مجلة الرسالة/العدد 75/بين فن التاريخ وفن الحرب
→ مقتل شاعر | مجلة الرسالة - العدد 75 بين فن التاريخ وفن الحرب [[مؤلف:|]] |
محاولات أفلاطون ← |
بتاريخ: 10 - 12 - 1934 |
11 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء).
خالد بن الوليد
فوصلت المقدمة مساء إلى القرب من ثنية اليمامة ولقيت مفرزة من بني حنيفة نياماً في أسفل العقبة فباغتهم وأسرتهم؛ وكانت هذه المفرزة مؤلفة من ستين رجلاً بقيادة مجاعة بن مرارة أحد رؤساء بني حنيفة
والروايات جميعاً متفقة على أن مجاعة خرج من اليمامة على رأس سرية يطلب بثأر له في بني عامر وبني تميم، لأن بني عامر منعوه من أن يتزوج خولة بنت جعفر. وبعد أن باغت بني عامر عاد بخولة ووقف في أسفل العقبة مع رجاله ليبيت ليلته هناك وإذا المسلمون يباغتونه ويقودونه مع رجال أسرى إلى خالد
والذي يلوح لنا أن مجاعة كان يراقب مجيء جيش المسلمين من الثنية - أي عقبة الحيسية -. ويظهر أن قوة المسلمين باغتته دون أن يستطيع التملص منها، فلما وقف أمام خالد زعم أنه خرج للثأر
وتزعم الروايات أن خالداً قتل رجال مجاعة لتأكده كفرهم، واستبقى مجاعة ليستفيد منه في حركاته على مسيلمة. فيما ترى هل تواطأ مجاعة مع خالد على مسيلمة، أو أنه تأكد نصر المسلمين فأراد أن يسوخ موقفه أمامهم فعرض الخدمة على خالد؟ أو أنه خرج برجاله ليلتحق بجيش المسلمين فيدلهم على عورات أعداهم؟ ذلك ما لا نعلمه العلم الأكيد. والمحقق أن مجاعة ظل محجوراً عليه في معسكر خالد وقام بالواسطة بين خالد وبني حنيفة لعقد الصلح بعد انكسار جيشهم في عقرباء، فأفاد الفريقين بتلك الوساطة. ولا بد أن خالداً استجوب مجاعة فاستقى منه جميع الأخبار الموثوق بها عن مسيلمة وجيشه، فعلم منه أ مسيلمة ينتظر وروده في عقرباء.
المعركة
في رواية تقلها ابن حبيش أن خالداً لما تثبت من عسكرة جيش مسيلمة في عقرباء شاور أصحابه في الأمر فأشاروا عليه جميعهم أن يتقدم نحو عقرباء. وكانت الأخبار تنم على أن طليعة الحنفيين يقودها الرحال، وهو من رؤساء بني حنيفة، فتقدم خالد حينئذ بجيشه نحو العدو. فجعل أبا حذيفة على الميمنة وشجاع ابن وهب على الميسرة، وكان زيد بن الخطاب يحمل راية المهاجرين، وثابت بن قيس يحمل راية الأنصار. وعزل خالد براً بن مالك من قيادة الخيالة وأحل من محله أسامة بن زيد
أما جيش بن مسيلمة فكان موالياً وجهه شطر الشمال الغربي ومترتباً في سهل عقرباء بين جبل صلبوخ ووادي حنيفة. فيستدل من ذلك على أن الأرض كانت صالحة لاتخاذ نظام القتال ولحركة الخيالة، وتنم الروايات على أن ريحاً جنوبية مغبرة هبت في وجه المسلمين وزحزحتهم عن مكانهم في القتال - أي أن جبهة المسلمين كانت موجهة نحو الجنوب الشرقي. ويظهر أن قوة الرحال انسحبت لما رأت المسلمين قادمين نحوها. وكان جيش مسيلمة مرتباً على الأسلوب الشائع ومنقسماً إلى ثلاثة أقسام: الميمنة والميسرة والقلب - ولم يكن الضعن خلفه لأن قرى بن حنيفة كانت في الخلف على ما نعلم
وكان محكم بن طفيل - وهو من أجل رؤساء بني حنيفة شأناً على الميمنة، وعلى الميسرة، وشرحبيل بن مسيلمة يقود القلب. فكان مسيلمة وراء القلب يراقب مجرى القتال. وبعد أن قضى المسلمين ليلتهم في عقبة الحيسية - أي ثنية اليمامة - واستوثق خالد من أمر مجاعة، تحرك الجيش صباحاً وكانت الشقة بينه وبين عقرباء مسير يوم. وفي رواية نقلها الطبري أن الموقع الذي باغت المسلمين فيه مجاعة بن مرارة يبعد عن عسكر مسيلمة مسير ليلة. والحقيقة أن المسافة بين العقبة وعقرباء لا تزيد عن خمسة وعشرين ميلاً - أي مسير يوم من ذلك الزمن والظاهر أن خالداً قضى ليلته التي سبقت يوم المعركة قريباً من جيش مسيلمة، لأن المعركة بدأت صباحاً واستمرت إلى العصر. وكان الموقع الذي أختاره كثيباً مشرفاً على اليمامة كما ينقله الطبري. وسبق أن رأينا من وصف فلبي لرابية الأبكين أنها تشرف على وادي حنيفة وتتسلط على الأرض الممتدة إلى الجنوب. فالأرض في الشمال تتسلط على الأرض في الجنوب، وكان لوضع الأرض على هذه الصورة فائدة لجيش المسلمين
وليس لدينا معلومات عن تعبئة المسلمين في ميدان القتال، وتدل الأخبار على أن أبا حذيفة كان يقود الميمنة وشجاعا الميسرة ويزيد بن الخطاب القلب وأسامة بن زيد الخيالة. فهل كان كل من المهاجرين والأنصار على مجنبة من المجنبتين، وكانت القبائل في القلب؟ أو أن المهاجرين والأنصار كانوا في القلب وكانت القبائل في المجنبتين؟ أو أن المهاجرين كانوا في القلب مع قبائل الحجاز، وكان الأنصار على إحدى المجنبتين وكانت قبائل البادية في المجنبة الأخرى؟
هذه أسئلة يصعب الإجابة عنها. والواضح من مجرى القتال أن إحدى المجنبتين (ولعلها الميسرة) انهزمت فتلاها القلب ووصل إلى الخيام في الضعن. وأن أهل القرى - المهاجرين والأنصار وأهل الحجاز - عزوا هذه الهزيمة التي كادت تقضي على المسلمين إلى أهل البادية. فلنا من ذلك أن أهل البادية كانوا في الميسرة، وكان المهاجرون مع بعض قبائل الحي في الميمنة، والأنصار مع البعض الآخر من قبائل الحجاز في القلب. ويظهر أن الخيالة كانت في الأمام فانسحبت إلى الميسرة لتراقب الوادي، وكان الضعن وراء القلب وفيه الخيام والنساء. ووقف خالد بن الوليد وراء القلب يراقب سير القتال.
