مجلة الرسالة/العدد 755/المسرح والسينما
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 755 المسرح والسينما [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 22 - 12 - 1947 |
رواية الناصر
(تأليف الأستاذ عزيز أباضة باشا)
(للأستاذ حبيب الزحلاوي)
ما أكثر النواحي الجذابة في هذه الرواية، بل ما أكثر ما اضطرتنا مشاهدها إلى الالتفات إلى الدقائق التي يخالها البعض من النوافل وما هي في الحقيقة إلى في الصميم.
تجمع رواية الناصر بين بدائع الأدب الرفيع، وروائع الفن الجميل، وجلال الملك ولكل من هذه الخصائص روعة وجلال يهزان المشاعر، ويطمئنان الروح، ويثيران النخوة، وقد فعلت فعلتها في نفس كل من حضر تمثيل هذه الرواية على مسرح الأوبرا.
مؤلف هذه الرواية شاعر مطبوع على الشعر، وفنان موهوب يساير سجيته بدون عنت، ويماشي فنه بفطنة وبساطة، لا يجنح جنوح المتفيهقين في التنقيب على الكلمات المهجورة يحشو بها شعره، ولا يحذو حذو المتعالين من أمثال الشعراء الرمزيين، بل جمع عناصر إحساسه، وحشد شوارد خياله في بوتقة شخصيته الخلاقة، وجعل مشاعره تتأثر لتتفاعل فتتحول إلى حياة عاطفية وذهنية. وقد حتم على نفسه، لأمر خاص، أن يستمد موضوعه من وقائع التاريخ العربي في الأندلس، الحافل بعظائم الأمور، فاستمده، في هذه المرة، من ناحية متواضعة من حياة الناصر في قرطبة.
طبع الأستاذ الفنان عزيز أباظة روايته هذه بطابع خاص، فخرجت تحمل سمات الوضوح، والملاحظة، والإنسانية، والعطف والحب أيضاً، كما خرجت أيضاً تحمل سمة تقرير الفكرة تقريراً مباشراً، بصورة صوراً بديعة للجمال الطبيعي، والوقائع المادية، وخلجات النفس، ولهثات الصدور، ورعشات الأفئدة، وبسمات الفرح مرسومة رسماً أميناً يستمد حسنه المنسجم من النور واللون، والجرس والإيقاع، ومن براعة اختيار الألفاظ المعبرة عن المعاني، وقد صب ذلك كله في قالب حلو كل الحلاوة، مسبوك في بحور عديدة من العروض متناسقة متناسبة شجية الإيقاع والنغمات.
لا يسأل المؤلف الروائي فيما كتب فأخطأ، ولا يناقش في أوضاع أرادها لأبطال روايته، لأن واجب الناقد هو التعرف على مبلغ الجودة فيما ألف وصنف - وليس للجودة في طبيعة الشعر سوى الذروة السامقة مقاماً - والشاعر أباظة باشا، رسم لنا في روايته هذه بعض مشاهد من أخريات حياة (الناصر) ولمحة من حياة وليده (الحكم) ولي العهد، وعبد الله، أما الحكم فقد كان مفتوناً بحب الجارية (شفق) وهي فتاة إسبانية أسيرة تبناها الناصر وصغى قلبها إلى ولي العهد، ولكنها متحيرة حيرة الوفاء، وحيرة الإنصات إلى الهاتف الداعي إلى واجب الوطن والأهل. وكذلك رسم لنا صورة (لعبد الله) المأتمر بعرش أبيه، وأخرى للسيدة (الزهراء) زوجة الناصر وقد عرفت بالجمال الفاتن والرأي السديد، وصورة ثالثة بالغة غاية الأمانة والصدق لشخص الجاسوسة (منى) وقد تركزت إرادتها في العمل على دك سلطان العرب في الأندلس، واجتثاث حكمهم فيها، وإعادة أهلها إلى الاستظلال بعرشهم المسلوب.
