الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 745/حول الفن القصصي في القرآن الكريم

مجلة الرسالة/العدد 745/حول الفن القصصي في القرآن الكريم

مجلة الرسالة - العدد 745
حول الفن القصصي في القرآن الكريم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 10 - 1947


أبدأ اليوم بعرض وجهة نظري في مسألة من أخطر مسائل بحثي وهي مسألة الأسطورة. وأرجو ألا يزعجنا هذا اللفظ ونقع في أخطاء وقع فيها غيرنا حين ظن أن معنى الأسطورة الكذب والمين أو الخرافات والأوهام، فذلك ما لم يقصد إليه القرآن الكريم.

ليست الأسطورة في حس القرآن الكريم إلا ما سطره الأقدمون من

أخبارهم وأقاصيصهم بذلك تنطق آياته وإلى ذلك فطن المفسرون.

قال الله تعالى (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا.) وقال تعالى (قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.).

وجاء في الطبري ج9ص142 (والأساطير جمع أسطر وهو جمع الجمع لأن واحد الأسطر سطر ثم يجمع السطر أسطر وسطور ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر وقد كان بعض أهل العربية يقول وأحد الأساطير أسطورة. وإنما عنى المشركون بقولهم أن هذا إلا أساطير الأولون أن هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد إلا ما سطره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم وأنه لم يوجهه الله إليه.).

ثم جاء في الكشاف ج2ص103 (أساطير الأولين. ما سطره المتقدمون من نحو الحديث عن رستم واسفنديار جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة).

وجاء في المنار ج9ص653 عند تفسيره لآية الأنفال (إن هذا إلا أساطير الأولين). أي قصصهم وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتها وما هي بوحي من عند الله. قال المبرد في أساطير هي جمع أسطورة كأرجوحة وأراجح وأثفية وأثافي وأحدوثة وأحاديث وفي القاموس الأساطير الأحاديث لا نظام لها. .

قال المفسرون كان النضر بن الحارث. . كأنهم يعنون أن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم اشتبهت عليه بقصص أولئك الأمم فقال أنه يستطيع أن يأتي بمثلها فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله. ولعله أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره ولم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلقة وأن محمداً ﷺ هو الذي افتراها فإنهم لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما نقل عن كبار طواغيتهم ومنهم النضر بن الحارث وقد قال تعالى في ذلك فإنهم لا يكذبونك ولكن الضالمين بآيات الله يجحدون. بل كانوا يوه العرب أنه اكتتبها وجمعها كما في آية الفرقان وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا. أي ليحفظها).

يجب إذاً ألا تزعجنا هذه اللفظة فنجرى فيها وراء الخيال ونعتقد أنها الأكذوبة أو الخرافة وإنما يجب أن نقف منها عند المدلول الذي فهمه المفسرون والمعنى الذي قصد إليه القرآن.

وأعود فأقول إني أعرض لهذه المسألة الخطيرة مسألة الأسطورة وآمل أن يتفضل علينا أصحاب العقول الراجحة والقلوب المستنيرة - من الذي يعرفون الدقائق الأدبية ويفقهون المسائل القرآنية - بالمشاركة في البحث حتى يفطن كل منا إلى حقيقة موقفه إن كان حقاً يحرص على الروح العلمية في بلدنا العزيز.

إنى لأقدر منذ اللحظة الأولى أنه من الجائز أن أكون قد أخطأت القصد أو ضللت الطريق وأن يكون الأستاذان الفاضلان أحمد بك أمين وأحمد الشايب قد أصابا ولكنى لم أتبين بعد جانب الخطأ أو وجه الإصابة ومن هنا كتبت ما كتبت وآمل أن نصل إلى الحق المبين.

ولعل نقطة الخلاف فيما بيني وبين أستاذي الفاضلين تضيق وتتضح حين نشرح الصنيع الأدبي أو البلاغي في الأسطورة شرحاً موجزاً ولذا نقول.

الأسطورة كما يعرفها الأدباء في صنيعهم البلاغي وسيلة فعالة من وسائل تجسيم المعاني وتمثيلها لتتضح وتبين. وهى من هذا الجانب تعتبر أداة من أدوات التعبير يعمدون إليها أحياناً للتعبير عن المعاني الفلسفية أو كل معنى دقيق عميق.

الأسطورة في هذا الوضع تشبه اللفظة المفردة إلى حد كبير. وإذا كان من حق الأديب أن يعمد إلى المفردات فيحملها من العواطف والمعاني ما يريد فكذلك من حقه في الأساطير.

وإذا كان الأديب يخرج أحياناً بالألفاظ المفردة عن معانيها الحقيقية إلى أخرى مجازية فكذلك يفعل بالأساطير.

وإذا كان التاريخ الأدبي يدلنا أحياناً على أن هذه المعاني المجازية قد أصبحت حقائق عرفية أو شاع استعمالها حتى لينسى الناس المدلولات الأصلية أو الأولى فكذلك يدلنا في الأساطير.

وإذا كان الأديب يخرج أحياناً بالألفاظ المفردة عن معانيها الحقيقية إلى أخرى مجازية فكذلك يفعل بالأساطير.

وإذا كان التاريخ الأدبي يدلنا أحياناً على أن هذه المعاني المجازية قد أصبحت حقائق عرفية أو شاع استعمالها حتى لينسى الناس المدلولات الأصلية أو الأولى فكذلك يدلنا في الأساطير.

وإذا كان الأديب حين يخرج بالألفاظ المفردة عن معانيها الحقيقية يبقى على مادتها فكذلك يفعا بالأساطير إذ نراه يبقى منها على جسم القصة أو هيكل الحكاية. وكل ذلك واضح بين في الصنيع الأدبي بحيث لا يحتاج منا إلى دليل.

ولعلك تعجب معي حين تعلم أن شيخاً من شيوخنا الأقدمين قد فطن إلى هذا الصنيع الأدبي في القصص القرآني قبل أن يفطن إليه أساتذتنا من الجامعيين.

فلقد فطن الرازي إلى هذا الصنيع الأدبي من اعتماد القرآن على الأسطورة عند شرحه لمواقف المشركين.

قال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) من سورة يونس ما يأتي (الأول. انهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين. ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها).

فنحن نلحظ أن الرازي هنا يفرق بين شيئين.

الأول. هيكل القصة أو جسم الحكاية.

الثاني. ما في القصة من توجيهات دينية نحو قواعد الدعوة الإسلامية ومبادئ الدين الحنيف.

والرازي يلحظ أن الأمر الأول وهو هيكل القصة أو جسم الحكاية هو الذي أدخل الشبهة على عقول المشركين ومن أجل هذا قالوا عن القرآن إنه أساطير الأولين.

والرازى يرى أن القوم قد جانبوا الحق وبعدوا عن الصواب حين نظروا من القصة إلى هذا الجانب. ذلك لأنه ليس الجانب المقصود من القصة وليس الأمر الذي يقصد إليه القرآن الكريم حين يحدث ويقص.

ويؤكد الرازي هذا الأمر في مناسبات أخرى حين يجعل أحياناً كلمة (بالحق) التي تردد كثيراً في القرآن بعد بعض القصص وصفاً لما في القصة من توجيهات دينية. فهو مثلا يقول عند تفسيره لقوله تعالى (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) ما يأتي (أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة).

ويقول عند تفسيره لقوله تعالى (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) ما يأتي (اعلم أن قوله تلك إشارة إلى القصص التي ذكرها. . . أما قوله بالحق ففيه وجوه. أحدها أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد ﷺ وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة).

وإذا وصلنا إلى هذه النقطة وعرفنا أن الصنيع الأدبي أو البلاغي في الأسطورة هو الأمر الذي فطن إليه الرازي وقال بوجوده كان علينا أن نرصد الفوائد التي نجنيها أو المضار التي نزيلها حين نتابع الرازي في رأيه ونفسر بعض القصص القرآنية هذا التفسير البلاغي أو الديني القديم.

أما الفوائد فهي رد عادية المستشرقين والملاحدة حين يوجهون الطعن إلى النبي والقرآن الكريم. ذلك لأنهم يقولون بما قال به المشركون من قبل من أن القرآن قد جاء بالأساطير. ولعل هؤلاء أقوى سنداً وأثبت حجة حين يوردون الدليل تلو الدليل على ما ورد في القرآن من أساطير.

لن نقول لهؤلاء إلا ما قاله الرازي لأسلافهم منذ قرون. ولن نطلب إليهم إلا أن يفرقوا بين أمرين جسم القصة أو هيكل الحكاية وما فيها من توجيهات دينية نحو الدعوة الإسلامية ومبادئ الدين الحنيف. ولن نقول لهم إلا أن الأمر الأول كان وسيلة لا غاية وأنها وسيلة غير مقصودة لذاتها من القرآن الكريم. ولن نقول لهم إلا أن الأمر الثاني هو المقصود بالذات وأنه الحق الذي ليس بعده حق فيما يخص دعوتنا الإسلامية وشرعنا الحنيف.

إن تمسكنا بالرأي الذي يقول أن جسم القصة أو هيكل الحكاية حق ثابت بعد أن ثبت لدى العلماء الدارسين أنها من الأساطير أمر يعرض القرآن لشر عظيم.

وإن قولنا بالتفرقة بين الأمرين جسم القصة وما فيها من توجيهات هو الذي يتفق والصنيع الأدبي وهو الذي يرد عن القرآن عادية الملاحدة والمستشرقين.

هذه أخطر نقطة فيما بيني وبين أستاذي من خلاف. أعرضها عليكم وعلى قراء مجلتكم وعلى الرأي العلمي. وإني ليدفعني إلى القول بهذا الرأي حرصي أولا على سلامة القرآن الكريم من عبث الملاحدة والمستشرقين. وحرصي ثانياً على ألا نتخلف في الدراسة الأدبية فنعجز عن فهم أبلغ نص نعتز به وهو قرآننا الكريم.

إن فهمي الأدبي لما في القرآن من قصص يعتمد أحياناً على أساس من الأساطير يقوم على أساسين كما رأيت.

الأول. تلك اللفتة الكريمة من الرازي وهي لفتة أدبية نحرص عليها ونعتز أن صدرت عن شيخ من شيوخنا الأقدمين.

الثاني. ذلك الصنيع الأدبي الذي يجري العمل في القصة الأسطورية منذ القديم.

وليس في هذا وذاك ما يضر الدين أو يؤذي قرآننا الكريم.

إن المسألة أخطر وأعمق من أن يتناولها غير الباحثين الذين يفطنون إلى الدقائق الأدبية ويفقهون المسائل القرآنية وإني لآمل أن يوفقكم الله إلى تسديد خطوات الباحثين فنحل تلك المشكلة الجامعية التي يتخوف فيها بعض رجال الجامعة من بعض رجال الدين.

محمد احمد خلف الله

كلية الآداب - جامعة فؤاد