مجلة الرسالة/العدد 748/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 748 القصص المؤلف: فرانسوا كوبيه المترجم: عبد اللطيف حسين الأرناؤوط |
من مذكرات سجين أو غيرة Jalousie هي قصة قصيرة بقلم فرانسوا كوبيه نشرت عام 1890. نشرت هذه الترجمة في العدد 748 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 3 نوفمبر 1947 |
من مذكرات سجين
للقصصي الكبير فرانسوا كوبيه
بقلم الأديب عبد اللطيف حسين الأرناؤوط
في صباح الغد، ينقضي أمد ستة الأشهر التي حكم علي بقضائها في السجن لسرقتي ألفي فرنك من خزانة المحل الذي كنت موظفاً فيه. وفي صباح الغد أكون قد كفرت عن خطيئتي وقضيت ما علي من دين للمجتمع الإنساني.
في صباح الغد في الساعة الثامنة سيطرق السجان باب سجني ومعه ثيابي التي خلعتها قبل دخولي السجن. وإني لأذكر تلك الثياب، فإنها كانت جديدة متقنة الصنع على أحدث طراز وسأرتديها غداً وأخرج إلى الطرقات. فمن يظن وأنا في مثل هذه البزة أني خارج من أعماق السجون! سأخرج في الساعة الثامنة وأرى مرغريت كوعدها تنتظرني في عربة أمام باب السجن. . .
بين مساء اليوم وصباح الغد سأصير حراً طليقاً وسأكون سعيداً لو أردت، فمرغريت التي ارتكبت من أجلها هذه السرقة تقسم لي في خطاب الأمس إنها ما زالت حافظة لعهدي متمسكة بودي، وإنها ستعيش معي حتى الموت، إذن فسنعيش آمنين بين أحضان باريس العظيمة التي وسعت كل عار وسترت كل ذنبن ومن كان في نشاطي لم يعجزه مرتزق بعيش من وراءه هو وحبيبته. . . ولكن لندع عمل المستقبل للمستقبل، ولا نفكر الآن إلا في الغد، وما سيتبلج عنه صبحه، إن مرغريت ستنتظرني في عربة فعندما أرى هذه العربة أمام السجن، أجري إليها، فألمح مرغريت منزوية في ركن منها، فاخذ مكاني بجانبها وآمر السائق باحتثاث السير، وبعد ذلك امسك يد مرغريت وانظر إليها فتهتاش المسكينة شوقاً، وترتمي على صدري باكية. . .
ما أعذب القبلة التي تعقب ذلك. وتكون العربة أثناء ذلك قد أوصلتنا إلى منزلنا فنصعد إلى غرفتنا في الطابق الرابع، التي تشرف نافذتها على حدائق اللوكسمبورج. ونعد مائدة إفطارنا أمام النافذة حيث تداعب أشعة شمس الصباح أنينها فتبدو لامعة كأنها تبتسم لملاقاتي، وبعد أن نتناول طعامنا بين حديث ولعب، تجيء مرغريت بالقهوة، فأجلس أحتسيها، وتجلس هي بجانبي وتسند رأسها إلى كتفي، فأستنشق عبيرها، وأستروح أنفاسها، ثم أقبلها قبلة طويلة.
هذا ما يعده لي صباح الغد، وهذا ما سألقاه فيه من حرية وسعادة وحب. . .
ولكن كل هذا لن يكون. . . فسأنتحر بعد قليل. . ريثما يسود وجه الصحيفة التي اكتتبت عليها هذه الكلمات. فالحبل الذي أعددته من غطائي متين والقضبان الحديدية في النافذة سميكة!
يجب أن لا أخرج صباح الغد من قبري هذا إلى الحياة. إذ لو خرجت لارتكبت آثاماً أخرى. فإني لا أقوى على رؤية مرغريت واقفة أمام حانوت الجوهري تلتهب نظراتها إلى أساور من ذهب أو تصعد زفراتها وراء قرط من جوهر، أو تنظر إلى خاتم من ماس ثم ترجع النظر حاسراً إلى أصابعها العاطلة. عند ذلك أقسم بالله أني أعود فأسرق لأجيء لها بما يرضي نظرتها ويهدأ زفرتها ويحقق رغبتها. . . يالله. هل انا مجرم من أكبر الناس إجراماً؟ أم أنا مجنون ضل عني رشادي؟ لا أعلم غير أمر واحد، هو أني أعود فأسرق لرضى مرغريت. . .
