مجلة الرسالة/العدد 748/بلبلة
→ إنصاف البيت المظلوم | مجلة الرسالة - العدد 748 بلبلة [[مؤلف:|]] |
رحلة إلى الهند ← |
بتاريخ: 03 - 11 - 1947 |
للأستاذ محمود محمد شاكر
لست امرءاً قانطاً ولا متشائماً ولا يائساً من خير الأمة العربية، بل لعلني أشد إيماناً بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها، بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السري والغلبة الظاهرة إن شاء الله، وأنها الأمة التي أرصدها بارئ النسم لرد العقل على هذه الإنسانية المجنونة في هذه الحضارة الهوجاء. فالعرب مذ كانوا هم الجوهرة التي أطبقت عليها صحراء الجزيرة، فما زالت تكتمهم في ضميرها وتحنوا عليهم وتمنعهم من كل فساد داخل حتى صفا ملئوهم ورف شبابهم وأضاءوا من جميع نواحيهم. فلما جاءهم محمد ابن عبد الله بشيراً ونذيراً وهادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صار كل رجل من صحابته نجما يهتدي به الضال ويأتم به المسدد. ويومئذ تمت المعجزة الكبرى في تاريخ العالم، فانطلقت هذه الفئة الصالحة من عباد الله كأنها السيل المتدفع، وكانها الرياح العاصفة، وكأنها الأشعة المتلألئة، وكأنها قدر الله، فدكت حصون الروم، وثلت عروش الفرس، ودوخت جبابرة الأمم، حتى ورثوا أرض الله وأقاموا فيها الحق والعدل بالميزان والقسط، وجاءت سلالتهم فجددت حضارة الدنيا، وإذا الذين كانوا بالأمس بداة جفاة غلاضاً فيما يرى الناس من أهل الحضارات السالفة، هم الناس وهم العلم وهم أصحاب الإمرة في كل فن وعلم وسياسة وتدبير ملك. إنها لمعجزة لم يوفها مؤرخ حقها من المجد والقوة والظهور.
فهذا الجيل من عباد الله مطوي على صلاح كثير وخير عميم وقوة خارقة، لا أظن أن الزمن قد ذهب بها ومحقها، فلذلك أراني وملء قلبي الإيمان بأنه سوف ينتهي إلى الغاية التي كتبت له التاريخ هذه الإنسانية. وعسى أن يكون زمن ذلك كله قد أتى وأظل، فإني أسمع نشيش الحياة وهي تتخلق في مرجل الوجود وقد أحاطت به النيران المجنونة المتضرمة من كل مكان. ولكن لابد من عمل يتولاه رجال من هذه الامة، فينفخون في الضرم حتى تستعر النار الخالدة لتنفي عن هذا الجيل كل خبث ألم به من أدران الحضارة التي يعيش فيها عالمنا اليوم غير أني أخشى أن يكون الإهمال والعجلة وقلة المبالاة واخذ الأمور بالاستخفاف، مما يفضي إلى فوات الفرصة التي أمكنت، ويقضي على هذا الأم الذي يضئ لنا من بعيد ينادينا إلى ما فيه خيرنا وخير هذا الناس.
ويخيل إلي أننا نعيش اليوم في عصر بلبلة واختلاط، وهذا شئ قد أصاب أمما كثيرة من قبلنا، فلم يعقها ذلك عن إدراك الغايات التي حرصت على السعي إليها وعلى بلوغها. بيد أن لابد لأمة أرادت أن تخلص من هذه البلبلة أن يتجرد من رجالها ونسائها فئة لا ترهب في الحق سطوة ولا بطشاً ولا اضطهاداً ولا تدخر دون مطلبها جهداً ولا عزيمة، ولا يثنيها إخفاق، ولا تلفتها فتنة، ولا يصفها الفرح بقليل تناله عن الكدح في سبيل ما ينبغي أن تناله.
وقد أراد الله بمصر أن تكون في هذا العصر قدوة العرب ومجتمع أمرهم وكعبة قصادهم، وهذه البلبلة في مصر اشد ظهورا وغلبة منها في غيرها من بلاد العرب، فأخوف مخافة أن تظل مصر غافلة عن شر هذه البلبلة فتعدى سائر العرب بالأسوة والقدوة، فينتشر الأمر انتشاراً يعجز المخلصين أن يلموه. فبين ظهر أنينا اليوم ألوف من الطلاب العرب قد جاءوا من كل قطر لينهلوا من علم مصر، ويعودوا إلى بلادهم يجاهدوا في سبيلها، فإذا أعدتهم هذه البلبلة فسوف يحملونها معهم إلى بلادهم فيفرقوا المجتمع من كلمة أممهم، ويرتكز الأمر حتى يصبح ولا علاج له هذا، وأنت لا تعدم صدى البلبلة في الصحف والكتب والمجلات المصرية التي أخذت تزداد انتشارا واتساعا، فكيف لا يخشى أن يعم هذا البلاء كل بلاد العرب ويتغلغل في نواحيها؟ ويومئذ نصبح طعما للأمم الضارية التي تحيط بنا من كل مكان، وتحد لنا أنياباً عصلا تنهشنا بها يوم يتاح لها أن تنقض على هذه الفريسة التي لا تدفع عن نفسها.
فمن شر هذه البلبلة، ما نرى من سوء تدمير الأحزاب السياسية المصرية، فهي قائمة على نزاع دائم في سبيل الحكم، بكيد بعضها لبعض، ويأكل بعضها بعضا، ولا يرى أحد لأحد حرمة. وتنشئ هذه الأحزاب صحافة يكون هم محرريها التشهير بمن يخالفهم في الرأي والمذهب، فيدلسون الحقائق، ويكتمون الحق، ويفترون على الناس الكذب، ويلون ألسنتهم بالحديث ويحرفون أعمال من يعادونهم تحريفا لئيما مستهجناً، كل ذلك ابتغاء مرضاة رؤساء الأحزاب وأصحاب الأمر فيها. هذا على أن هذه الأحزاب قد نشأت أو أنشئت بغير أهداف مبينة للناس تعاهدهم على أن تسعى إليها، وبغير برنامج لإصلاح هذه الأمة التي لم تجد لها نصيرا من أبنائها، وبغير نظام ينفي عن الحزب الدخلاء والملوثين وذوي الأغراض الخبيثة.
ثم يأتي بعد ذلك نوع من الصحافة يتلبس بالورع، ويتظاهر بالتقوى، ويتخشع بالبراءة من التعصب، ويبدي للناس انه طالب خير للناس، وانه يريد النفع هذه الأمة وعامل على ترقيتها وتهذيبها وهو في خلال ذلك يدس لها سما زعافاً ومنية قاتلة، شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً وساعة بعد ساعة حتى لا تمجه الألسنة لأول مذاق، ثم إذا بان طعمه شيئا لم تستنكره، ثم يستمر حتى إذا دام قليلا الفتح وربت عليه، ثم إذا زادته شيئا لم يكن إلا طيبا مستساغاً، ثم إذا الناس يطالبونه أو يخيل إليهم انهم يطلبونه لأنه مما يتصل بأدنأ الغرائز الحيوانية والشهوات البهيمية، ويجند لكل هذا الخبث جمع من الكتاب الذين ظلوا عن حقيقة أنفسهم وطائفة من الشباب الذين أفسدتهم المدارس الأجنبية والجامعات الغربية عن هذه الأمة، وهذا الطرف من الصحافة الخبيثة هو البلاء المستطير الذي لم يجد إلى اليوم من يكشف عن طواياه الخبيثة وأساليبه القاتلة، وعن دبيب رأي هذه الأمة العربية دبيب الضلالة في قلب الغرير المفتون.
ثم يأتي بعد ذلك كتاب وعلماء ورجال من أصحاب الرأي، ليس في قلب أحد منهم تقوى لله ولا خشية للاثم ولا محبة للحق، فيرى أحدهم الرأي الفطير فلا يلبث أن يمسك القلم فيجري السواد على بياض الورق، فإذا هي مقالة أو كتاب أو رأي اخبث منه صاحبه والناطق به، فيأخذه المبتدئ المتطلع، فيعتقده كأنه لقطة نفيسة بغير تحقيق ولا تمحيص، فإذا سمع رأي يخالف ما قرا لهذا الكتاب البليغ أو الأستاذ الكبير أو الفيلسوف القدير، أنكره وأدبر عنه، فيزيده هذا الإنكار لجاجة، وتزيده اللجاجة عنادا، ويملئوه العناد كبرا، فيعما عن الحق وهو بين، ولا يزال يهوى في العناد حتى يصير ذلك عادة في مسألة بعد مسألة ورأي بعد رأي، وإذا هو عند نفسه أكبر من أن يأخذ عن فلان لأنه يخالفه في الرأي.
وتزيد الدولة هذا الأمر ضراوة واستعاراً، فتولى الأمور غير اهلها، وتضع الناس في غير منازلهم وتكرم فلان بإلحاقه بوظيفة كذا لأنه من أشياع الحزب الذي يتولى الحكم، فإذا خافت عليه أن ينزع من مكانه إذا جاءت وزارة أخرى، ألحقته بعمل لا يقبل العزل. فإذا جاء وزير للمعارف مثلا وله أصحاب من شيعته ممن عرفوا بشيء من الأدب ألحقه بالمجمع اللغوي مثلا تكريما له، فيريد هذا الرجل أن يحقق معنى هذا التكريم على ما خيلت، فينبري لإبداء الرأي فيما لا يحسن، ويكشف عن عورة من الجهل لا تستر. وليتها كانت رأياً بدا له فكان صاحبه الأول كلا، بل هو يعمد إلى آراء أماتها الذي أمات الخرافات والأساطير فيخيل إليه انه وهو الأديب المؤلف الكاتب مستطيع أن يحيى هذه الرمم البالية برأيه وحجته وحسن معرضه، فكيف تكون مغبة هذا الجهل على شاب ناشئ يقرا ملفقات السخف المدلس، وليس عنده قدرة على تمحيصه.
ويأتي آخر يلقيه صديق مثلا على كرسي الجامعة ليدرس العلم لطلاب العلم، فإذا هو عازم على أن ينشئ علماً جديداً لطلابه، فيبحث في تحاريب عقله عن أشياء يخيل إليه أنها فن جديد وبلاغة جديدة وعلم لم يصل إلى إدراكه سابق ولن يناله لاحق إلا بالتلقي عته والوقوف بين يديه. ويخرج هذا الأستاذ جيلا من مساكين الطلاب لا يحسنون شيئا إلا التعصب له والتسمي باسمه والتشبه به في فساد الرأي وقلة العلم وضعف الملكة. ويجتمع منهم ومن شيخهم فئة تهجم على العلم بغير علم، فإذا أراد أحد أن يقف في سبيلها تناعقت باسم حرية الرأي وحرمة الجامعة. فكيف تكون العاقبة إذا خرج مثل هؤلاء الشباب الناشئين بأمثال آرائهم المقيتة الجاهلة، وعلى رأس كل منهم تاج مكتوب عليه (دكتور في الآداب) أو (دكتور في الفلسفة) أو (دكتور في التاريخ)؟ وكيف يسلط هؤلاء على عقول ناشئة العرب، يفتنونهم بالألقاب والأسماء، وبتعاون هذه الفئة المضللة على نصرة بعضهم لبعض؟ فإذا بقى الأمر على ما ترى في أمر زعمائنا، وفي أمر سياستنا، وفي أمر اجتماعنا، وفي أمر أدبنا، وفي أمر صحافتنا، وفي أمر مدارسنا وجامعاتنا: فكيف نرجو أن نصل إلى غاياتنا؟ وكيف يتاح لهذه الشعوب العربية الكريمة أن تتأهب للمعركة الفاصلة في تاريخ العرب على بلوغ الهدف الأعظم، وهو هدف يرمي إلى إنقاذ الإنسانية كلها من ردغة الخبال التي ألقت بها حضارة ضخمة، ولكنها قد حشيت شراً كثيراً وخبثاً؟
ولو شئنا أن نتقصى ظواهر هذه البلبلة في أشياء كثيرة مما يتعرض لها الشعب مرغماً أو مريداً أو مخدوعاً لأطلنا، فما من شئ إلا وقد اختلط فيه الأمر على غير هدى. وإذا شئت أن تقدر سوء ما جنينا من شرها، فجالس من شئت من طوائف الشباب وجاذبهم الحديث، واستدرجهم إلى المناقشة في رأي أو علم أو فن، تسمع العجب العاجب من الخلل في موازين الأشياء المطبقة في تقدير ما يقع تحت أبصارهم وأسماعهم، والعجز المضطرب عن ضبط الرأي، والضعف المطلق عن القيام بحق العقل والإدراك واكبر من ذلك كله انهم اصبحوا لا يرون صاحب رأي إلا وهو دونهم، فلا يسلم من انتقاصهم ونقدهم، فإذا صححت لهم وأردت أن تقيمهم على الطريق استكبروا واعرضوا، فكيف تأتي أنت فتعلم حامل شهادة الحقوق أو الطب أو الأدب أو الفلسفة شيئا يستيقن هو في نفسه انه قد فرغ منه وعلمه علما ليس بعده إلا العروج إلى سماء الخلود.
وكذلك الأمر في طبقات أخرى من العلماء إلى الأدباء إلى رجال القلم إلى أصحاب الصناعات إلى عامة الناس. وهذا شيء مخوف مدمر للجهود الذي بذلتها طائفة من السلف القريب في تسديد خطى هذا الشعب وترقيته وتهذيبه وتطهيره من الجهل والبلادة والغفلة. وإذا طال ذلك ولم نعالجه في مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، وفي دور التسلية، وفي أندية المجتمع، فالعاقبة الوخيمة بالمرصاد لمن أهمل وأضاع وترك الأشياء تمضي في غير عنان وعلى غير هدى. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى صحافة جديدة حرة لا تخاف شيئا ولا تخشى، تدل على مواطن العيب لا الطعن والتشهير وسب هذه الأمة، بل لعلاجها والدفاع عنها ونصرتها على نفسها. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى شباب من الكتاب وشيوخ من المحنكين يخلصون الرأي لهذه الأمة، فلا يدعون الفرصة تفوت ويحملون الشعلة الجديدة إلى الجيل الجديد الذي لم يلوثه العناد والكبرياء واللجاجة والمراء. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى طائفة ممن خبروا الحياة وعرفوها ليكونوا شهداء على مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، تستعين بهم الدولة على نهج جديد يمنع عن جماهير الشباب وطوائف الأمة كل ما يزيد هذه البلبلة إيغالا وضراوة.
إن الزمن يمضي مضاء حثيثا كالنار في الهشيم، فان شئنا أن نحيي وان نستعد للذي أعدنا الله له من الظهور في الارض، واصلاح ما اختل من شئونها. فعلى كل قادر أن يجمع أمره، وأن يدعوا أصحابه، وان يلم الشعث المتفرق ممن يظن فيهم خيرا، لكي يتعاونوا جميعا على رد هذا البلاء بالرفق في مواضع الرفق، وبالبأس في مواضع البأس، وبالبتر حيث لا يجدي شئ إلا البتر بلا هوادة ولا رحمة. . . . .
محمود محمد شاكر