مجلة الرسالة/العدد 753/مع ميخائيل نعيمة في (همس الجفون)
→ الأحلام الناجحة | مجلة الرسالة - العدد 753 مع ميخائيل نعيمة في (همس الجفون) [[مؤلف:|]] |
طرائف من العصر المملوكي ← |
بتاريخ: 08 - 12 - 1947 |
للأستاذ منور عويس
وفي المقطعين الثالث والرابع نرى نعيمة يستسلم لحكم القضاء الذي يسخر كل ما في الوجود لكل ما في الوجود، كما نراه يعود إلى نغمته المستحبة - وحدة الوجود - وما أقرب فلسفة نعيمة من فلسفة (اسبنوزا) - ووحدة الوجود هذه التي يتغنى بها نعيمة هي وليدة اليأس وابنة الحيرة والشك، لقد حاول نعيمة أن يؤمن بما لقنوه صغيراً من عقائد وأديان فأبى عليه عقله النفاذ وقلبه الكبير الحساس الواعي أن يؤمن بما لا يرضاه عقله وقلبه الكبيران، فعكف من ثم على الأديان القديمة والحديثة يغربلها وينخلها ويقتلها درساً وتمحيصاً فاستخلص منها خير ما فيها وخلف قشورها وزؤانها للعميان الذين يؤمنون بالحرف ولا يدركون الروح، أولئك الذين (يكرمون النبتة ويرذلون التربة!).
أخذ نعيمة من الأديان أثمارها وأزهارها وأوراقها وترك فروعها الجافة الزائدة للغربان تنعق فوقها!. . . ثم خلع على معتقده هذا فنه وروحه فأبدع لنا ديناً وفناً جديدين لا عيب فيهما إلا أنهما إنسانيان شاملان ليس فيهما إرهاق للأرواح ولا استعمار للنفوس والعقول!.
دين نعيمة وفنه لا يعرفان للإنسانية حدوداً ولا للوطنية سدوداً وقيوداً.
ولقد رحب بأدب نعيمة وعقيدته قوم وأنكروهما آخرون؛ أما الذين أنكروهما فسوف يرجعون عن ضلالهم عندما تزول عن عقولهم رقى السحر وطلاسم الشعوذة؛ سوف يفزعون إلى تلك الواحة الوارفة الظلال حيث يستريح المتعبون وثقيلو الأحمال!.
لابد لكل عبقري من أن يؤدي تلك الضريبة الباهظة الأزلية - ضريبة العبقرية - لأهل وطنه وزمانه، ولابد له أيضاً من أن يلبس أكاليل الشوك قبل أن يزدان مفرقه بأكاليل النار! فلو لم يكن نعيمة شرقياً لسميت الشوارع باسمه وأقيمت له التماثيل أو على الأقل لوضعت كتبه بين أيدي طلبة الكليات والجامعات. ولكن نعيمة الروحاني الإنسان شرقي يعيش في مهبط الأنبياء ومصدر الوحي - وكم رجم الشرق من أنبياء وكم قتل من مرسلين! - عفواً أيها القارئ لقد نسيت (أوراق الخريف) مرة ثانية فها هي كاملة فاقرأ وتأمل وتحسس ثم احكم؟
تناثري تناثري ... يا بهجة النظر يا مرقص الشمس ... ويا أرجوحة القمر!
يا أرغن الليل ... ويا قيثارة السحر
يا رمز فكر حائر ... ورسم روح ثائر
يا ذكر مجد غاير ... قد عافك الشجر!
تناثري تناثري!
تعانقي، وعانقي ... أشباح ما مضى
وزودي أنظارك ... من طلعة الفضا
هيهات أن هيهات أن ... يعود ما انقضى!
وبعد أن تفارقي ... أتراب عهد سابق
سيري بقلب خافق ... في موكب القضا
تأنقي، وعانقي!. .
سيري ولا تعاتبي ... لا ينفع العتاب
ولا تلومي الغصن والريا ... ح والسحاب
فهي إذا خاطبتها ... لا بحسن الجواب
والدهر ذو العجائب ... وباعث النوائب
وخانق الرغائب ... لا يفهم الخطاب
سيري ولا تعاتبي!
عودي إلى حضن الثرى ... وجددي العهود
وانسي جمالا قد ذوى ... ما كان لن يعود!
كم أزهرت من قبلك ... وكم ذوت ورود!
فلا تخافي ما جرى ... ولا تلومي القدر!
من قد أضاع جوهراً ... يلقاه في اللحود!
عودي إلى حضن الثرى!. . .
ليست (أوراق الخريف) هذه سوى رمز للإنسان، أُلعوبة الأقدار، وسخرية الليل والنهار، الإنسان الذي لا يملك لتلك الأقدار دفعاً ولا لبطش الزمان به كفاً. إن (أوراق الخريف) من عيون شعر نعيمة لا بل يمكن وضعها إلى جانب ورائع شعراء الغرب الذين نظموا في هذا الموضوع، ومن شك في ذلك فليقرأها مترجمة، فالترجمة هي محك الآثار الأدبية، وبها نميز الشعر الرفيع من الشعر الزائف الذي أملته المناسبات التافهة والأغراض الرخيصة. . انظر إلى قوله:
سيري ولا تعاتبي ... لا ينفع العتاب!
أو قوله:
كم أزهرت من قبلك ... وكم ذوت ورود!
فأية مرارة تفيض من هذا الشعر؟ وأية بساطة، وأي إحساس وأية موسيقى؟! إنني أترك للقارئ الحكم والمقارنة بين هذا الشعر البسيط وبين شعر النحت والبلاغة اللفظية. وشتان بين بلاغة الروح وبلاغة اللفظ، وشتان بين شاعر يعرف ما يريد أن يقول وبين شاعر لا يهمه إلا أن تطول قصيدته التي يكثر فيها النظم ويندر الشعر. . إنني لعلى يقين من أن صاحب (همس الجفون) لم ينظم قصيدة من قصائده إلا بعد أن حبل بها فكره وتمخض عنها وجدانه. . . أصغ إليه في قصيدته (التائه) كيف يصور لنا أشواق روحه وأوجاعها وتعطشها إلى الإيمان كما يرسم لنا حيرته في تلك النار المقدسة التي تشب بين ضلوعه فيطلب أن تختار لها موقداً غير قلبه، ونحن نحمد الله على أن اختار لتلك النار قلباً شاعراً واعياً كقلب نعيمة، قلباً (يحول قضبان سجنه أوتار قيثارة) ويخلق لنا من لظى تلك النار واحات نقصدها كلما اشتد علينا قيظ هذه الحياة اللاهب!. .
أسير في طريقي ... في مهمه سحيق
ووحدتي رفيقي ... ووجهتي الفضا
مطيتي التراب ... وخوذتي السحاب
ودرعي السراب ... ورائدي القضا
تسوقني الثواني ... في موكب الزمان
ولست أدري شاني ... في معرض الورى
فلا القضا ينبيني ... ولا الرجا يهديني
ولا السما تعطيني ... نوراً لكي أرى أخالقي رحماكا ... بما برت يداك
إن لم أكن صداكا ... فصوتُ من أنا؟
ربي ألا ترَاني ... أساق كالحملان
ربي أما كفَاني ... عماي َوالونى؟
فأبدل لظى نيراني ... بجمرة الإيمان
واجعل من الحنان ... للقلب مرهَما
إذ ذلك بالتهليل ... أسيرُ في سبيلي
وخالقي دليلي ... ووجهتي السما!
هذا هو نعيمة الحائر بين موحيات الكتب التائه في مفاوز الأديان وشعابها المطلسمة، قد أضناه تساؤل العقل وأذابهُ حنين الروح للوصول إلى الحقيقة والإيمان!. . .
هذا هو نعيمة الذي استنجد بالسماء لتهبهُ راحة الإيمان فلما ضنت عليه السماء بتلك النعمة خلق من نفسه لنفسه سماء ولا كالسماء ونعيما ولا كالنعيم، وتلك السماء وهذا النعيم اللذان أبدعهما نعيمة بصبره الطويل وتهجداته الروحية المضنية إن لم نجدهما في (همس الجفون) فنحن واجدُوهما في (زاد المعاد) (والمراحل) (والبيادر).
نعم وصل نعيمة إلى السماء أو (النرفانا) التي حج إليها من قبله (الغزالي، وأبن عربي، والأسيزي) وطاف في رحابها (ابن الفارض، والجنيد، والحلاج) وغيرهم ممن صفت نفوسهم وطهرت قلوبهم من أقذار الأرض وأوضارها.
(البقية في العدد القادم)
مناور عويس