مجلة الرسالة/العدد 755/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 755 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 22 - 12 - 1947 |
السائح والتمثال
بقلم ألدوبلاتسزكي
للأستاذ محمد لطفي جمعة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وعندما تنبه من غشيته رأى نفسه يرفل في ثياب جديدة كثياب الكهنة وقد حلق شعره وقلمت أظافره وأحس أنه قد تبدل وقد نسى ماضيه وكأنه يعيش في الهيكل منذ ولدته أمه. وإذ كان يسير في أحد أبهاء الهيكل ساهياً عن ماضيه، لاهياً عن حاضره لمح تمثالاً نصفياً من الحجر الأزرق. يمثل سماوة امرأة، ويقوم على قاعدة صغيرة من المرمر الأبيض، فشعر بهبوط في قوته وأن شيئاً خفياً يجذبه نحو التمثال الأزرق ولم يخطر بباله أنه تمثال إينوبيا، تلك المرأة التي أحبته ونسيها، ولكنها فجأة لاجت سماوتها أمام عينيه فشعر أولاً بأنه نسيها نسياناً مطلقاً. . ثم بدأت عوالم الشعور والأحلام والأفكار المطمورة في أعماق روحه - كما لو كانت في قرارة بحر عميق، تهب وتنهض وتستيقظ وتبعث وتطفر وتقفز وتدور وتشتعل وتحيا من جديد؛ وفي تلك اللحظة مر به الكاهن الذي ناقشه عند وصوله فحياه، ووقف له كمن ينتظر أنه سوف يخاطبه أو يلقي عليه سؤالاً.
وفي الواقع لم يخيب السائح رجاء الكاهن وقال له وهو لا يملك أن يحول نظره عن التمثال وقد استولت عليه رعشة ورجفة مصاحبتين للبعث الذي شعر به في روحه!
- 3 -
أتسمح يا سيدي أن أسأل عن صاحبة هذا التمثال من تكون؟
- فقال الكاهن وهو يبدي عدم الاكتراث: إنه تحفه ثمينة وتكاد تكون مقدسة، لان من صنع مثال لامرأة كان يحبها منذ خمسمائة سنة. . . فهمت السائح ثم استجمع قوته وقال - وما كان اسمها يا سيدي؟ أقصد إلى الفنان والمرأة. .
فسأله الكاهن (وهل يكرثك الأمر إلى حد أنك تود أن تقف على اسم فنان مطمور، وتمثال صغير، مضى عليهما خمسة قرون؟ أن كان اسمهما يهمك فأعلم أن المرأة كانت تدعى إينوبيا، والمثال فيدور. فدارت الدنيا بالسائح، لأن فيدور كان أسمه هو، وأحس بأن الأرض تميد تحت قدميه، ولكنه تجلد واستنجد بكل ما كان له من قوة إرادة وعزم ليبقى قائماً على عوده. وفي لحظة شعر بأنه لن يقوى على الوقوف فتحامل على قدميه حتى دنا من التمثال وارتكن إليه (فيدور - إينوبيا) وقد رأى الكاهن كل ما جرى له، ولكنه لم يمد له يد المعونة ولم ينطق بكلمة وبقي كمن لا يريد أن يضن على صاحبه بجواب على سؤال، ولن يتعدى هذه الحدود، فلما ظن السائح أنه قد استعاد شيئاً من قوة جسمه وروحه قال:
أيمكن يا سيدي أن يتكرر اسم شخصين بعينهما وجنسهما وهيأتهما وخلقهما في فترتين من الزمن أو فترات عدة؟
فقال الكاهن: لم أفهم سؤالك وإن كنت أوشك أن استشف معنى بعض ما ترمي إليه. تقول إنك إذا كنت أنت فيدور وقد أحببت امرأة أسمها إينوبيا في حياتك هذه وعصرنا هذا فهل يمكن أن يكون قد عاش قبلكما في ماض قريب أو سحيق شخصان مثلكما مخلوقان على شاكلتكما؟ وهل هذان الشخصان هما نفسهما اللذان عاشا في الماضي والحاضر، أم أنهما خلقا على غرار السابقين لهما؟ أن لم يكن إدراكي قد اقترف جناية الخيانة العظمى فلا بد أن يكون هذا محور سؤالك أو نحوه.
فخارت قوى فيدور لحداثة عهده بقوة الروح التي توحي مثل هذا الكلام وذلك العلم الكشاف. وقال: نعم نعم هذا سؤالي بعينيه. فابتسم الكاهن وقال: أن هذا الذي تخيلته من أبسط الأشياء. إنه الحقيقة بعينها، وإنها لا تدعو إلى الحيرة التي تبدو عليك. . ثم قال له: أدن من التمثال وألمسه.
فقال السائح: لن أجسر على لمسه. إنه في نظري أقدس من أن يمس. فقال الكاهن: لم يدر بخلدي أن شاعراً متحرراً مثلك يعيش في هذا القرن العشرين تستهويه تحفة مصنوعة منذ خمس مائة عام. على أن الجمال ليس مطلقاً ولا تاماً ولا قريباً من الكمال فإن الأذنين أدق من الآذان الأنثوية وفي الأنف شذوذ لا يجعل صاحبته ذات فتنة.
