مجلة الرسالة/العدد 749/تعقيبات
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 749 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 10 - 11 - 1947 |
أم كلثوم ونهج البردة:
نهج البردة للمغفور له أحمد شوقي بك قصيدة معروفة مشهورة قالها في التوسل ومدح النبي صلوات الله عليه عندما قصد الخديوي عباس الثاني إلى الحج عام 1909م، وعارض بها قصيدة البردة - أو البرءة - للشاعر شرف الدين محمد بن سعيد الأبوصيري، وقصيدة البردة هذه أشهر من كل تعريف، فما رزقت قصيدة في الأدب العربي ما رزقت من الذيوع في ألسنة الناس، حتى إنها في القرى لتعتبر نشيد الوداع الذي يردده (الفقهاء) في أذن الميت وهو في طريقه إلى القبر. .
أما قصيدة نهج البردة فلها قصة، فقد نظمها شوقي في مناسبة حج الخديوي كما قلنا؛ وكان يرجو أن تكون هذه المناسبة إلى جانب الاتجاه الديني في القصيدة مما يضمن لها الذيوع بين الناس كما ذاعت البردة، وطبع يوم ذاك شرح لتلك القصيدة قيل إنه من عمل المغفور له الشيخ سليم البشري - وهو في مقامه الديني ما هو - ليضفي عليها القداسة، ولكن أهل الخبرة يؤكدون أن ذلك الشرح كان من عمل نجله المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري، وإن كان الشيخ عبد العزيز ظل ينفي هذه التهمة إلى آخر أيامه، عليه رحمة الله. .
ومهما يكن من شيء فإن نهج البردة لم تبلغ مبلغ البردة وغنتها كما سمع الناس، أقول غنتها والصحيح أن أقول إنها ألقتها، أو أنشدتها، لن أم كلثوم لم توفق في غناء القصيدة كما هو شرط الفن وشرط الغناء، وذلك يرجع إلى عدة أسباب:
أولاً: لأنهم اختاروا للمطربة ثلاثين بيتاً من القصيدة، ومهما يكن المطرب من قوة الحنجرة وبراعة الصناعة وحسن التصرف فإنه لا يستطيع أن ينهض بهذا المقدار في الغناء دفعة واحدة وخاصة في الشعر القوي الرصين.
ثانياً: لأنهم لم يراعوا في الاختيار درجة صوت أم كلثوم في مقاماته الفنية، ومن المعروف أن كل شعر لا يصلح لكل لحن، وأن كل لحن لا يلائم كل صوت. .
ثالثاً: جعلوا الغناء محدوداً بمدة من الزمن، ولهذا عمد الملحن إلى إخراجها دفعة واحدة، ولم يتمكن من خلق فترات موسيقية لاستراحة المطربة إلا مرة واحدة.
وعلى أي حال فإن الملحن لم يكن موفقاً، لأنه جرى على نغمة واحدة رتيبة، وهي النغمة التي آثرها الموسيقار رياض السنباطي في تلحين قصيدة (سلوا قلبي) وقصيدة (السودان) ولهذا شعر الناس بأن أم كلثوم لم تأت بجديد في قصيدة نهج البردة، وقد سمعوها وكأنهم كانوا يسمعون شيئاً معاداً في آذانهم وأكثر من ذلك فإن اللحن كان يتخلى عن المعنى في كثير من الأحيان.
شيخنا الجارم:
وشيخنا علي الجارم بك لم يكن موفقاً في ذلك الشرح الذي قدم به الأبيات التي غنتها أم كلثوم إلى السامعين، فقد جرى في ذلك على ما ألف من الطريقة المدرسية وهي طريقة عقيمة لا تجدي في فهم الشعر وإظهار جماله، فقد عمد إلى شرح الكلمات اللغوية على ما هو وارد في القاموس، ثم أخذ يورد المعنى على مقتضى هذا التفسير، فهو مثلا يشرح قول شوقي:
لما رنا حدثتني النفس قائلة ... يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمى
فيقول: رنا إليه: أطال النظر. . . الخ. . كلا. ثم كلا. فإن إطالة النظر هنا تهدم قوة البيت وتقلل من جماله. .
وعجيب من شيخنا الجارم أن يذكر معارضة البارودي للأبصيري، ويذكر مطلع تلك المعارضة، ولكنه لم يذكر بيتاً واحداً للأبصيري، وهو الأصل والأساس الذي قام عليه كل هذا البنيان.
ويقول شوقي:
يا رب هبت شعوب من منيتها ... واستيقظت أمم من رقدة العدم
رأى قضاؤك فينا رأى حكمته=أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
وكان شوقي رحمه الله يشير بكلمة (منتقم) إلى معنى مقصود فقد قال قصيدته في أعقاب حادثة دنشواي التي أدمت قلوب المصريين، وكانت مصر في ذلك الوقت تسام الضيم والهوان من أساليب الاستعمار، وكان الخديوي في ضيق من هذا ما بعده ضيق، فتوسل شوقي إلى الله في (الانتقام) من هؤلاء الظالمين المستبدين، وجمجم بذلك ولم يستطع الإبانة نظراً لصلته الرسمية يوم ذاك بالقصر، فجاء الجارم بك بعد طول تلك السنين وجمجم كذلك في شرح هذا المعنى.
لقد كنت أعتقد أن غناء أم كلثوم لهذه القطعة من نهج البردة إنما هو لإثارة عواطف الشعب بهذا المعنى لمناسبة ما هو قائم اليوم بيننا وبين الإنجليز وكنت أعتقد أن الجارم سيعمد إلى الكشف عن هذه الحقيقة، ولكنه لم يحوم على ذلك أبداً، ولست أدري إذن لأية مناسبة كان اختيار هذه القطعة وتلحينها وغنائها وشرحها ذلك الشرح الجارمي.
البصائر للتوحيدي:
أبو حيان التوحيدي شيخ من شيوخ الأدب العربي، فهو تلميذ الجاحظ غير مدافع، من بحره اغترف، وفي طريقه درج، ولكنه في آخر حياته ضاق بالناس وبالدنيا لطول ما لقي من عنت الناس وقسوة الحياة، فجمع كل مؤلفاته وقدمها طعمة للنار، حتى لا تكون وشيجة بينه وبين الناس بعد مماته، وحتى يريح عظامه في القبر من جهل العيابين كما قال. .
ولكن المنقبون من العلماء عثروا على مخطوطات لبعض مؤلفات هذا الأديب الثائر فعمدوا إلى تحقيقها ونشرها، فمن قبل أخرجت له مطبعة بولاق كتاب (الصداقة والصديق) كما طبعت له رسالة صغيرة في (العلوم) ثم نشر الأستاذ حسن السندوبي له كتاب (المقابسات) وهو من أمتع مؤلفاته، ومنذ أعوام أخرج الأستاذ أحمد أمين بك والأستاذ الشاعر أحمد الزين كتاب (الإمتاع والمؤانسة) مصححاً محققاً، وقد حدثني الأستاذ أحمد الزين منذ سنوات أنه أعد العدة مع الأستاذ أحمد أمين لنشر كتاب (بصائر القدماء وسرائر الحكماء) للتوحيدي، وأنهما جمعا له كل ما يمكن من الأصول، وبذلا لتحقيقه وتصحيحه غاية الجهد حتى يخرج على أتم ما يكون. .
أقول هذا بمناسبة ما جاء أخيراً في بريد سورية من أن الأستاذ إبراهيم الكيلاني قد قدم الكتاب للطبع بعد أن حققه وعلق عليه، فلعل الأستاذ الكيلاني - ما دام لم يمض في الطبع - يرجع إلى الأستاذ أحمد أمين فيما حقق من أصول هذا الكتاب وجمع من مصادره ومخطوطاته ولا بأس أن يكون الجهد مشتركاً حتى يخرج الكتاب كاملاً في التصحيح والتحقيق، ولا معنى لأن يطبع الكتاب طبعة في الشام وأخرى في مصر وتكون كل منهما تكمل الأخرى.
اللغة العربية والجنسية الإسلامية: من أنباء الباكستان، الدولة الإسلامية الجديدة في الهند، أن الرجال المسئولين والهيئات الثقافية هناك قد أخذت تهتم بتعليم اللغة العربية وتوسيع الدائرة في دراستها نظراً لما يقتضيه وضع الباكستان الجديد من توطيد الصلات بالعالم الإسلامي.
واللغة العربية لا شك دعامة قوية في بناء الجنسية الإسلامية فما ربط المسلمين ولا أمسك بوحدتهم وبقوميتهم على طول السنين وعلى رغم الحوادث والكوارث مثل اللغة العربية التي توحدت في كتاب الله عز وجل كما توحدت في مظاهر العبادة الإسلامية وأدائها، وليس هناك ما يبعث الروعة ويهز المشاعر مثل نداء المسلمين جميعاً وهم يدخلون الصلاة هاتفين: الله أكبر.
والمسلمون في الهند أهل غيرة على دينهم، وهم معرفون من قديم بمواقفهم المشهورة في جانب الوحدة الإسلامية ولا أظن أن هناك من يجهل جهاد المغفور له محمد علي وشقيقه شوكت علي، ولا أظن أن هناك من يجهل جهاد الهنود المسلمين للإبقاء على الخلافة الإسلامية حتى تكون تاجاً للوحدة ودعامة من دعائمها.
فهذا الاتجاه الذي تتجه إليه الباكستان اليوم، وهي في أول عهدها بالوضع الجديد، مما يدعو إلى توطيد صلتها بالعالم الإسلامي، والواجب على الجامعة العربية أن تشجع فيها هذا الاتجاه، وواجب على مصر خاصة أن تساعدها في هذا، وأن تمدها بالمدرسين للغة العربية، وإنه لأل ما يجب على مصر في هذا السبيل.
حيا الله (الباكستان) في عهدها الجديد ووقاها شر الدسائس الاستعمارية، وصانها مما يحيطها من الزلازل والقلاقل.
(الجاحظ)