وهكذا دارت الرواية حول هؤلاء الأبطال الذين يضمهم القصر، ويجذبهم العرض، وتتعارض بينهم الأغراب والمآرب، تارة في حوار متصل أو متقطع بين شخصين أثنين أو أكثر من شخصين، وتارة أخرى بنفس طويل صاخب أو رقيق هماس، أو بروح رضية عقلية أو وجدانية.
لاشك عندي في أن المؤلف قد أجاد في جعل شخصيته الخاصة تعيش في المواقف التي تخيلها، وكذلك أجاد مرة أخرى في أنه سما في شعره فجعل الشخصيات البارزة في الرواية تقف الموقف المتخيل في ذهنه هو. وإني أقتبس بعض أبيات من مواقف (للحكم) من حبيبته (شفق) ومن موقف لهذه الجاسوسة (منى)، وشذرات مما جاء على لسان الناصر للتدليل على ما ذهبت إليه في وصف شعر الشاعر. الحكم:
يا منية النفس قد أدركته أملاً ... رفّعت له النفس أعواماً وأعواماً
أذكيت في القلب وقداً قد سموت به ... فكان حباً وتقديساً وإعظاما
لو لم تكون فدتك النفس غانمة ... لكنت عتباً أشواقاً وأحلاما
وكنت تسبيحة للروح هامسة ... زكت قصيداً وتوقيعاً وأنغاما
شفق:
وأنت أن لم تكن قوام مملكة ... لكنت فوق قلوب الغيد قوما ترنو فتلهبها وجداً، وتسعرها ... وقداً، فتهتز آمالاً وآلاما
فلا اللواهث من دقاتها هدأت ... ولا الذي ثج من أجراحها التاما
وكنت أرفع ما أزدان الوجود به ... وحياً من الخلق الأسمى وإلهاما
وقول في موقف آخر:
بعض الحنان ياشفق ... حكم قلبي يا شفق
أكان ذنباً يوم رف ... فاصطفاك فعشق؟
وإنه قبلك ما ... ذاق الهوى ولا خفق؟
وإنه ضمك في ... حياته ثم انصفق؟
لئن جنى فإنه ... عذب فوق ما استحق؟
لو استطاع لبكى ... ولو أطاق لنطق
ويحيى له إذا اشتكي ... لألفه فلم يرق
وإن هفا لنظرة ... أو بسمة فلم يذق
يصبح لم يغف فإن ... دجى له الليل أرق
حدثني أنك أش ... فقت عليه، هل صدق؟
أتسمعين يا شفق ... أترحمين يا شفق؟
شفق: أخي!
الحكم:
. . أخوك شفه ... وقد جفاك فاحترق
يا نفحة النسمة تش ... تف جنى الروض العبق
يا طلعة الفجر إذا ... الفجر من السحب انبثق
يا قبلة الطل إذا ... الطل على الزهر ائتلق
يا غنوة الليل شدا ... ها الليل وهو مغتبق
يا نظرة العتب إذا ... العتب استكان ورفق
يا رجفة الشوق إذا ... الثغر على الثغر انطبق
يا همسة الرضا الكريم ... واللقاء يسترق لم ينق اللفظ بها ... فالتمست عند الحدق
وددت لو يتسع المجال فأقتبس من شعر الشاعر ما ينهض الدليل الذي لا يدحض على أنه استطاع أن يجعل أبطال الرواية يعيشون في المواقف التي تخيلها هو، ولكن ذلك متعسر بسبب الحوار، والحوار جماله في سماعه، وسحره في تراشق المتجاورين بالكلام الممزوج بالانفعالات النفسية التي تتماوج مع الصوت، وترتسم على الوجه، وتبدو في الحركة والإشارة. وبرغم ذلك أجدني ملزماً بنقل قطعة من حوار غير متقطع قام بين الجاسوسة الأسبانية وبين الجارية الأسبانية التي تبناها الناصر وأحبها ولي عهده، وإني أدعو إلى الاستمتاع ببديع الحوار والفاء بين شفتي (شفق) أمينة رزق الممثلة البارعة، والاستهداف لشظايا الضغينة والحقد والانتقام تقذفها من جوارحها (منى) فردوس حسن، الممثلة الممتازة البارعة.
منى:
أمة أنت في الذؤابة منها ... ذاقت الذل بعد عز رفيع
في بلاد ديست وشعب تردى ... في قرار من الهوان وضيع
هتك الغاصبون من كل علج ... مسلم. . . ستر مجدها الممنوع
أو سعونا مذلة يا أبنة العم ... فعشنا نلتذ طعم الخضوع
كالأرقاء والعبيد يرون البغى ... حقاً للسيد المتبوع
يا ابنة العم.
شفق:
فاصمتي لاتهيجي ... حزة النفس بعد طول هجوعي
أنا بنت الخليفة السمح أفد ... يه بنفسي وعترتي وجموعي
الوفاء الكريم يعمر قلبي ... والوداد القيم ملء ضلوعي
منى:
أوفاء لمن رماك فاصم ... اك فاجلاك عن حماك المريع
لم يغفل المؤلف الشاعر عن تصوير الملك وجلالة الملوك، ولم يتورط في رسم سجايا غير سجاياهم وخلائق ليست خلائقهم، بل أطلق ريشة رسام (سياني) تستوي عنده الفوضى والنظام ولكنه ينحرف عن جادة الحق والصدق فقال مرة بلسان (شفق) العاشقة الحيري (غرام الملوك وشيك الزوال قصير المدى) فيردها عاشقها إلى الحق فيقول لها.
ظلمت الملوك ولم تنصفي ... فإن الملوك ملوك الهوى
عرفنا الهوى مهجاً تلتقي ... عطاشاً وأفئدة تكتوي
ويقول مرة بلسان الناصر:
قد خبرنا فلم نجد لصلاح ... الأمر إلا النهوض بالأمر فردا
ويقول أيضاً:
بنينا على هام الجزيرة دولة=تأشب في أعطافها العلم والمجد
فلما استقرت واستطالت ترادفت ... عليها من الأهل الخيانة والحقد
ويقول أيضاً:
أيرضى المعز الأمر يخرج من يدي ... ليخلفنا الأفرج في ملكنا قسرا
إذا ما تنازعنا شعوباً وقادة ... ومنا رسول الله ذقنا الردى طرا
وإن لم نجاهد جبهة عربية ... موحدة كنا لأعدائنا جزرا
ويقول:
ويحسبنا الناس أو في الدنى ... نعيماً وأسعد قطانها
لقد جهلوا أن أشفى الرؤو ... س رؤوس تنوء بتيحانها
وأخيراً يقول:
إلى ذروة المجد سر بالجيوش ... محوطاً بمأثور إيمانها
حياة الملوك ومجد الملوك ... لأوطانها وبأوطانها
هل استوفى المؤلف غايته من وضع هذه الرواية على النحو الذي وضعها فيه، أو إنه أراد شيئاً آخر فخانه للقلم ولم يسعفه التوفيق فجنحت سفينته عن غير قصد إلى الشاطئ الآخر؟
هذا سؤال لا أطلب جوابه، ولكني أبيح لنفسي القول، أن رواية الناصر في وضعها الحالي، إنما هي رواية أندلسية، وأن الجانب العربي فيها ليس بالجانب المفضل بدليل أن عناصر القوة تجمعت في الشخصيات الأندلسية، وإن عنصر الضعف تمثل في الخليفة العربي الشيخ الفاني، وفي ولي عهده الشاب المتيم المفتون، وفي ولده الثاني الخائن المؤتمر بعرش والده، وفي كبير الوزراء والخصى الضالعين معه، ولم يسلم من الضعف من الشخصيات العربية سوى (الزهراء) زوج الناصر، هذا ما شجعني على القول أن طابع الرواية أندلسي موشي بالذهب العربي، وهذا ما يجعلني أزعم أن الطابع الأندلسي هو الذي أزكى حدس النظارة فجعلهم يستشعرون بفطرتهم أن الزاوية ليست روايتهم، ولعل مرد ذلك إلى الشعور العربي السائد بيننا اليوم.
ليس يعني هذا أن الرواية لم تلق نجاحاً عظيماً، بل أعني أن عنصر النقد عند المؤلف البارع لم يكن حاد اليقظة، ولكني أقول بعقيدة وصدق أن الأستاذ الشاعر الكبير عزيز باشا أباضة يملك أكثر الخصائص الأدبية والفنية التي تؤهله لأن يكون أول مؤلف للمسرح بل المؤلف الموهوب الوحيد المعروف حتى الآن لمسرحنا العربي المرتجى.
الكلام في فن الأستاذ زكي طليمات مخرج الرواية، إنما هو تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل هذا معناه التعريف بما هو معروف عن هذا الفنان المتتبع الدؤوب الذي لم تنقطع صلته بالمسرح قط، والذي لم يغفل عن التطورات والمستحدثات وعن كل ما يمت إلى فن التمثيل بسبب. ولكن يطيب لي أن أضيف تعريفاً جديداً، وهو أن للمؤلف المسرحي يدا مغناطيسية تجذب الأستاذ طليمات تارة إلى فوق، وعندها تتبدى مواهبه، وتشرق معلوماته المدخرة، وتتفتق ابتكاراته الذاتية؛ وتارة أخرى تجذبه يد المؤلف المسف إلى تحت، وفي الحالتين يكون المسكين أسير الانجذاب.
لقد كانت يد الشاعر عزيز أباظة باشا قوية في جذبها إلى فوق، بل كانت روحه الشاعرية هي التي تغلغلت في مسارب مشاعر الأستاذ طليمات، وقد انتفض كالنسر، وتجرد للإخراج، وأخذ بهدوء يكمل عمل المؤلف، أولاً، بإعطائنا صورة مجسمة للرواية، ثانياً، باشراك خيالنا مع ما أشركه الشاعر في حسنا، ثالثاً، في إدغام الخيال بالحس ليصيرا حياة واقعية عملية تتجسد في أقوال الممثلين وفي حركاتهم وتنقلاتهم وإشاراتهم، لترتفع بعدها إلى عرش الذهن المفكر.
لقد ملأ المخرج بصرنا وسمعنا بالأنوار والمناظر، بالتوجيه والألفات، بالإشارة والإيماءة، بالسرعة والبطء، بالكثير الكثير من الدقائق الفنية التي يعيها ويدركها، وقد لا يعيها ويدركها سوى الإنسان المثقف.
وليس أدل على ذلك من مواقف الممثلة أمينة رزق، وقد كانت ندابة نواحة، غاضت البسمات في صدرها، وشلت أوتار وجهها، وانساحت دموعها فياضة، فقد أعادها الأستاذ طليمات إلى قاعدتها، وخلقها خلقاً جديداً، فاسترد ثغرها ابتسامته الحلوة، وطغت على وجهها صور نفسها، وصارت دموعها تقطر لؤلؤاً على خدين فيهما إشراقة الفرح بالحياة.
أما فردوس حسن فقد انطلقت على سجيتها في تمثيل دورها، ونضت ثوب الصناعة، فبدت كما يراها باريها على اللدد والعنف والانتقام.
لقد تجلت عظمة هذه الممثلة في عنفها وقسوتها، في نظراتها الحادة المشتعلة، في نبرات صوتها الجافية، في بصمات قدميها تطأ المسرح فيئن المسرح تحت قدميها، في كظمها ما غاظها من مواطنتها وقد تنكرت لوطنها وقومها، في استثارة نخوتها، في التوسل إليها والاستنجاد بها، في طعنتها النجلاء وقد أغمدت نصل خنجرها حتى قبضته، في الأنة وقد شفت غليل صدرها بالدم والقتل! لقد سجلت فردوس حسن أعظم موقف في تاريخ حياتها الفنية لأنه دور يوائم ما انفطرت عليه نفسها.
وددت لو أقف حيال بقية الممثلين والممثلات، ولكني لأمر ما. . أتجاوز عن هذا الموقف لأتقدم بتهنئة صادقة للمخرج والممثلات والممثلين، الذين تساندوا وتكاتفوا فبلغوا المكانة التي دعاهم مؤلف الرواية إلى الاستواء عليها بجانب عرشه الفني.
حبيب الزحلاوي