صفحات القتال
نشبت المعركة صباحاً واستمرت إلى العصر. فبذل الفريقان قصاراهما لتغلب أحدهما على الآخر واقتتلا اقتتالاً شديداً. وكما يقول الطبري كانت الحرب لم يلق المسلمون مثلها قط. وجرى القتال في ثلاث صفحات: تغلب الحنفيون في الصفحة الأولى على المسلمين وأزاحوهم إلى الضعن وكادوا ينتصرون عليهم. وفي الصفحة الثانية كر المسلمون راجعين فتغلبوا على أعدائهم فأزاحوهم من المحل الذي وصلوا إليه. وبعد أن تضافرت جهودهم استطاعوا أن يهزموا الحنفيين. وفي الصفحة الثالثة اعتصم الحنفيون في الحديقة فحاصرها المسلمون من كل صوب ودخلوها عنوة وقضوا على البقية الباقية من الحنفيين. ونذكر فيما يلي مجرى القتال في كل صفحة من الصفحات الثلاث:
الصفحة الأولى بدأ القتال صباحاً بتحميس القواد رجالهم بالكلمات المأثورة والخطب الحماسية. فنادى شرحبيل بن مسيلمة في رجاله قائلاً: (يا بني حنيفة اليوم يوم الغيرة، إن هزمتم تستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات. قاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم)
وكان أول القتال براز بين الفريقين كما جرت عليه عادة العرب، فقتل في هذا البراز الرحال بم عنفوة الذي كان في طليعة الحنفيين قبل القتال. وكان على الميسرة قتلة زيد بن الخطاب، ويظهر رؤساء آخرين من بني حنيفة قتلوا في البراز مما حمل الطبري على القول: (قتل الرحال وأهل البصائر من بني حنيفة) وبدلاً من أن يوهن هذا القتل عزائم بني حنيفة شدد عزيمتهم فتذامروا وحمل كل قوم في ناحية. ويلوح من مجرى القتال أن الضربة كانت قوية من الجانب الأيمن على ميسرة المسلمين فزحزحتها من محلها وتراجعت منكسرة لا تلوي عن شيء. فأثر ذلك في موقف القلب فرجع متقهقراً وبنو حنيفة يطاردونه إلى أن وصلوا إلى المعسكر فقطعوا إطناب الخيام
ومن الروايات ما يزعم أن ريحاً جنوبية مغبرة هبت في وجوه المسلمين فضعضعت صفوفهم، فاستفاد بنو حنيفة منها فهزموا المسلمين حتى أزاحوهم من محلهم وطاردوهم إلى المعسكر فدخلوا في الفسطاط فرعبلوه بالسيوف
والروايات متفقة على أن بعض الأعداء دخل خيمة خالد بن الوليد وكان فيها مجاعة مكبلاً بالحديد قيد مراقبة أم تميم التي تزوجها خالد بعد قتله مالك بن نويرة. فأراد الحنفيون إنقاذ مجاعة فهموا بقتل أم تميم إلا أنه منعهم من ذلك. فقال لهم: (لا تتشاغلوا في المعسكر، ودونكم الرجال) ففي مثل هذا الموقف الحرج برز خالد إلى الميدان شاهراً حسامه تشجيعاً للمسلمين ومنادياً بشعار (يا محمدآه!). ويكاد المؤرخون جميعاً يتفقون على أن خالداً بفراسته وبطولته أنقذ الموقف. ولولا قيادة خالد وجلادة الصحابة الذين لقوا حتفهم بعد أن أظهروا للمسلمين أمثلة حسنة، لدارت الدائرة على المسلمين ولا ريب.
