الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 744/كلواذى

مجلة الرسالة/العدد 744/كلواذى

بتاريخ: 06 - 10 - 1947

َلْواذى

للأستاذ شكري محمود أحمد

إحدى طساسيج بغداد المشهورة، ومواطن اللهو المذكورة، لها ذكر في الأخبار والآثار، بل ربما كانت من أقدم المواضع الأثرية في العراق.

قال المسعودي في الكلام على الأمم ولغاتها ومواضع مساكنها ما نصه (الأمة الثانية: الكلدانيون، وقد ذكروا في التوراة بقوله عز وجل لإبراهيم (أنا الرب الذي أنجيتك من نار الكلدانيين لأجعل هذه البلاد لك ميراثاً). . . وكانت دار مملكتهم العظمى مدينة كلواذى من أرض العراق، وإليها أضيفوا، وكانوا شعوباً وقبائل منهم الأثوريون والجرامقة والأرمان ونبط العراق وأهل السواد. . . ثم يحدد مملكتهم هذه فيقول: وكانت بلاد الكلدانيين العراق وديار ربيعة وديار مضر والشام وبلاد العرب واليمن وتهامة والحجاز واليمامة والعروض والبحرين والشحر وحضرموت وعمان. . . ثم يقول بعد ذلك: وهذه جزيرة العرب كانت كلها مملكة واحدة يملكها ملك واحد، ولسانها واحد سرياني وعاصمتها واحدة هي كلواذى.

وقد دلت الحفريات التي أجريت في هذا الموضع على أنها من أقدم الأراضي المعمورة في العراق كما سنبين هذا في موضعه.

اسمها ومعناه:

اختلف المحققون في شكل اسمها وعدد حروفه، واختلافهم يدور على الحرف الأول والأخير منها. قال ياقوت في معجمه: كلواذى بالفتح ثم السكون والذال معجمه آخره ألف تكتب ياء مقصورة، وعلى هذا أيضاً صفي الدين بن عبد المؤمن في كتابه مراصد الاطلاع.

وجاء في كتاب محمد بن الحسن الحاتمي الذي سماه (جبهة الأدب) وابتدأ فيه بالرد على المتنبي أن الصواب فيه كِلْواذ بكسر الكاف وإسكان اللام وإسقاط الياء.

أما معناه فقد ذكر ابن الإعرابي: الكلواذ تابوت التوراة وقال الحاتمي: قلت له - يعني المتنبي - أخبرني عن قولك:

طلب الأمارة في الثغور ونشوة ما بين كرخايا إلى كلواذ من أين لك هذه اللغة في كلواذ؟ أحسبك أخذتها عن الملاحين. قال: وما الكلواذ؟ قلت: تابوت التوراة، وبها سميت، قال وم الدليل على هذا؟ قلت قول الراجز:

كأن أصوات الغبيط الشادي ... زيرٌ مهاريقٌ على كلواذ

الكلواذ تابوت توراة موسى عليه السلام. وحكى في بعض الروايات أنه مدفون في هذا الموضع، فمن أجله سميت كلواذ.

موقعها:

قال ياقوت: كلواذي طسوج قرب مدينة السلام بغداد، وناحية الجانب الشرقي من بغداد من جانبها، وناحية الجانب الغربي من نهر بوق. ثم قال: وهي الآن خراب أثرها باق، بينها وبين بغداد فرسخ للمنحدر. وعلى هذا أيضاً صفي الدين في مراصد الاطلاع، ولكنه زاد عليه: وهي أسفل من بغداد أحد أبوابها إليه، وهي قرة كثيرة عامرة.

وكان تحتها في القديم قرية عامرة اسمها مصراتا جاء ذكرها في معجم البلدان ومراصد الاطلاع. وكان بين كلواذي وقرى بنَّا فرسخان وكان من أعمالها قرية صغيرة اسمها الفِرْك، جاء ذكرها في شعر أبي نواس في هجاء إسماعيل بن صبيح كاتب الرشيد في قوله:

أحين ودعنا يحيى لرحلته ... وخلف الفرك واستعلى لكواذا

أتته فقحة إسماعيل مقسمة ... عليه أن لا يريم الدهرَ بغداذا

فحرفه رده لأقول فقحته ... أقم على ولا هذا ولا هذا

وإلى جانب كلواذي قرب نهر تامُرّا قرية أخرى اسمها الزعفرانية، ولا تزال هذه القرية عامرة تحمل هذا الاسم.

ومن أعمال كلواذي قرية بارى ذكرها ياقوت وصفي الدين قد بدئ بإعادة بناء هذه القرية حديثاً باسم (بغداد الجديدة) لأن الشركة المشرفة على البناء لم تعرف اسمها القديم. وقد كانت هذه القرية كثيرة البساتين والمتنزهات يقصدا أهل البطالة واللهو والمولعون بشرب الخمر، وقد ذكرها الحسين بن الضحاك الخليع في قوله:

أحب الغي من نخلات باري ... وجوسقها المشيد بالصفيح

ويعجبني تناوح أيكتيها ... إليّ بريح حوذان وشيح

ولن انسى مصارع للسكارى، ... ونادية الحمام على الطلوح وكأساً في يمين عقيد ملك ... تزين صفاته غرر المديح

أما موقعها بالنسبة إلى خطط بغداد في هذا العصر ففي معسكر الرشيد الذي كان يسمى معسكر الهنيدي ومدينة العمال ومخيم الأرمن وحلبة السباق وتل محمد وتل حرملة، وناحية الكرادة. وربما كان هذا الاسم (كرادة) تطوراً لاسمها القديم كلوازي.

التنقيبات في كلوازي: أجريت تنقيبات كثيرة في بعض مناطق كلوازي، عثر فيها المنقبون على أمور مهمة جداً في تاريخ العراق، وأقدم من قام بالحفريات في أطلالها البحاثة الألماني فلكس جونس سنة 1850 وكتب كتاباً باللغة الألمانية عن الحفريات بين النهرين، ومما عثر عليه في تل محمد ألواح كثيرة من اللبن المشوي كما عثر على كتابة لحمورابي. (ج 2 ص 95)

وهناك تل آخر يبلغ نصف قطره 150 متراً اسمه تل حرْمله يفصله عن تل محمد نهر مندرس وأرض مرتفعة طولها 600 متراً وقد اعتبرها هرتزفلد بقايا مدينة مندرسة.

ولما أرادت الحكومة العراقية أن تبني مدينة للعمال وصغار الموظفين سنة 1945 قامت مديرية الآثار العراقية بإجراء التنقيبات في المنطقة التي بين تل محمد وتل حرملة لمعرفة طبيعة هذه الأرض المندرسة.

وقد أظهرت الحفريات أن تل حرملة يمثل سوراً حصيناً على شكل مربع غير منتظم له باب واحد في الجهة الجنوبية الغربية وعلى طرفيه أبراج عظيمة هائلة.

وعثر بنتيجة الحفر على معبد كبير طوله 28 متراً وعرضه 18 متراً، على بابه أسدان بحجمها الطبيعي، كما عثر على معبد أصغر منه طوله 15 متراً وعرضه 14 متراً وعلى بابه أسدان أيضاً من الطين المشوي. وعثر على عدة أبنية مماثلة، وعلى بناية واسعة طولها 25 متراً وعرضها 23 متراً ينم شكلها على أنها كانت موضع الإدارة، وعثر على بنايات صغيرة ينم شكلها على أنها كانت دوائر حكومية وخزائن للوثائق الرسمية.

أما الآثار التي عثر عليها في هذا التل فأهمها 1300 لوحة من مختلف الأنواع والحجوم، وكلها من اللبن المشوي، وفي بعضها مستندات يستعملها الكهنة وهي تحمل اسم الإله (خاني) واسم زوجه (نيسابا) كتبت داخل طغراء مربعة الشكل.

وفي إحدى هذه الألواح قائمة بأسماء مدن، كما عثر على ستة تماثيل من الطين المشوي وهي مهشمة لقدم العهد

ذكرها وأخبارها: كانت كلواذي ملتقى الفساق ومأوى العشاق، يجتمع فيها أرباب التهتك والدعارة يعقدون فيها مجالسهم بين رياضها وعلى حفافي أنهارها، يشربون ويفجرون، يقيمون فيها الشهور بين الدنان والقيان والمعازف، مقيمين على إطاعة إبليس في هتك ستر المعاصي واقتراف الآثام.

فهذا أبو نواس قيل له مرة: هل تريد الحج؟ فأجاب: نعم إذا فنيت لذات بغداد. . وأني له ذلك وهو في بغداد التي جمعت الظرف والجمال والمتعة والثراء. . . وهب أن بغداد ضاقت به فلم يطق الحياة فيها حتى دفعت به إلى الحج فكيف يتخلص من قطربل وكلواذي، وهؤلاء شذاذ بغداد ملء السمع والبصر. . . وفيهم يقول:

وقائل هل تريد الحج قلت له: ... نعم، إذا فنيت لذات بغداذ

أما وقطربل مني بحيث أرى، ... فقنّة الفرك من أكناف كلواذ

فالصالحية فالكرخ التي جمعت ... شذاذ بغداد ما هم لي بشذاذ

ومن ظريف ما هجيت به بغداد قول بعضهم:

اخلع ببغداد العذارا ... ودع التنسك والوقارا

ولقد بليت بعصبة ... ما أن يرون العار عارا

لا مسلمين ولا يهو ... د ولا مجوس ولا نصارى

فكيف يترك أبو نواس هذه الحياة المرحة ويذهب إلى الحج؟. . ولكن الرشيد لما خرج يريد الحج شاء أن يكون في ركابه شاعرنا الظريف أبو نواس، فاصطحبه معه، وفي مكة نظم أرجوزته المشهورة، وهي أروع ما قيل في الزهد أولها:

إلهنا ما أعد لك ... مليك كل من ملك

فلما عاد أبو نواس إلى بغداد أشيع أنه تنسك بعد حجه، وعكف يكفر عن ذنوبه، وهذا خبر ظريف، وكيف يكون ذلك وهو في بغداد بين عصابته من أحلاس الكأس وفرسان الخمر، ثم هذه كلواذي وطيزناباذ، وتلك قرى بنا قد توزع قلبه بين حاباتها وظبائها، فكيف يزهد ويرعوي؟ ويترك هذه الحياة الضاحكة المصفقة؟ لذلك راح يكذب هذا الخبر - خبر النسك بأبيات ظريفة منها: قالوا: تنسك بعد الحج قلت لهم: ... أرى وأرجو وأخشى ظيزناباذا

ما أبعد النسك من قلب تضمنه ... قطربل فقري بنا فكلواذا

فإن سلمت، وما قلبي على ثقة ... من السلامة، لم أسلم ببغداذا

ومن الغريب أن مطيع بن اياس وهو رأس العصبة الماجنة، يذم بغداد كما يذم كلواذي ويأسف على عمره الذي زال عنه وأسكنه بغداد، ثم يدعو على بغداد وكلواذي بالخراب قائلا:

حبذا عيشنا الذي زال عنا ... حبذا ذاك، حين لا حبذا ذا

زاد هذا الزمان شراً وعسراً ... عندنا، إذ أحلنا بغداذا

بلد تمطر التراب على النا ... س، كما تمطر السماء الرذاذا

خربت عاجلا واخرب ذو العر ... ش بأعمال أهلها كلواذا

كان كلواذي ميناء مدينة بغداد، ترسو فيها السفن التجارية القادمة من واسط والبصرة أو القادمة من شمال بغداد في نهر دجلة أو نهر تامرا، وقد كانت عامرة على عهد العباسيين تمد بغداد بمختلف المنتوجات الزراعية، بل كانت من الأسباب الهامة التي جعلت المنصور يختار موضع مدينة السلام بغداد في هذا المكان.

قال المقدسي إن المنصور انتصح بما أشير عليه في بناء عاصمة ملكه في هذا الموضع، ويذكر هذا الجغرافي أن أصحاب المنصور قالوا له (تنزل في بغداد فإنك تصير بين أربعة طساسيج، طسوجان في الجانب الغربي وطسوجان في الجانب الشرقي، فأما اللذان في الجانب الغربي فقطربل وبادوريا وأما اللذان في الجانب الشرقي فنهر بوق وكلواذي).

وبقيت عامرة بقراها مدة طويلة من الزمن، وقد خرجت على عهد ياقوت أي في القرن السابع الهجري لأن ياقوت كانت وفاته سنة 626هـ.

كانت أرض كلواذي منخفضة لذلك كانت مهددة بالغرق كلما زادت المياه في دجلة. ففي سنة إحدى وأربعين وستمائة مثلا زادت دجلة زيادة مفرطة وغرقت مواضع كثيرة في بغداد فعمل الناس سداً بين بغداد وكلواذي، وانتقلوا خلف السكر، وصليت الجمعة على طرف الخندق مما يلي دار المسناة - وهي القصر الموجود في القلعة حالياً -.

قال ابن الفوطي وفي هذه السنة 641هـ احكم السد الذي بين بغداد وكلواذي، وخرج تاج الدين بن الدوامي حاجب باب النوبي إلى باب كلواذي - هو الباب الشرقي حالياً - وأحكم السكر وبات عليه).

وقد شهدت كلواذي المعارك بين الأمين والمأمون، ودارت فيها المعارك بين الجيشين، قال المسعودي: لما تقدم هرثمة بن أعين إلى بغداد نزل زهير بن المسيب الضبي أحد قواده في مصراثا مما يلي كلواذي، وغشى ما في السفن من أموال التجار الواردة من واسط والبصرة، ثم تقدم فنزل كلواذي فتأذى الناس به، وحمد له خلق من العيارين وأهل السجون والشطار.

وكان الشطار والعيارون يحاربون المامونية وهم عراة في أوساطهم المآزر، وقد اتخذوا لرؤوسهم واوخل (؟) من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري محشوة بالرمل والحصى، وقد خرجت العراة ذات يوم في مائة ألف رجل إلى كلواذي بالرماح والسيوف والقصب والطرادات ونفخوا في القصب وقرون البقر وزحفوا على المأمونية في كلواذي حتى أخرجوهم منها

شكري محمود أحمد

مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية