مجلة الرسالة/العدد 743/إعلان حرب!
→ (سياسة) أرسطو | مجلة الرسالة - العدد 743 إعلان حرب! [[مؤلف:|]] |
ورثة فلسطين: ← |
بتاريخ: 29 - 09 - 1947 |
للأستاذ علي الطنطاوي
كانت برهة ما بين الحربين، امتحاناً لنا، معشر العرب، واختباراً لعزائمنا، وقد خرجنا من هذه المحنة ناجحين مظفرين وأثبتنا أننا لم نضع إرث الجدود، ولم نفقد عزة الإسلام، وانه لا يزال في عروقنا دم الأجداد، ولا تزال في قلوبنا عزائمهم وأرينا الدنيا كلها أن استماتة المحق تغلب قوة المبطل، حين حاربنا ونحن شعوب عزل جيوش الدول التي انتصرت في الحرب الأولى وسكرت بخمرة الظفر، وحسبت أنها شاركت الله في ملكه، وزاحمته على سلطانه، فقابلتها شراذم منا، ما لها سلاح إلا سلاح الحق وما تنتزعه أيدي عدوها، وثبتت لها وأرهقتها عسراً من أمرها، حتى لانت لها، أو نزلت على مطالبها: حاربنا الإنكليز في شوارع مصر، وفي سهول العراق، وفي ربوع فلسطين، وحاربنا الفرنسيين في جنان دمشق، ورحاب حماة، وشعاف الجبل وحاربنا فرنسا وأسبانيا معاً في سوح الريف الأقصى، وحاربنا الطليان في طرابلس، وثرنا على الغاصب في كل بقعة من أرض العرب، وما خليناه ليلة من إزعاج، ولا أرحناه ساعة واحدة، ولكن كنا نحارب شعوباً لا حكومات، أما حكوماتنا فكانت علينا مع عدوها وعدونا، حتى استقر في إفهام الشعب أن حكومته خصم له، وحتى صرنا في الشام إذا أثرنا ثورة أو سّيرنا مظاهرة، أعملنا سلاحنا في إخواننا من رجال الشرطة، كما نعمله في خصومنا من الفرنسيين ومن كان يناصرهم علينا وقت الثورة من المغاربة والشراكسة والأرمن والسنغاليين، وحتى كدنا نفقد على طول المدى، توقير الأنظمة، وتقديس القوانين، لأنها من عمل الأجنبي وعلم عبيده، لا يضعونها إلا لمصالحهم، وضمان منافعهم إلى أن كان حادث مايو سنة 1945 وجُنّ الفرنسيون الجنة الكبرى فأبوا إلا أن يظهروا ديمقراطيتهم. . . وعدالتهم. . . ومبادئ ثورتهم. . . دفعة واحدة، فضربوا المدينة الآمنة بقنابل الطيارات، وقذائف المدافع، من القلاع المنصوبات على الجبال ورموا بالنار، الأطفال في المدارس، والمرضى في المشافي، والمحبوسين في السجون، وأحرقوا البيوت وهدوها على أهلها، وقتلوا رجال مصلحة الإطفاء الذين جاءوا ليطفئوها، وفعلوا كل ما يليق بحضارتهم وتاريخهم وأمجادهم. . ولا ينتظر غيره منهم.
هنالك رأينا، أول مرة، رجال الشرطة والدرك يقاتلون معنا ويدافعون عنا، ورأينا الرؤساء والوزراء في صفنا، يحملون ما حملنا، وينالهم ما نلنا، فذكرنا، وقد طالما نسينا، أنهم إخواننا، وأنهم منا.
ولبثنا من ذلك اليوم، نرى الأدلة متتابعة متتالية، على أننا قد استقللنا، ونزح العدو عنا، وجلا عن أرضنا، وصار حكامنا منا، لا أقول إن الحكومات قد صلحت حتى ما نجد لها فساداً ولا نلقي منها ضرراً، كلا، ولا خلص رجالها من أوضار هذا الماضي، ولا أزالوا آثاره، ولا يمكن أن تزول في أربع سنين وقد لبث الغاصبون وأعوانهم، يثبتونها ويبنونها، دائبين على بنائها عاملين على تثبيتها، خمساً وعشرين سنة، ولكن أقول، أننا (أخذنا) ننزع من نفوسنا تلك الصورة السوداء للحكومة ونغسل عنها صبغة العداوة التي كنا نراها مصبوغة بها، ونعيد إلى إفهامنا توقير الأنظمة والقوانين، لأنها (بدأت) تصير من صنع أيدينا، و (شرع) واضعوها يفكرون في وضعها لمنفعتنا، وضمان مصلحتنا، لا لمنفعة الوزراء الحاكمين، ولا لمصلحة الغرباء الغاصبين
ثم تتالت الآيات والدلائل، وكانت جامعة دول العرب، وكانت المقاطعة القانونية للصهيونيين، وكان اجتماع ملوك العرب ورؤسائهم، وكان رحلة النقراشي إلى أمريكا، وقوله فيها ما أجمعت الكلمة على أنه لا يقول أكثر منه خطيب متحمس، ولا مؤرخ حكيم، ووجد فيه كل مصري ترجماناً عن أفكاره، ومعبراً عن مقاصده، وكان موقف فارس الخوري من قضية مصر، موقفاً سر كل عربي في الدنيا، وكان فتنة سورية الكبرى، وكان رأي الحاكمين في الشام والمحكومين جميعاً، ورأي الدول العربية كلها (إلا مملكة الأردن) واحداً فيها، ثم كان هذا الحادث العظيم الذي عقدت له هذا المقال، والذي سيعقد عليه في تاريخ العرب، فصل مترع بالفضائل والأمجاد، والذي سيكون مولد (الشرق الجديد) كما كانت هذه الحرب الماضية مصرع (العرب العتيق). . . والأيام دول والدهر ميزان، فما ترجح كفة إلا لتطيش، وما يرتفع طائر إلا ليهبط ولقد أشرقت من الشرق شمس الحضارة، من مصر وبابل والشام، ثم مالت إلى الغرب، إلى يونان وروما، ثم عادت تطلع من الشرق مرة ثانية، من المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة، ثم مالت إلى باريس وبرلين ولندن، وهذا يوم ثالث، قد أوشكت أن تشرق شمسه على هذا الشرق، فينفض عنه غبار المنام، ويهب. . . لقد انقضى الليل، وأذن المؤذن من ذرى لبنان. . . من اللجنة السياسية للدول العربية، التي قرر فيها رجال مسؤولون، لا أدباء متحمسون، وأعلنوا بلسان حكوماتهم، إنهم سيحلون عقدة فلسطين ومصر، كما حل الإسكندر عقدته المشهورة: بالسيف!
هذا هو الحادث العظيم، وقد قرأ القراء تفصيله في الصحف فما أعيده عليهم. . . وهذا أول الجد، وهذا الذي كنا نتمنى بعضه فلا نصل إليه، ونطلبه فلا نجده، وهذا الدليل على أننا استقللنا، وعلى أن حكوماتنا منا وإلينا، وأنها تنطق بألسنتنا، وأن هواها هوانا، وأنه لم يبق في رجالها من يصانع عدواً، أو يخافه، أو يتزلف إليه. وأن جيوشنا لنا، تسالم من سالمنا، وتعادي من عادينا، وتذود عن بلادنا، وكل بلد عربي بلد العرب كلهم، وكل عدو له عدو لهم، وكل قضية له قضية لهم.
إننا نغفر لحكوماتنا، بهذا الموقف، كل ما لقينا منها في السنين الخوالي، ونعده إسلاماً منها بعد كفر، والإسلام يحب ما قبله، فليحسن إسلامها، ولا يكن كلمة تقال باللسان: إنها قد أعلنت الحرب في الخارج، فلتعلنها في الداخل، لتمنع المدد عن عدوها، فما في الدنيا عاقل يحارب عدواً ويدفع إليه ما له ليقويه به على نفسه، وولده ليربيه على كرهه، ولتبحث عن الثغور التي تذهب منها أموالنا إليهم، فتسدها. بالمقاطعة الاقتصادية، لا بإلقاء المواعظ للترغيب فيها، والخطب للحث عليها، لا، فهذا كلام فارغ، ولكن بالقوانين الصارمة، والعقوبات الشديدة، كما حرمت معاملة الصهيونيين بقانون، وحدت لها الحدود الرادعة، والعقوبات المانعة.
وبذلك ترتقي صناعتنا، وتجود أخلاقنا، لأننا سنضع ما نستطيع صنعه مما نفقده بالمقاطعة، ونصبر عن باقيه، وقد صبرنا مدة الحرب عن كثير من الضروري، وتصبر إنكلترا اليوم عن الخبر المشبع في سبيل وطنها، ولا تقول شيئاً، فهلا في مثل هذا قلدناها؟
على أن في بلادنا (أعني في بلاد العرب) كل ضروري، ولا نفقد بهذه المقاطعة إلا قليلا من وسائل الترف، مما يضر ولا ينفع.
ولتضع الحكومات العربية القوانين الصريحة بإغلاق كل مدرسة أجنبية، إنكليزية أو فرنسية أو أمريكية، وإلا ذهب عملنا هباء، وكان عبثا، وأخرجت هذه المدارس من أبنائنا أعداء لنا، وأعواناً لعدونا، كما وقع في الشام، حين تولى ضرب دمشق رجل عربي أبوه شيخ، اسمه علاء الدين الإمام، عليه لعنة الله.
فإذا صنعت ذلك كان علينا، أن نعلن الهدنة بيننا وبينها، ونكف عن هذه الأيام عن معارضتها، لنتعاون جميعاً على حرب عدونا وعدوها، وكان على كل شاب في بلاد العرب كلها، وكل شيخ، وكل امرأة، أن يعلم أنه جندي في هذه الجبهة وأنه يجب عليه أن يعمل فيها شيئاً: يمشي إلى القتال، إذا جدّ الجدّ، وجاءت ساعة القتال، وكان قوياً قادراً، أو يبذل الفضل الزائد من ماله إذا كان من أصحاب المال، أو يحارب بقلمه وبلسانه، إذا كان من أصحاب الألسنة والأقلام، وعلى كل واحد منا، وعلى كل واحدة، أن يحرم على نفسه كل شيء أجنبي، فلا يأكله إن كان مأكولا، ولا يشربه إن كان مشروباً، ولا يمسّه إن كان طيباً، ولا يلبسه إن كان ثوباً، ولا يقرؤه إن كان كلاماً، ما لم يكن علماً خالصاً، أو أدباً إنسانياً صرفاً، ولا يتداوى به إن كان عَقّاراً، ما لم يكن مضطراً إليه ولا يجد ما يسد مسدّه، ولا يرسل ابنه إلى مدرسة أجنبية، ولا يدعه يذهب في السياسة والاقتصاد مذهباً أجنبياً، وأن نمحو أسماءهم من شوارعنا ومياديننا، ونطمس ذكرهم من مدارسنا وبرامجنا، إلا ببيان حقائقهم، وهتك الستُر الخادعة عنهم، وأن نداوي نفوسنا من هذا السل القاتل الذي هو احتقار نفوسنا، وتعظيم الغربيين، وأخذ كل ما يأتي منهم أخذ الضعيف، وأن نوقن أننا أقوياء حقاً، أقوياء بماضينا وأمجادنا، وبما تركنا في الدنيا من أثر خيّر نبيل، وأقوياء بعَددنا وبعزائمنا، وبأن الحق معنا، وأن البلاد بلادنا، وأن فلسطين لنا، لن يغلبنا عليها، (شحاد) صهيوني، ولا محتال انكليزي، ولا لص أميركي، لا والله ولا الجن ولا العفاريت، إننا والله سنمضي إليها على كل سيارة وكل قطار وكل دابة، ونمشي على أقدامنا إن عز الظهر، ونملأ إليها كل طريق، ونسلك إليها كل سبيل، حتى نترعها رجالا، إن أعوزهم السلاح، فما يعوزهم النبل ولا الإقدام، رجالا لا يحبون الحياة الذليلة، ولا يهابون الموت الشريف، ولا يتزحزحون ولا يريمون، مادام في صدورهم قلوب تخفق، وفي صدورهم نَفَس يطلع وينزل.
فيا أيها الحاكمون، يا من صرخوا من قمم لبنان هذه الصرخة المدوية، اثبتوا وأعلنوا الحرب، إذا لم تعطوا الحق إلا بالحرب: حرب الكلام وحرب المال وحرب الدم والسنان، وسيّروا جيوشكم، فنحن وراءكم، ونحن أمامكم، ونحن معكم، ما نحن للجزيرة، ولا نحن لهذا الماضي، ولا نحن لمحمد، إن وقفنا أو ارتددنا، حتى نطهر فلسطين من كل رجس صهيوني ونطهر من أنجاس الاستعمار كل بلاد العرب، ونعيد الحضارة والعزة إلى الشرق، على رغم أنف الظالمين!
(القاهرة)
علي الطنطاوي