يا لها من امرأة. ويا لعظيم حبي لها ووجدي بها منذ أول يوم رأيتها. إني لأذكر ذلك اليوم وأذكر أني كنت مع صديقين دعياني للذهاب معهما إلى (مونمارتر) حيث كانت حفلات العيد قائمة واللهو رخيص ثمنه، سهل مناله. وكنت متعباً ذاك المساء فرفضت دعوتهما أولاً ولكنهما الحا علي فقبلت أخيراً. . .
وجئنا (مونمارتر) فكانت مساحاته تموج بآلاف من الخلق فوقفنا أمام احد مراقصه فوجدنا فتاتين ترقصان، فحادثاهما أحد صديقي وجلسنا معهما. وكان مجلسي بجانب إحدى الفتاتين وكانت شقراء الشعر جميلة الوجه محتشمة الحديث فقيرة الهيئة. وحادثتهما فكان صوتها جذاباً كعينيها وقال لها أحد صاحبي كلمة غليظة خلال الحديث فلم تجبه إلا بابتسامة مغتصبة تدل على أدب الفتاة وأنها غير راضية لما هي فيه من حال، ودعوتها لمنزلي، وقصت على الفتاة باكية - وإني لأحس حرارة دموعها حتى اليوم - قصة مجيئها إلى هذه الحياة من أحد أبوابها المظلمة وطفولتها البائسة وفقرها المؤلم وإيصاد كل باب رزق دونها وتشريدها آناء الليل في شوارع باريس الباردة المظلمة. ثم زلتها الأولى، واندفاعها في ذلك التيار الذي طالما حمل في سيره ضحايا لا عداد لها، فبكيت رحمة لبكائها، وعرضت عليها أن تجيء فتعيش معي عيشة الفضل والعفاف فقبلت راضية وسرني رضاها وأظنني أتيت أمراً لا طاقة لي به غذ ذاك، فإن ما أتقاضاه من مرتب ما كان يسمح لي بمعاشرة امرأة اللهم إلا إذا كانت امرأة مقتصدة تقنع بالقليل ولا تطلب الكثير ومرغريت با للأسف ليست كذلك. فقد كانت تختبئ في قرارة نفسها الفتاة الباريسية التي تشارف في غدوها ورواحها حوانيت الحلي والحلل، وتلامس في سيرها وركوبها السيدات اللائي رزقن الغنى بثمين اللباس وغالي الزخرف وكنت أرجع من عملي ظهر كل يوم فأراها ملازمة لسريرها لا تفكر فيما يقتضيه المنزل من عمل فحاولت أن أصلح من أمرها وأقوم من خلقها فأجابتني بقسوة ماذا تريد؟ هكذا خلقت فدعني وابحث عن سواي، فلن تصلحني مهما حاولت فلم ادر كيف أجيبها على قولها، فإنها لا تبالي بي. وأصبحت لا أستطيع عنها فراقاً ففكرت في أن أضحي قليلاً من راحة فؤادي وأقطع ما بيني وبينها من صلة. ولكني فكرت أيضاً في أنها لن تكاد تفارق بابي حتى تعود سيرتها الأولى؟ من حياة يملؤها العار، ومن ليل بؤس ليس له نهار، فعدلت عن فكرتي رحمة بها وحباً لها، ثم كيف أهجرها وقد تغلغل حبها في صميم فؤادي وأصبحت أرى ليالي الطويلة الباردة عامرة بمن يسلي وحدتي ويزيل وحشتي، أأهجرها وأنا أحبها أكثر من أمس وأقل من غد؟ أأهجرها وهي أول امرأة خفق لها فؤادي وأول من غرام مشت ناره بين أضلاعي!
واشتريت لها كل ما وسعته ثروتي من لوازم النساء وصحبتها إلى كل مسارح اللهو ومراتع السرور خشية أن تمل مكثها في المنزل وهي ابنة اللهو والسرور. وضاقت يدي ذات يوم عن قضاء حاجة لها فاستدنت وكان أول ما استدنت. . فأهمني أمره وأرقني وقره. . . ولم أنج به لمرغريت. . . وعلام وأنا أتوقع ردها، وماذا تريد أن أفعل لك، دعني وشأني!. . ولنفصل أحدنا عن الآخر ثم استدنت مرة أخرى. وأنا لا أبوح لها بما في نفسي من خوف مؤلم من المستقبل المظلم.
