي؟ وإن هذه الهاوية لترتجف منها القلوب وترتاع منها النفوس لما فيها من أهوال وظلمات)

(لقد هويت إلى البحر في سرعة خاطفة فقذفتني موجة جبارة فألقت بي إلى صخرة أشد منها بأساً وقوة فلم أقو على الثبات أمامها وأعاني ربي الذي توكلت عليه واستعنت به عندما عندما رأيت الهول محدقاً بي فرأيت نتوء في الصخرة فعلقت به فنجوت من الموت. . وعلى قرب مني شاهدت الكأس معلقة في شعبة من شعب المرجان فلم تهو إلى القاع السحيق).

وهالني ما أبصرته من أعماق لا قرار لها فخارت قواي وارتعدت فرائصي، وزادني هولاً ما شاهدته من وحوش البحر وحيتانه، وزادني هولاً أن أسمع صوتاً آدمياً، وكنت أنظر إلى ما أنا فيه وأفكر في مصيري، ولكني تشجعت وسبحت حتى تناولت الكأس وقذفتني موجة إلى سطح البحر فلم أصدق أني نجوت.

فأثار كلامه إعجاب الملك وقال له هذه الكأس هبة لك وإني أهبك خاتماً مرصعاً بأغلى الجواهر، فجرب حظك في النزول مرة أخرى لتحدثني بما تشاهد من عجائب.

فنظرت إليه ابنة الملك وظهر على وجهها عاطفة الحنان والشفقة وتوسلت إلى أبيها قائلة في لهجة تشع بالحنان والعطف.

أعدل أبت عن هذه المخاطرة القاسية فقد أقدم هذا الشاب الشجاع على ما لم يجد أحد في نفسه القدرة على الإقدام عليه وعاد من أهوال لم يكتب لأحد منها النجاة قبله. فرحمة بشبابه يا أبت.

ولم تتم كلامها حتى ألقى الملك بالكأس وقال: أيها الفتى الشجاع، إن أحضرت لي الكأس جعلتك من خاصة حاشيتي وزوجتك بمن توسلت ' لي من أجلك.

فوجد فتانا في نفسه قوة خارقة عندما نظر إلى ابنة الملك فرأى وجهها وقد تورد حمرة، وعيناها تنظران إليه يشع منهما النور والخوف معاً على هذا الشاب المقدام.

فعول على أن ينال هذه المنحة العظيمة وينال هذه الفتاة التي أحبته وأحبها لأول مرة فألقى بنفسه من شاهق إلى أفواه الموت مرة أخرى

وأنصت القوم لزمجرة الموج ورعده وقد ملك الهلع قلوبهم وارتعدت فرائصهم من الهول، والموج يرتفع ويهبط ويرغى ويزبد ويثور ويزمجر ولكن هيهات أن يعود بالغواص مرة أخرى إلى الحياة.

(أسيوط)

عبد الموجود عبد الحافظ