الصفحة الثانية
تبدأ الصفحة الثانية بدعوة الرؤساء من المسلمين إلى الثبات في محلهم والكر بعد ذلك على الأعداء فثابت بن قيس الذي كان يقود الأنصار كان ينادي الأنصار قائلاً: (بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، هكذا عني حتى أريكم الجلاد) وقال زيد بن الخطاب الذي كان يقود القلب حين انكشف الناس عن رحالهم - أي المعسكر -: (لا تحوز بعد الرحال) وقام البراء أخو أنس بن مالك ينادي قائلاً (أنا البراء ابن مالك. هلم إلي) أما أبو حذيفة الذي كان يقود الميمنة فكان ينادي قائلاً: (يا أهل القرآن! زينوا القرآن بالفعال). وفي مثل هذا الوقت العصيب تدبر خالد الموقف ففكر في حيلة يعيد بها نخوة المسلمين، ويزيد حماستهم، ولا سيما لما رأى أهل القرى يحينون أهل البادية وهؤلاء يحينون أهل القرى
وتكاد الروايات جميعاً تتفق على أن القبائل من أهل البادية انهزموا أول مرة فألقوا الوهن في صفوف المسلمين. والظاهر من نتائج المعركة أن أهل القرى ثبتوا (فاستحر بهم القتل) كما يذكر الطبري. وكان التدبير الذي توصل إليهخالد لينقذ الموقف ويتغلب على عدوه منحصراً في أمرين:
أولاً - فصل أهل القرية عن أهل القبائل، ووضع كل فريق منهم في جانب. فكان الأنصار والمهاجرين وأهل القرى الآخرون في جانب، والقبائل في جانب آخر. لأن انهزام المسلمين أوقع الخلل في تركيب المعركة، فاختلطت الميسرة بالقلب، والقلب بالميمنة، وتخلى الناس عن رؤسائهم
ثانياً - طلب من كل جانب أن يمتاز، وذلك لما رأى أهل لقرى يعزون سبب الخيبة إلى القبائل، والقبائل تعزو الخيبة إلى أهل القرى. وفي هذا تناحر لدى الفريقين، وإذا ما اشتد التناحر يؤدي إلى التقاعس
فصرخ في المسلمين طالباً منهم أن يمتازوا ليتبين من أين يأتي الخلل. وكان يريد بذلك أن تبرز الفرق فلا ينسب إليها ذلة الانكسار. ونال بذلك ما أراد. فأمتاز أهل القرى والبوادي؛ وامتازت القبائل من أهل البادية، فوقف بنو كل أب على رايتهم كما يذكر الطبري. فتولى خالد بنفسه قيادة صفوف أهل القرى، فقاموا جميعاً قومة واحدة فقاتلوا قتال الأبطال. وكان خالد في أول الصف يشجع المسلمين ببطولته ولا يقابله أحد إلا قتله. وكان يفتش عن مسيلمة ليقتله، لأنه عرف أن الحرب لا تركد إلا موته، وأن بني حنيفة لا تحفل إلا بقتله. وكان من أمر ذلك أن تشجع المسلمون فصدوا العدو ويذكر الواقدي أن زيد بن الخطاب كان يحمل راية المسلمين فلما رأى أصحابه ينصرفون من أطرافه قال: (والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتي؛ عضوا على أضراسكم أيها الناس! واضربوا في عدوكم وامضوا قدماً) ولم يزل يشجع أصحابه إلى أن قتل والراية في يده، فأخذها أبو حذيفة، فجادل بسيفه حتى قتل فنادى في قومه (العزة لله ولرسوله ولأحزابه. أروني كما أريكم) ثم جلد في الأعداء وقاتل حتى قتل. وتسلم راية المسلمين سالم مولى أبي حذيفة، وظل يناضل عنها إلى أن قتل، فتسلمها آخرون وقتلوا
وإزاء هذه الجهود المتضافرة والأمثلة المشجعة تمكن المسلمون من أن يزحزحوا الأعداء من مكانهم حتى أزاحوهم تماماً، فأخذوا يطاردونهم. وفي مثل هذا الحين أخذ محكم بن الطفل المدعو بحكم اليمامة يشجع بني حنيفة منادياً: (يا معشر بني حنيفة الآن والله ستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حصينات، فما عندكم من حسب فأخرجوه). فقاتل قتالاً شديداً
أما أهل اليمامة فلما رأوا المسلمين يركبونهم صرخوا في وجه مسيلمة قائلين له: (أينما كنت تعدنا؟) فأجابهم قائلاً: (قاتلوا عن أحسابكم)، ولما رأى المحكم أن الدائرة دارت على بني حنيفة صاح فيهم: الحديقة! الحديقة! يريد بذلك أن يتحصنوا فيها ويقاوموا المسلمين. فانسحبوا إلى الحديقة واعتصموا بها. ويظهر أن المحكم لم يتمكن من الوصول إليها لأن عبد الرحمن أبن أبي بكر رماه بسهم فقتله.
يتبع
طه الهاشمي