وإني أقول ما سأقول الآن وأنا واثق من صحته. ذلك أن كل الرجال الذين رمت بهم يد الغرام أو يد المرأة إلى مثل موقفي هذا يحاولون خلاصاً من هذا الموقف بغشيانهم ما يسمونه طريق الحظ أو السعد فيقصدون بيوت القمار. أو ساحات السباق. . وذلك أن أحد رفقائي في عمل كان يغشاها وطالما أسعده الحظ بأن ربح. وكان جالساً أمام مكتبه باسطاً صحيفة تدل لقرائها بما تراه في أمر الخيل وأيها السابق وأيها المصلي. وأخذ ينافس آخر في أمر جواد معلوم، يرى أنه ولا شك السابق. وأنه لا شك مراهن عليه.
فقلت إذ ذاك ولم لا أعمل مثل صديقي فربما أسعدني الدهر فربحت فأسعدت نفسي ومرغريت وضربت بيدي إلى حبيبي فوجدت فيه دراهم معدودة. فطرحت فكرة القمار مرغماً.
وذات ليلة ونحن في طريقنا إلى الملهى وقفت مرغريت أمام حانوت جوهري ونظرت إلى أساور من ذهب وماس وقالت لي: ما ثمن هذه الحلية؟
فقلت إنها تساوي أربعين جنيهاً!
فقالت: إن مثل هذه الأشياء جعلت للأغنياء ولا أدري لم لم يجعلني الله من عبادهم. . . ونظرت غلى دمعة تترقرق في مآقي عينيها. فكدت أبكي لها ولنفسي. وفجأة طرقت رأسي فكرة القمار في سباق الخيل، وفكرة الجواد السابق، ولكن أين لي المال لأراهن عليه؟. . . ولكن المال كثير في خزانة المحل وأنا الأمين عليه. وما دام الكسب مضموناً مع هذا الجواد، فلم لا أمد يدي إلى ألفي فرنك أرمي بها في سوق القمار ثم أربح وأعيدها إلى مكانها الأول واحفظ الربح لنفسي؟ هذا خير رأي، وأصوب فكر. ولكن ما العمل إذا خسرت؟ قلت ذلك لنفسي. ونظرت نظرة غضبى إلى مرغريت وهي عالقة بذراعي. ولكن احمد الله فإنها كانت ملتفتة إلى ناحية أخرى تنظر إلى معروضات المخازن. إذ لو رأت نظرتي لارتاعت ذعراً. . إذا خسرت؟ نعم إذا خسرت لا شيء غير أن يجيء رجل أو اثنان من الشرطة فيقبضان علي باسم القانون، وأجلس محني الظهر على مقعد المتهمين في محكمة الجنايات، ثم أفضي بعد ذلك جزءاً غير قصير من عمري في غياهب السجن، ذلك إذا خسرت؟ ولكن أكون بعملي هذا قد قدمت إلى مرغريت برهاناً قويا ودليلاً قاطعاً على حبي لها؟ وربما أحبتني إذ ذاك لعلمها أني أتيت ما أتيت مرضاة لها.
ولكن لماذا هذا الخلط في الحديث فالساعة أزفت. ولا فائدة من أن أُثقل على قارئ هذه الصفحات بتفاصيل ما ارتكبت ولم أقص عليه كيف ارتكبت السرقة، ولا كيف وقفت تتنازعني العوامل المختلفة من خوف إلى حزن، إلى ندم، إلى أمل إلى فرح، وأنا في ميدان السباق. ولا كيف خسر الجواد وجاء مجلياً، ولا كيف اكتشفت سرقتي، والقبض علي، ومحاكمتي ثم سجني. . .
الوداع يا مرغريت. إني أحبك، وأغفر لك وأعفو عنك. فلربما سالت دمعة من عينيك عندما تقرئين هذه الصفحات المملوءة يذكرك، كوني فخورة أمام عاشقك الجديد بأن هناك رجلاً انتحر لأجلك. . .
ها هو ذا نصف الليل لقد دقت الساعة، وأنا قد أحكمت الحبل إلى النافذة فلأتشجع ولأنهي الأمر!. . .
(دمشق)
عبد اللطيف حسين الأرناؤوط