فقال السائح سامحني يا سيدي الكاهن إذا لم أوفق إلى رضائك بقبول نقدك فإنك لا تعلم ما أعلم ولا تشعر بما أشعر. فأدار الكاهن وجهه ليخفي ضحكة غامضة. واستمر فيدور في حديثه فقال: إنه ليس شبهاً، ولكنه صورة طبق الأصل، ولعله أكثر من هذا بعد الذي قلته لي فهو نوع من استعادة الحياة نفسها في هذا الحجر الأزرق وذاك المرمر المسنون. بالله عليك يا سيدي الكاهن خبرني كيف استطاع مثّال عاش في القرن الخامس عشر أن يتخيل ثم ينحت في الحجر الصلد الأزرق هاتين الأذنين الدقيقتين وأن يجعلهما جميلتين مرهفتين كما رأيتهما وشعرت بجمالهما؟ فقال الكاهن: تقول أنه تخيل ثم نحت؟ على رسلك يا سيدي، إنه لم يتخيل ولكنه رأى وأحب وتعذب. فقال فيدور: رأى الأذنين الجميلتين المرهفتين كما رأيتهما وعرفتهما وشعرت بجمالهما. . .
فقال الكاهن وهو يبتسم ابتسامة غامضة ماكرة: وهل تمكن ذلك المثال الحاذق أن يكسب العينين شيئاً من الشبه يقربهما إلى ذاكرتك كما صنع بالأذنين؟
قال السائح: العينان تكادان تشعان بنورهما الإنساني وهذه الجبهة العالية المشرقة التي خلعت على صاحبتها جمالاً ونبلاً، ثم هذا الأنف الشاذ الذي كانت إينوبيا تزعم أنها عثرت وهي طفلة تجري وتمرح فأصابها جرح جعل أنفها كما هو.
فقال الكاهن: عجباً عجبا! أراك تتذكر كل شيء عن تلك التي أحبتك وهجرتها، بل فررت منها، ومن العالم الذي يحتويها.
فقال السائح: الآن لا أفر منها وقد جمعتني بها المقادير.
الكاهن: ولو كانت صخرة صماء لا تنطق كهذه؟
السائح: لا تنطق؟ أن فمها بشفتيه الرقيقتين يكاد يناديني!! بربك قلي بأية معجزة تخلق أمرأتان بهذا الشبه المحير، وتعيشان في زمانين مختلفين، وهل تظن أن تلك المرأة التي نقل عنها ذلك المثال البائد، كانت تشبه إينوبيا كل المشابهة.
فتهجم وجه الكاهن وقال: لا تقل المثال البائد، فإننا في عالم لا تبيد فيه ذرة فكيف تبيد فيه الأرواح والإيرادات؟ وأظن أن المشابهة لم تكن مقصورة على الوجه بل كانت شاملة للخلق والروح. لا شك عندي في ذلك يا سيدي!
وعندما سمع السائح هذه الكلمات أسف على ما كان منه نحو تلك التي أحبته وشعر أن إينوبيا كانت ملكاً أرسل إليه لإنقاذه في صورة خفية، ونظر إلى الكاهن قائلاً.
وهل استعادة الماضي مستحيلة؟
ولماذا تريد أن تستعيد الماضي الذي خلصت منه؟ - لقد كنت خادعاً مخدوعاً، فإنه لا يستطيع أحد أن يخلص من ماضيه، ولا أن يعيش بدونه مهما كان محفوفاً بمكاره الذكريات. إني جهدي أن استجمع صورتها الكاملة فلا أقدر على ذلك.
فقال الكاهن: ليس هناك ماض ولا حاضر ولا مستقبل. الزمان واحد والمكان واحد. وليس الماضي آنية ثمينة تحطمت فتنحني ثم تركع لتجمع شذراتها المتناثرة لتعيد إليها الحياة بالرتق والترقيع كالثوب القديم. أن الحياة وحدة منسجمة لا تتجزأ أو تتمزق أو تتغير ألوانها. وسار الكاهن في طريقه فما كان أشد فرح السائح عندما ظفر بهذا الروح الجديد ينبعث إلى قلبه وعقله! ورأى في أول الأمر أن يتشبث بالتمثال فاستمسك به حيناً، ثم استغنى عنه لأنه وجد التطهير في قلبه، وعلم أن تلك التي أهمل شأنها كانت هي التي أنقذته من الخبث والحقد والحسد ومحاولة التحديق في وجه خالقه، وهي التي قادت قدميه في غفلة من إرادته، ويقظة من روحه، إلى هيكل نيبوس إله النور. إذا كانت إينوبيا وفيدور قد عاشا وتألما وتمتعا في حياة سابقة على الحاضر بخمسمائة عام خلت، فهذا هو الخلود نفسه، وهذا هو الدوام الذي لا فناء بعده. لقد قصد إلى الهيكل هارباً من الدنيا لما راعه ما بها من فساد وهاله ما فيها من تهتك، وأدهشه ما رضيه أكثر أهلها من إباحة، فماذا يصنع وهو لا يملك أن يطهر الدنيا ولا سيما مدينته مما عراها، ولا يقدر على أن ينفي أهل الخلاعة والخيانة والغدر من أوطانهم؟ وعندما بلغ تلك النقطة من التفكير سمع صوتاً من نفسه يناديه:
فيدور! أيها الهارب! طهر نفسك أولاً، فإذا بلغت هذه الغاية فقد صرت قادراً على تطهير الآخرين.
محمد لطفي جمعه المحامي