الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 744/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 744/من وراء المنظار

مجلة الرسالة - العدد 744
من وراء المنظار
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 06 - 10 - 1947


من خوف الكوليرا في كوليرا!

دخلت أزور ابن عم لي في داره فلقيتني زوجه في الدهليز وما وقع بصرها عليَّ حتى قالت وهي تضحك: هلم فهذا منظر خليق بأن تراه من وراء منظارك، ولقد خطرت ببالي الساعة وأنت على السلم؛ وقادتني إلى حجرة الطعام حيث كان زوجها يتهيأ لتناول عشائه.

ودخلت في سكون ولم أحيّ فلم ينتبه إليَّ، ونظرت فإذا بالمسكين يجلس إلى المائدة وقد وضع رجله اليمنى في (حلَّة) على الأرض عن يمين مقعده تبينت فيها سائلا ما ورجله اليسرى في (حلَّة) أخرى عن شماله وهو يغسل يديه في وعاء على خوان قريب منه وعلى صفحة وجهه سحابة مركومة من الهم، وضحكت وضحكت زوجته فرفع رأسه وابتسم ابتسامة ضئيلة لم تلبث أن غرقت في هذا السحاب المركوم، وأراد أن ينهض فلم يستطع لبعد ما بين الحلتين، ثم قال في إشارة حازمة وفي لهجة جازمة: لا تؤاخذني أرجو أن تغسل يديك في هذا الوعاء، ونظر إلى زوجته نظرة عتب وسألها لم لم تطلب إليَّ أن أغسل يدي في الوعاء لدى الباب، وكأنه لم يعجبه ضحكها في هذا الموطن، موطن الجد الرهيب فطلب إليها في شيء من العنف أن تغسل يدها، وفهِمَتْ أن ذلك لأنها سلمت عليّ، فمشت حمرة خفيفة في محياها الأبلج ولم تجد بداً من إطاعته إشفاقاً عليه كما قالت مداعبة إياه في رفق. . .

وراحت ربة البيت تشرح لي هذه السوائل التي يغمس فيها رجليه ويديه، وتضحك إذ تقص عليّ كيف يغسل يديه كلما لمس شيئاً، وكيف يدعو بائع اللبن وبائع الصحف وغيرهما إلى غسل أيديهم قبل أن يناولوه شيئاً وكيف لا يفوته كلما نقص وعاء الغسيل لدى الباب أن يملاه بالمحلول. . .

وينظر إليها زوجها إذ تضحك فيمتلئ غيظاً ويسألها كيف لا تدرك وهي المثقفة المهذبة أن الأمر جد لا هزل، وفيم هذا الضحك الذي ينطوي على عدم المبالاة والذي يفهم منه أنها لن تعمل في غيبته شيئاً مما يدعوها إليه من وقاية؟

ولم تغب عن منظاري بقية (الاستحكامات) في الحجرة فهذه مضخة قريبة بها من السائل كيت وكيت، وتلك أخرى بها من المساحيق كيت وكيت، وثالثة ينطلق منها إذا فتحت غب كثيف لمطاردة الذباب، وكم ذكرتني بشبيهاتها من المدافع التي كانت تنصب لمطاردة الطائرات زمن الحرب. .

ونظر رَبُّ الدار فإذا أحد الأطباق يظهر جانب منه من تحت الغطاء القماشي فتأفف ونظر في وجه امرأته نظرة حنق وسحب القماش فغطى الطبق؛ وسألته فيم هذا الغطاء؟ فنظر إليّ وكأنه ينظر إلى معتوه ثم قال، ألا ترى أن ذبابة واحدة كفيلة بأن تقتل من في المنزل جميعاً بل من في الحي كله إذا وقعت على الطعام؟ فقلت: إذا كان هذا مبلغ خوفك من الذباب في الليل وهذه المدافع من حولك فليلطف بك الله في النهار؟

وضحكت زوجته ضحكة عالية ثم نظرت إليه معاتبة وما تريد إلا أن تسري عنه وقالت: أتذكر الحرب؟ صور لنفسك إحدى طوائر الألمان المنقضة وقد هبطت من السماء على دارك فهذا هو شأنه تلقاء ذبابة مسكينة من الذباب.

وما أتمت كلامها حتى نظر إليها وراح يقلد لهجتها ونطقها مستهزئا وهو يقول: ذبابة مسكينة من الذباب! المسكين أنت! لقد كان من المخابئ عاصم من الطائرات وما الذي يعصمنا من ذبابتك المسكينة؟

وقلت له ما الذبابة بمسكينة ولا زوجتك بمسكينة، وإنما أنت المسكين فهذا عذاب ليس مثله عذاب؛ وضحكنا جميعاً وكشف الغطاء عن الطعام ليأكل، وقمنا نداعبه فوقفت عن يمينه وفي يدي إحدى المضختين وقامت زوجته عن يساره وفي يديها المضخة الأخرى، وكلما ابتلع لقمة حمد الله ونحن ندعوه إلى الطمأنينة فلن نسمح لذبابة أن تقرب من المائدة حتى يفرغ من طعامه. . .

وانصرفت، وفي نفسي أني لن أرى من هو أشد من ابن عمي وهماً؛ ولكن منظاري وقف بي في صباح اليوم التالي على منظر أنقله للقارئ في غير نقص أو زيادة:

انحنت عجوز أمام باب إحدى جرائدنا الكبرى وراحت تقيئ وفزع الناس بالضرورة وابتعدوا عنها واقترح بعضهم طلب الإسعاف؛ ومر شاب وجيه المظهر بادي الفتوة كثير الأناقة، وقد فرغت العجوز من قيئها فخيل إليه انه مس بحذائه هذا القيء بعد أن فطن إلى أنها كانت تقيئ فكأنما نزلت به صاعقة من السماء، ونظرتُ فإذا صفرة كصفرة الموت تمشي في محياه وإذ العرق يلتمع في جبينه ونظر إلى الناس لهفان كأنما يستنجدهم، ولبث في مكانه لحظة لا يدري ماذا يفعل، ثم مر قريباً منه (تاكسي) فاستوقفه ومد يده فخلع حذاءه وجوربه في حذر بحيث لا يمس إلى وجهه، ثم مشى حافياً ودخل السيارة وانطلق وترك الحذاء الجميل والجورب الثمين حيث كان يقف ولم يلتفت إليه لفتة كأنما يخشى حتى مجرد منظره!

وكم كان يبعث على الضحك منظر السابلة بعد ذلك إذ يلقون نظراتهم على هذا الحذاء في تعجب وهم لا يعلمون لم ألقى به هناك وبماذا يفسر وجوده، وكان يمشي بعضهم في سكون ودهشة بينما كان يستفهم البعض أحد الواقفين، واجتمع عدد من الخلق فمنهم من ينظر إلى العجوز ومنهم من ينظر إلى الحذاء، واختلط الأمر على الناس حتى لقد سمعت من كانوا في مؤخرة الزحمة يقول إنها قنبلة! ووثق بعضهم من الأمر فراح يصف طولها وحجمها وشكلها! وهكذا ينقلب الحذاء الجميل الهادئ إلى نوع مفزع من من المفرقعات!. .

وذكرت ليلة الأمس ومبلغ خوف ابن عمي، وحرت بين البطلين أيهما أولى بالرثاء، أهو ابن عمي أم هو صاحب الحذاء؟

الخفيف

هذا الطوفان. .!

للأديب الطاهر أحمد مكي

كنا جماعة، وكان الحديث عن الأدب. . . نقلب الرأي في طغيان الأدب الرخيص على العالي، وعدوان العامية على العربية، واحتلال المجلات الهزلية لعقول الناشئة، والصحف اليومية لجمهور المثقفين. . . وبقاء أدوات الفن الرفيع من مجلات وكتب، محصورة في دائرة ضيقة من الذيوع والانتشار! لأنها لا تتمشى من الغرائز، ولا تخضع لرأي العامة، ولا تهبط لمستوى الدهماء، ولا تستجلب رضا القراء، بصورة عارية، أو مقال مثير!. .

والناس اليوم في انحلال خلقي، مصدره قسوة الحرمان في أيام الحرب وأعقاب الحرب، واستهتار جنسي مبعثه إطلاق العنان للغرائز، واستسلام الفتيان للشهوات وتسرب الإباحية إلى العقول واندفاع الصحف التي همها أن تربح عن أي طريق، وأن تعيش بأي أسلوب، في ممالأة هذا اللون من الحياة! طالع ما تشاء من صحف اليوم، واقرأ ما تهوى من كتبه، فلن تجد للعربية من بلاغتها وروعتها أثراً ولن تشعر بالمتعة الروحية السامية، التي تطرب لها حين تلتمس القراءة، في كتاب قديم، أو سفر حديث، من إنتاج أولئك النفر القليل، من كتاب العربية الأفاضل، ممن صمدوا أمام التيار، فلم يجذبهم بريق الذهب اللامع، ولم يجرفهم تيار المادة الخادع، فظلوا كما هم، وكما شاء لهم إيمانهم بالفن ورسالته، أوفياء بالعهد، حفظاء للرسالة، ولو كره الجاهلون وأنصاف المتعلمين!. .

إن المطابع قد أغرقت السوق بطوفان من الكتب، جلها غثيث تافه لأن صاحبه طالب شهرة، لا يعينه إلا أن يطبع اسمه في مكان بارز من غلاف الكتاب، وسيان لديه أن يرحب به الناس أو يغضبوا عليه مادام قد بلغ الغاية التي سعى إليها، فأقحم شخصه في زمرة المؤلفين!. .

وتجاريين تخصصوا في اقتناص المال من الجيوب، بالحلية الواسعة، والدهاء الماكر، وحذقوا فن التلصص وأساليبه، وكان أن لمسوا مركب النقص في الحياة المصرية، وما تعانيه الشبيبة من حرمان وكبت، فطفقوا يغرقون الأنظار بطوفان من الصور العارية، ويؤججون الشهوات بأبحاث عن الرذيلة الفاتنة، ومن ثم كتب لهم النجاح، وإن يكن ثمنه، فساد ضمائر الشباب، وإهدار عفاف الفتيات!. .

محال أن يوقف هذا الفيض من الانحلال، أفراد قلائل أو صحف محدودة الذيوع والانتشار، فعلى الذين يملكون التشريع والتنفيذ، وقد استعملوهما في كل ما يتصل بماديات الحياة، أن يعطوا الناحية الروحية بعض العناية، فنحفظ للغتنا سموها، ولأدبنا روعته، ولأخلاقنا جمالها، فنسدي بذلك للعربية، فضلا لا ينكر ولا يجحد!. .

الطاهر أحمد مكي