الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 743/الكُتُبَ

مجلة الرسالة/العدد 743/الكُتُبَ

بتاريخ: 29 - 09 - 1947


عرض ونقد:

أخي إبراهيم

(تأليف الآنسة فدوى طوقان)

بقلم الأستاذ إبراهيم محمد نجا

هذا كتيب لطيف الحجم، جم الفائدة، كتبته الشاعرة النابهة الآنسة فدوى طوقان، عن أخيها شاعر فلسطين، وفقيد الشعر العربي الأستاذ إبراهيم طوقان. والذين قرؤوا رثاء الآنسة فدوى لأخيها إبراهيم، قد لمسوا من غير شك في هذا الرثاء مبلغ ما تكنه الآنسة لأخيها الشاعر من الإعجاب والتقدير، وعرفوا مقدار ما بينهما من ألفة الروح، وقرابة العاطفة، فوق ما بينهما من ألفة الأخوة، وقرابة الدم.

والذين يقرؤون هذا الكتيب يلمسون فيه كذلك كل هذه المعاني والمشاعر في صورة قوية واضحة؛ فقد شاءت الآنسة أن تصدر كتابها بهذه الأبيات الحزينة المتفجعة التي تصور الحزن والإعجاب معاً تصويراً قوياً مؤثراً:

أي لحون رعن سمع الزمن ... بعثتها من نبضات الفؤاد؟!

أودعتها الروح تناجي الوطن ... فيها، فتهتز الربا والوهاد!

ثم تراميت صريع الوهن ... مخضب الروح، سليب الضماد!

وامتنع الشدو كأن لم يكن=وجذوة القلب استحالت رماد!

ثم أخذت تعرض صوراً من حياة أخيها في مراحلها المختلفة بأسلوب يستدر الدمع، ويستثير الشجون! وهي في أثناء ذلك تأتي بنماذج من شعره، لا تعرض لها بالنقد والملاحظة، وإنما تذكر دواعيها ومثيراتها، ثم تدع للقارئ أن يحكم عليها. أما هي فمعجبة بشعر أخيها كل الإعجاب، مؤثرة لشخصه كل الإيثار.

واشهد أني بعد أن قرأت هذا الكتاب - وفيه نماذج كثيرة من شعر إبراهيم - قد أصبحت أكن لهذا الشاعر من الإعجاب والتقدير مثل ما أكنه لكل شاعر موهوب. وما أندر أصحاب المواهب في هذا الزمان! وأصبحت كذلك أجد لفقده من الأسف والحسرة مثل ما أجد لفقد الشابي والهمشري والتيجاني والمعلوف وبليبل وأمثالهم من الشعراء الذين فقدناهم، وهم في ريعان الشباب، ومعقد الأمل، ومناط الرجاء. وإن كان بعض هؤلاء لم أعرف عنه، ولم أقرأ له إلا بعد موته بسنوات.

ورأيي الصريح في إبراهيم أنه يمتاز في شعره بدقة الوصف، والإحاطة بالتفاصيل، دون أن يضطره ذلك إلى الإسفاف والتبذل في الألفاظ أو المعاني. وقد أعانته على ذلك قوة روحه الشاعرة، ووفرة ثروته الأدبية. كما يمتاز برقة الألفاظ في مواضع الرقة، وجزالتها في مواضع الجزالة، وجمال التخيل، وطرافة المعاني في كثير من القصائد.

وقد مهدت له براعته في الوصف سبيل البراعة في الشعر القصصي كما يظهر ذلك جلياً في قصيدته الرمزية القصصية الرائعة (مصرع بلبل). وفي يقيني أن إبراهيم لو مد في عمره لآتى بالمعجب المطرب في هذا الفن من فنون الشعر الحديث.

ولكنه في شعره الغزلي في حاجة إلى شيء من قوة الانفعال، وفورة العاطفة، فقد سيطرت على هذا الشعر رقة الشعور، ووداعة العاطفة، وهدوء النفس. ويبدو ذلك واضحاً في قصيدتيه (ملائكة الرحمة) و (في المكتبة). ولولا ما في هذا الشعر من براعة الوصف، وطرافة المعاني، وجمال الأسلوب، لما استحق إبراهيم أن يعد من شعراء الغزل في هذا العصر.

أما شعره في الوطنيات والموضوعيات - على حد تعبير الآنسة فدوى - فهو شعر قوي الألفاظ والمعاني على السواء، وإن كان بعض هذا الشعر تفوته جزالة الألفاظ، وفخامة الأسلوب، مثل قصيدته (الشاعر والمعلم) التي يقول في مطلعها:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي ... (قم للمعلم وفه التبجيلا)!

وقصيدته التي يقول في أولها:

أنتم المخلصون للوطنيهْ ... أنتم الحاملون عبء القضيهْ

وقصيدته التي يقول فيها:

إن قلبي لبلادي ... لا لحزب أو زعيم

ولست أدري لماذا تذكري هذه القصيدة بمقطوعة البارودي التي يقول فيها:

أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله

وهناك فن من فنون الشعر لا أجد إبراهيم يفرده بالحديث، ويختصه بالقول، وإنما يلم به في قصائده إلماماً، ويعرض له عرضاً، ذلك هو تحليل النفس البشرية وسبر أغوارها، وتصوير حالتها المختلفة، وتجاربها المنوعة، مع أن هذا الفن من فنون الشعر أدل على عمق إحساس الشاعر، وكثرة تجاربه، وسعة أفقه، من غيره من فنون الشعر المختلفة. والشعراء بعد ذلك درجات في شعر الحالات النفسية، فمنهم من يقف عندما يخص نفساً دون نفس، أو طائفة من النفوس دون طائفة ومنهم من يوفق إلى ما يمس النفوس البشرية كلها في أحوالها المختلفة.

ولعل إبراهيم قد صرفه الحديث عن آلام وطنه عن تعمق النفس البشرية. وآلام الوطن لا تحتاج لإحساسها إلى التعمق والإستقصاء؛ لأنها تغلي في النفوس، وتجيش في الصدور، ولكنها في حاجة إلى من يحس تصويرها، والتعبير عنها، والتأثير بها. ومهما يكن من شيء، فإن إبراهيم طوقان موهبة من المواهب الفنية، يعظم فيها الرزء، ويجل عنها العزاء، ويعز فيها العوض.

وإذا كان لي بعد ذلك أن أدل الآنسة الفاضلة على شيء، فإنما أدلها على أنها قد عرضت حياة أخيها عرضاً موجزاً يوشك ألا يسمى ترجمة حياة. فإن كان ذلك ضرورة من ضرورات النشر، فهل لها أن تتناول هذه الحياة بمقالات تفصل فيها ما أجملت، وتوضح ما أبهمت، وتذكر ما لم تذكر؟!

وشيء آخر أحب أن أدل الآنسة عليه، هو أنها قد تركت بعض جوانب من حياة أخيها دون أن تعرضها، فعلت ذلك عن عمد وإصرار، كما يبدو من إهمالها الحديث عن (سيئات!) هذا الغرام الذي قام بين أخيها وبين فتاته أو فتاة الجامعة الأمريكية ببيروت، مع أنها لم تهمل الحديث عن حسنات هذا الغرام. . . حسناته الأدبية طبعاً!! ومع أنها ذكرت أن لهذا الغرام سيئات، ثم قالت: (أما السيئات، فليس هذا بموضع تدوينها)! لماذا؟ ألأن هذه (السيئات) سيئة إلى الحد الذي يجعل القلم الأنثوي يتصبب (مداداً!) حين يخوض في حديثها؟

على أن الذي أفهمه أن على الآنسة أن تكون مؤرخة في كتابتها قبل أن تكون شيئاً آخر، وأن التاريخ الأدبي يقتضيها إذا ذكرت ناحية من النواحي الظاهرة أو الخفية في حياة من تكتب عنه، أن تقول فيها ما يغني وما يفيد. ومن يدري، فقد تكون النواحي الخفية في حياة الشاعر أدل على معرفة نفسه، وأبعث على فهم شعره من غيرها من النواحي الظاهرة.

وبعد، فالرأي أن الآنسة الفاضلة قد دلت بكتابها على أنها تملك موهبتي الشعر والنثر معاً؛ فقد أجادت في حديثها عن أخيها حديثاً ممتعاً حزيناً مؤثراً! وأجادت كذلك فيما اختارت له من النماذج الشعرية التي نثرت بعضها في أثناء الكتاب، وجعلت بعضها الآخر في آخره. فهل لها أن تعني بطبع ديوان أخيها إبراهيم طبعاً يليق به، ويروج له؟ إنها حين تفعل ذلك تقدم خدمة كبيرة، لا أقول لأخيها فحسب، وإنما أقول للشعر العربي أيضاً. رحم الله شاعر فلسطين إبراهيم طوقان، ومد في حياة فدوى طوقان شاعرة فلسطين.

إبراهيم محمد نجا