مجلة الرسالة/العدد 744/القَصصُ
→ البريدُ الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 744 القَصصُ المؤلف: أنطون تشيخوف المترجم: مصطفى جميل مرسي |
الحُمَّى أو التيفوس Тиф هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1887. نشرت هذه الترجمة في العدد 744 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 6 أكتوبر 1947 |
قصة من الأدب الروسي:
(الحُمَّى)
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ مصطفى جميل مرسي
1860 - 1904
(هذه صورة وليست قصة!. . تمتاز بألوان من الوصف الدقيق وتزخر بصنوف من التصوير البارع. . . يعرضها تشيكوف - ذلك الكاتب العظيم - بريشته الفنانة وقلمه الصنع. . . فيبدع الوصف ويجيد التصوير وتجيء آية بينة واضحة على قدرته البيانية وقريحته الخصبة وعبقريته في رسم المشاعر الإنسانية، والاحساسات النفسية. . .
فهو يجلو لنا صفحة رائقة شائقة من حياة مخلوق من البشر. . . أصابته حمى (التيفوس)، فخر صريعها. . . وراح يعاني آلامها وبلواءها. . . وأحسب أن هذا لا يتيسر إلا لمن كابد الآلام، وثقلت عليه وطأة المرض. . . فأشتد تأثره به.! وأخرج لنا هذه الصورة المجلوة الحقة التي لا يدخلها باطل. . ولا تخالجها مبالغة!. .)
(م جميل)
كان القطار ينساب بين الربوع في سرعة وفي صخب، بعد أن خلف وراءه (بتروغراد) وغايته (موسكو)!. . . وفي إحدى عرباته جلس الضابط (كليموف) وهو شاب تجلت على سيمائه آيات العناء والألم!.
وكان رفيقه - الذي قعد مواجهاً له - رجلاً طاعناً في السن!. حليق الذقن. . . تلوح عليه دلائل الثراء والعيش الرغد. ويخيل إلى المرء أنه من أبناء (فينلندا) أو (السويد). . . لم يبرح طيلة السفرة. . . يدخن (غليونه)، وينفث هباءه في الهواء!. . . وكان ثرثاراً مهذاراً، نهماً إلى الحديث، شرهاً إلى الكلام. . . لا يفتأ يلفظ بهذره حول معنى واحد. . . دون تنويع ولا تبديل!. . .
- (ها!. إنك ضابط!. كذلك لي أخ ضابط؛ بيد أنه نوبي يجوب البحار!. . ألا خبرني ما الداعي لذهابك إلى (موسكو)؟!.)
- (إن لي مقاماً هنالك!!.)
- (ها!! أما تزوجت بعد؟!)
- (كلا. . . إني أعيش مع خالتي وأختي!.)
(إن أخي ضابط كذلك، غير أنه متزوج. . . وقد أنجبت له امرأته ثلاثة أطفال. . . ها!!.)
وكان الرجل الفنلندي ينظر - خلال ذلك - في بلاهة وغرابة. . . وتترسم على شفتيه ابتسامة تعبر عما يختلج في نفسه من جزل ومرح، حينما يهتف: (ها!!.)
أما كليموف - وكان يشعر بدوار وصداع في رأسه، ويحس بفتور ودعث في جسده - فقد برم بالجواب على أسئلته. . . وراح يحمل عليه في قلبه إصراً وبغضاً!. . . وتراود نفسه رغبة جامحة في أن يختطف غليونه. . . ويلقي به تحت المقعد، ويأمر (الفنلندي) نفسه بالبحث عن عربة أخرى.!
وقال يحدث نفسه - وقد ضاق به ذرعاً (ما أفظع أولئك (الفنلندين) وأبغضهم إلى النفس!. إنهم أوغاد مذقو الخلق، أولو خسة وذوو سفه. . . لا يأتون إلا كل تافه غير محمود من الأفعال. . . وما خلقوا إلا ليعوقوا العالم فحسب!. فما أدري مكرمة ذاعت لهم، ولا حسنة أثرت عنهم!.).
وزاد إحساس الضباط الشاب بما يكتنفه من وعك وكآبة وألم!. فعلا وجهه شحوب وامتقاع. . . وسرى الجفاف والظمأ إلى حلقه فلذغه لذعاً شديداً، وضاقت رأسه - وقد ثقلت تحت وطأة الصداع - بما يضطرب فيها من أفكار سوداء تجول بخاطر معربدة صاخبة على غير هدى. . . ثم لا تلبث أن تفيض على ما حوله من مقاعد وأناس يلوحون في حلكة الظلام!. . .
ويطرق سمعه - في عنف - خليط من الهرج والمهرج. . . يترامى إليه من بلبلة الأصوات وضوضاء العجلات، وصفق الأبواب وهدير الأجراس وصفير القطار وضجيج الناس وعجيجهم في كل محط يقف به!.
وكان الزمن يمضي متباطئاً على مهل حيناً، وسريعاً على عجل حيناً آخراً. . . ولاح لكليموف وكأن القطار يقف كل دقيقة في محطة!. وتمر به القطارات الأخرى سراعاً يلاحق بعضها بعضاً بينما قطاره يتهادى في سيره ويدوي ويجلجل!. . .
إن مسمع تلك الجلبة وذلك الصفير. . ومرأى هذا الفنلندي وهذه الحلقات من الدخان ينفثها من غليونه في الهواء. . . كل ذلك تمازج مع الكآبة السوداء التي تعتديه في إيهام. وتمخض عنه كابوس مخيف يجثم على صدره، ويكاد أن يزهق أنفاسه!.
وبينا هو في غمرة ذلك العذاب الأليم، ورفع رأسه المصدع ونظر من خلال عينيه الذابلتين. . . إلى المصباح!. وقد راح يرسل ضوءاً واهناً متراقصاً لا يثبت على شيء. . ويعقد الظلال، ويشيع جواً من الرهبة والغموض!!
وود (كليموف) لو يرفع صوته بطلب شربة ماء. . . ولكن لسانه جمد. . . فقد يبس ريقه وجف حلقه من حرقة الصدى!. كما أن قوته وهت عن أن تجيب (الفنلندي) إلى ما يسأله إياه، وتستمع إلى ما يهذي به.
فحاول أن يمدد جسده على المقعد حتى تداعب عينه سنة من النوم. . . ولكن النوم أبى عليه أن يأخذ بمعاقد أجفانه. وظلت تلك الكآبة القاتمة والخواطر السوداء والصور الغريبة تعبث به وتعيث من حوله. . . في حين أن ذلك (الفنلندي) نام ملأ جفونه ما حلا له النوم، وعلا شخيره؟. ثم أفاق من نومه وأشعل غليونه وطفق يحدثه ويردد (ها!!.) ثم لم يلبث أن غط في النوم من جديد! وتحامل (كليموف) على نفسه في (سبيروف)! ونهض يسعى في طلب الماء!. فامتد طرفه إلى فريق من الناس يجلسون إلى مائدة حافلة بالطعام، ويأكلون في شراهة وعجلة. . . فتمتم وهو يحاول أن ينأى بأنفه عن رائحة الشواء ويشيح بوجهه عن مرأى أولئك القوم وهم يلوكون الطعام في أفواههم المكتظة: (كيف يأكلون؟!)
ثم لمح بعد ذلك امرأة وضيئة تتحدث إلى رجل عسكري يضع على هامته قلنسوة حمراء.
وتبتسم له، فيفتر ثغرها عن أسنان كالدر المنظوم. . . ولكن أثارت تلك الابتسامات وتلك الأسنان اللؤلؤية وتلك السيدة الوضيئة ذاتها عاصفة من السخط والحنق في نفسه!.
وإذا ما أدرك بغيته من الماء!. قفل راجعاً إلى مجلسه. . . فألفى (الفنلندي) قد استوى على كرسيه يدخن، فلما أبصره (الفنلندي) قال له في شيء من العجب: (ها!! أي محطة هذه؟!) فأجابه كليموف في صبر نافذ وقد استلقى على مقعده وضم شفتيه حتى لا يتسلل إلى حلقه دخان الغليون الحاد اللاذع: (لست أدري!.)
- (متى نصل إلى مدينة (تفر)؟!. . .)
- (لست أدري! ومعذرة إن كنت لا أستطيع الكلام إني مريض ضيق الصدر!!. . .)
فطرق (الفنلندي) حافة النافذة بغليونه!. وطفق يحدثه عن أخيه البحار فلم يعره (كليموف) أدنى التفات ولم يكترث له بل راح يفكر في فراشه الوثير اللين. . . وإبريقه البلوري ذي الماء العذب القراح. . . ويتصور في خياله أخته (كاتي) التي تعرف وكيف تروض نفسه وتخلع بزته وتحنو عليه وترنو إليه!. ثم ترسمت على شفتيه بسمة شاحبة، حينما تذكر خادمة الجندي (بافل) وهو ينزع حذاءه الضخم في رفق. . . ويضع الماء على المنضدة في هدوء!. . وخيل إليه إنه ما يكاد يستلقي على سريره ويجرع بعض الماء يطفئ به غلته. . . حتى يزول عنه ألمه، ويبرأ من سقمه! ويغط في نوم هادئ!. . .
عادت تلك الأصوات تختلط في سمع كليموف في هرج ومرج وراح يطرق أذنه في عنف هدير الأجراس وصفير القطار. . . وضوضاء العجلات، وهي تنساب صاخبة على القضبان!.
فدفن كليموف وجهه - وقد تملكه اليأس ولح عليه الألم - في وسادة المقعد. . . ثم أمسك برأسه بين يديه. . . وثانية راحت تطوف بفكره خواطر عن أخته (كاتي) وخادمه (بافل). . .
ولكن أخته وخادمه اختلطا - هذه المرة - في الصور التي تتهيأ له والأشباح التي تتمثل لوهمه. . . ولفحت وجهه حرارة زفراته التي تردها عليه الوسادة. . . وقد دفنه فيها!.
وتسرب الوهن إلى عظامه فشقت عليه الحركة. وتسلل من النافذة تيار هوائي بارد، فأصاب ظهره. . . بيد أنه لم يحرك ساكناً وأبى أن يغير الوضع الذي استقر عليه جسده. .
ثم لم يلبث أن غاب في سبات قلق مضطرب، سعى إليه فغل أطرافه وأغمض أجفانه!!. . .
فلما ثاب إلى رشده - بعد أن تقضي زمن طويل - رأي النهار بازغاً، والشمس تبعث في أوصال الكون ضياءها!. . .
وكان السفر يهمون بارتداء معاطفهم، ويتهيأون لمغادرة القطار. . . حتى إذا وقف في الموضع الذي أعد له. . . أسرع الحمالون في مآزرهم البيضاء، وأرقامهم النحاسية الصفراء. . . إلى الركب يحملون عنهم متاعهم وحقائبهم. . .
فألقى (كليموف) معطفه على منكبيه في حركة آلية. . . وغادر القطار!. وأحس - وهو يسير انه ليس هو. بل مخلوق آخر!. غريب. . . وأحس أن حرارة القطار مازالت ناشبة فيه. . . وأنه ما برح مصحوباً بذلك الصدى في حلقه. . . والأشباح من حوله. . . والكآبة في نفسه. . . وهي التي جميعاً حرمت جسده لذة الرقاد وحبست عن عينيه نعمة النوم. . .
واستقل عربة - كانت واقفة خارج المحطة - بعد أن وضع أمتعته إلى جواره في تلك الحركات الآلية. . . وتقاضاه السائق (روبلا وخمس وعشرين كوب) حتى يبلغ به دارة في شارع (بوفارسكا). . . فأذعن لما أراده عليه، ولم يساومه وهو يعلم حقاً أن ثمت زيادة في الأجر. . . بيد أن النقود لم تكن ذا قيمة لديه في ذلك الحين!. . .
فلما بلغ بيته. . . تلقته خالته بالترحاب!. وقابلته أخته وهي غادة هيفاء شارفت ربيعها الأول من العمر. . فحيته بإيماءة رقيقة وهي ممسكة بقلم تخط به في كراسة معها. . . فتذكر أنها تتهيأ لامتحان تنال به إجازة التدريس. .
ولكنه لم يرد تحيتها ولا أجب على أسئلتها!. بل راح يلهث من الأتون الذي يضطرم في صدره. . . وانطلق على غير هدى ولا بصيرة. . يجتاز الحجرات إلى حجرته. . فارتمى على فراشه يئم ويتأوه.
وتراءت لخياله من جديد تلك الأشباح والصور التي لزمته في القطار!. الفنلندي وغليونه. . الجندي ذي القلنسوة الحمراء!. والسيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . ورائحة الشواء. وضياء المصباح الواهنة. . المتراقصة.!! فأفقدته صوابه وسلبته رشده وجعلته لا يبصر ما حوله ولا يسمع تلك الأصوات القلقة على مقربة منه.! فلما أفاق من غشيته. . . ألفى نفسه مضطجعاً في فراشه. . عاري الجسد أو شبه عار!. ولمح خادمه (بافل)، وذلك الإبريق البلوري ذا الماء العذب. . بيد أن هذا لم يخفف من حدة مرضه، ولم يجلب عليه راحة أو سكينة. .
فما برحت أطرافه واهنة متيبسة يشق عليه تحريكها. ولسانه قد تشقق من جفاف. . حتى عكدته وعلاه الطلا. . وراحت ترن في مسمعه قهقهة ذلك الفنلندي وقولته: (ها!!.).
وقام إلى جوار فراشه رجل بدين عظيم الهامة ذو لحية سوداء إنه الطبيب!. ينظر إليه في إمعان وتأمل، ولم يلبث أن نبس في صوت ذي فيهقة وتشدق: (حسن!. حسن. . يا صغيري رائع. . رائع. . لقد برأت تماماً!. .).
فأثارت طريقة الطبيب في النطق، وضغطه مخارج الحروف حنق كليموف. . وأغضبته دعوته له بـ (يا صغيري)، وأسخطه ذلك التلطف البغيض الذي يبديه نحوه. فلما تمتم قائلا: (ما الذي يدعوك إلى مناداتي بـ (يا صغيري)؟. وما علة تلك الألفة التي تحدثني بها؟. عليك اللعنة!.) راعة من صوته جرس أجش صعق!. كاد أن ينكره!!.
كان الوقت يكر في سرعة ينزعج لها القلب، كزمن القطار!. فقد كان ضوء النهار يغمر الغرفة ويسطع في أرجائها. . ثم ها هي ذي عتمة المساء تخيم وتشيع في أنحائها!. ولكن الطبيب لم يبرح الغرفة، بل ظل فمه يتشدق بتلك الألفاظ البغيضة الثقيلة في كل حين!.
وعاد يتراقص أمام ناظره في فضاء الحجرة العريض صف غير ذي نهاية من الوجوه والسجن. . (بافل). . الفنلندي. . القائد (تاروشفتش). . والضابط (مكسيمنكو).!. وذو القلنسوة الحمراء. . . السيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . . الطبيب المتفيهق! كلهم يتحدثون ويلوحون بأياديهم! ويأكلون في نهم.
ولم يلبث (كليموف) أن أيصر - في بياض النهار الآفل - كاهن الكنيسة الأب (ألكسندر) في مسوحة الديفية. . . يقبض بين أنامله على الصليب!. . ويتمتم بصلوات وأدعية!. . وقد تجلت عليه دلائل لم يرها (كليموف) من قبل. . فشردت عن وجهه تلك الابتسامات والضحكات التي طالما طالعته مترسمة عليه. . وتبدت عليه سيماء الرزانة والرصانة!. . وأخذ يرسم على كليموف علامة الصليب!. .
وفي الليل. . كانت تتسلل حوله أشباح وظلال تغدو وتروح في إبهام وغموض. . . وكانت أخته راكعة إلى جواره!. . تردد صلاة خفيفة في صمت وخشوع.!. وترفع طرفها - في هيبة ورغبة - إلى السماء حيناً تطلب الرحمة من الله. . وإلى صورة (القديسين) أحياناً تسائلهم العطف والشفاعة. .
ما أن تنسم (كليموف) البخور والأرج - وهو يتضوع في جو الغرفة - حتى صاح - وقد استفزه ما استقر في بطنه (احملوا هذا البخور اللعين بعيداً!.).
بيد أنه لم يكن ثمت من يجيبه. . وكان يترامى إلى سمعه من بعيد صوت الكهنة، وهم يرتلون أناشيد (الوداع). . وصدى خطوات تهول على درجات السلم بين صعود وهبوط!.
حينما خفت وطأة الحمى عن كليموف. وانثنى عنه هذيانه!. كانت غرفته عاطلة من البشر. . وراحت أشعة الشمس تفيض من خلال النوافذ، وتسيل من بين السدول والأستار!. وراح يتراقص على مياه الإبريق البلوري شعاع مرتعش من النور دقيق براق كلاسيف المسلول. . . وطرق سمع (كليموف) صليل العجلات وصرير العربات وهي تدرج في الطريق، فأدرك أنه خلو من الثلوج. .
فراح يمد طرفه إلى ذلك الشعاع. . ثم يقلبه بين أثاث الغرفة ومتاعها. . . ونوافذها وبابها. ولم يلبث أن راودت نفسه رغبة ملحة في الضحك.!!. فأخذ صدره يهتز وخصره يرتج من الضحك العذب البهيج الذي راح يحتاج جسده من هامة رأسه حتى أخمص قدمه. . وهو لا يدري لذلك سبباً سوى الشعور البالغ من السعادة والارتياح، والإحساس السابغ من البهجة والمراح. .
وتملك كليموف شوق فائق إلى الناس والحركة والحديث، غير أنه لم يقو على تحريك أي عضو من جسده لما يعتريه من وهن وضعف! كان منشرح الصدر طلق المحيا لتنفسه الهادئ طيب النفس طرب الفؤاد لضحكه وبشره!. ووجود ذلك الإبريق البلوري ذي الماء العذب الفرات. . وشعاع الشمس المرتعش، وأستار النافذة المزركشة المزينة بشتى الألوان. .
ولاح له فيما بين جدران غرفته كون فاتن رائع. . أبدع الخالق صنعه! وحينما ولف الطبيب إلى غرفته ملك الصبيحة تمثل في ذهنه ما هو عليه من علم وبراعة في التشخيص، ودمائه ورقة في المعاملة وحسن وظرف في المعاشرة. . ما أجمل الناس جميعاً!. ما ألطفهم!!
قال الطبيب (رائع!. رائع. . لقد تماثلت يا) صغيري (للشفاء. . وكدت أن تبرأ وتعاودك عافيتك!. .).
فأصغى الضابط الشاب إلى فيهقته في النطق. . وهو يضحك جزلا. . ثم هاجته ذكرى ذلك (الفنلندي). . والسيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . والقطار. . فانقلب ضحكه إلى قهقهة. .
ثم لم يلبث أن طلب بعض الطعام والسجائر. . وقال في إلحاف (أيها الطبيب!. دعهم يحضرون لي خبزاً وسرديناً وملحاً. .) فأبى الطبيب عليه ذلك!. وصدع (بافل) بأمره. . ولم يسع في طلب الخبز لسيده. . فطفق (كليموف) يصرخ ويصيح كالطفل حينما لا يجاب إلى بغيته. . فقال له الطبيب وهو يضحك مداعباً: (اسكت. . أيها الوليد الصغير. .) فلم يسع كليموف سوى أن يشاركه ضحكه! ولما غادره الطبيب أغرق في وسن هادئ عميق. . . أفاق منه بعد حين ومازال هذا الإحساس المفعم بالمرح، الفياض بالسعادة. يتملكه ويتسلط عليه نفسه. . وقد جلست خالته بجانب فراشه. . . فابتدرها قائلا في بهجة وبشر: (أه. . يا خالتي!. ما الذي كنت أعانيه؟!. .)
- (تيفوس!. . .)
- (أحسبه كذلك! بيد أني الآن في تمام الصحة أين كاتي؟)
- (ليس بالدار!. . . لعلها ذهبت لزيارة إحدى لداتها بعد فراغها من الامتحان!.)
ومالت المرأة العجوزة - وهي تقول ذلك - نحو جوربها كأنها تبغي إصلاحه بيد أن شفتيها أخذتا ترتعدان!. فأشاحت بوجهها بعيداً. . . وبغتة راحت تجهش بالبكاء وتنشج بالنحيب.
لقد نسيت في غمرة حزنها وحسرتها ما أمرها به الطبيب ففتأت تصيح: (آه. . . كاتي! كاتي!. . . لقد ذهب عنا ملاكنا. . . لقد رحلت!.) وأطرقت برأسها إلى الأرض، وهي تتأوه من البث والأسى. . . فحملق كليموف في شعرها الرمادي. . لا يحير فهما لما تقول، فسألها وقد تولاه الانزعاج. . . لكاتي. . . (ولكن أين ذهبت يا خالتي؟؟!!.).
فأجابته العجوز بين دموعها التي راحت تنهمر على وجنتيها، وتكاد أن تخنق صوتها: (لقد أصيبت منك بالتيفوس!. . وماتت! وواريناها التراب في اليوم السابق على البارحة!).
على الرغم من فجاءة وهول ذلك النبأ المفزع المروع. . . فما استطاع (كليموف) أن يقمع تلك الغريزة الحيوانية، التي جنحت بالضابط الناقه إلى الضحك والمرح! فراح يصيح ويقهقه ويشتكي الجوع. . . حتى إذا انقضت سبعة أيام. . . اعتمد كليموف على ساعد (بافل) وخطى وئيداً حتى دنى من النافذة. . . حيث قام ثمت يسرح الطرف في مساري الربيع الطلق الضاحك وهو ينفث في الأرض الحياة والخضرة! وقد علت شمس الضحى في السماء تكالمها الغيوم والسحب. وطرق سمعه صليل العربات فخيل إليه أنه فظيع حاد!
حينئذ صدع قلبه الأسى وأمضه الكمد. . . وأحس بوقع الفجيعة عليه أليما عنيفاً. . . فطفق ينتحب في وله ومرارة ويغمغم شارد اللب كاسف البال. . . وقد دفن رأسه بين راحتيه. . . (كم أنا شقي!. . . يا ربي. . . كم أنا شقي!. . .).
وودع بهجته ومرحه. . . وانثنى يضطرب فيما كان يكتنفه من سآمته للحياة وضجره بالعيش. وقد ضاعفتهما فداحة تلك الخسارة التي لا تعوض!. . .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي