مجلة الرسالة/العدد 749/من وراء المنظار
→ صوت من الريف المريض: | مجلة الرسالة - العدد 749 من وراء المنظار [[مؤلف:|]] |
الأدب والفن في أسبوع ← |
بتاريخ: 10 - 11 - 1947 |
حمار آخر. . .!
الترام الجاهد يسير محملاً ليس فيه ركن أو ممر أو مدخل أو شبر على السلم إلا ويشغله الراكبون متلاصقين متضاغطين كأنما لم يأتهم نبأ هذا الوباء الذي خوف الناس بعضهم من بعض. . .
وأنا في مقعدي أسأل نفسي متعجباً كيف ينزل من يريد أن ينزل فضلاً عن أن يركب من يريد أن يركب! ودقت باب الدرجة الأولى بد وحاولت فتحه ولكنه لم يفتح لأن شخصاً كان يسند ظهره إليه، وهو لا يستطيع أن يتحرك من موضعه إلا أن يتحرك من يقف أمامه، ولن يستطيع هذا أن يفعل إلا أن يمكنه من يليه. . . واشتد طرق الباب فتضاغط الواقفون، وانفتح الباب ودخل هذه الحجرة المكتظة فتاتان عجبت وعجب الراكبون كيف خلصتا من الزحام حتى دخلتا الحجرة، وما أحسبهما إلا استحالتا هواء فنفذتا من بين الأرجل أو من فوق الرؤوس حتى بلغتا حيث وقفتا بين الواقفين.
ووقف الترام فنزل اثنان من الواقفين وقد شقا طريقهما في جهد من جهة السائق ولم يركب أحد، ثم وقف ونزل ثلاثة ولم يركب أحد، وبقيت الفتاتان فاستندت إحداهما إلى باب والثانية إلى الآخر.
وكانت إحداهما على جانب عظيم من الملاحة والسحر تحدث أثرها في النفوس بنظراتها وبما يبدو من براعة ذوقها في اختيار ألوانها وأشياء زينتها، وكانت الثانية كأنما تصحبها لتزيد جمالها أو لتنبه عليه فقد كانت بحيث أن انتماءها إلى جنسها مما يجعل أحياناً نعته باللطف نوعاً من السخرية. . .
وصوبت الحسناء نظرة إلى شاب كان في سمت بصرها فكأنما نفذت نظرتها إلى قلبه وكأنما أراد أن يبرهن لها على أنه جدير منها بهذه النظرة، فنهض واقفاً ودعا الفتاة إلى الجلوس في موضعه وإنه ليتظرف ويتأنق ويستلين في إشارته وحركته ويلطف في نبرته وعبارته حتى لقد أوشك أن يكون ما ينعت به جنسه من الخشونة ضرباً من التعسف. . .
ونظرت الفتاة وقد استقرت في مقعدها إلى صاحبتها مزهوة دون أن تشكر هذا المتظرف المتلطف بكلمة، وضحكت وقالت عبارة لا هي عربية ولا فرنسية ولا إنجليزية؛ وضحكت الثانية وأظهرها ضحكها برهاناً آخر على مبلغ ما يكون بين جنسها وبين اللطف من بعد الشقة. . . واحمر وجه الفتى حتى كاد أن يقطر منه الدم، وأشار بيده إلى التي سحرته فتخلى لها عن مكانه إشارة مَن نسي شيئاً على المقعد فلم تكد تقف حتى انفعل فعاد إلى مكانه وجلس وهو يقول لها في غيظ ابحثي عن حمار غيري فلست حماراً!
وأصفر وجه الفتاة بقدر ما أحمر وجه الفتى الظريف الناعم إلى من حوله وهو يدق يداً بيد ويقول إنها تقول لصاحبتها انتظري ريثما يقف حمار آخر فاجلسي؛ فيكون جزائي على إنسانيتي أن أكون عندها حماراً وأن يكون هذا مبلغ شكرها لي!
وكان حقاً أن نغضب جميعاً وأن يحاول كل منا أن ينفصل من حماريته بكل ما في طاقته، فقال كهل من الجالسين يخاطب الفتى: (ليس هذا جزائك على إنسانيتك وإنما هو جزاؤك على مصريتك وإنا في الواقع لسنا كرماء لضيوفنا بل نحن عبيد لهم.
أفْهِمْ أن تنهض لتجلس مريضة أو عجوزاً أو أماً بين ذراعيها طفلها أما أن تقف لهذه. . . أرأيت أجنبياً ينهض لمصرية قط؟ متى نفهم هؤلاء الأجانب أننا سادة في بلادنا وإذا كنا لا نستطيع الآن أن نفهمهم ذلك بأخذ ما في أيديهم مما بنوه في غفلتنا فلا أقل من أن يعلموا أننا صحونا. لا أقل من أن يفهموا أننا لم نعد بعد حميراً).
ونظر هذا الثائر الكهل إلى الفتاة المسيئة وقال لها في مثل شراسة النمر (أنزلي من هنا روحي في داهية). . . وتنمرت الملعونة كأنما تذكرت أيام الامتيازات ورأيتها بجوار الباب كالقطة وجدت نفسها في مأزق فعولت على أن تعض بأسنانها وتخمش بمخالبها. . .
ولكن النمر الغضب جذبها من ذراعها، ونادى السائق فوقف، وصرخت القطة صرخة جمعت علينا الركاب من العربة الأخرى وأقسم الرجل إن لم تنزل في وصاحبتها على أرجلهما فسوف يلقي بهما من النافذة. . .
وتساءل الناس وتألموا مما علموا وأجبرت الفتاتان على النزول وفي نظرنا أن كلا منهما تنتمي إلى اللطف ظلما، هذه بوقاحتها، وتلك بقبحها.
وخجل الشاب الذي استرد إنسانيته حتى ما يستطيع أن ينظر طويلا في وجه ذلك النمر الغضب. . .
وضحك أحد الجالسين يريد أن يذهب عنا الغضب، وقال أحب أن أعرف منذا يرضى بعد هذا في الترام أو في السيارة أو في المتجر أو في المصنع أو في السينما أو في الشارع أو يكون الـ (حمار الآخر)؟ وضحكنا وضحك حتى النمر الهائج.
الخفيف