مجلة الرسالة/العدد 741/رحلة إلى الهند
→ الأستاذ فارس الخوري أو عبقرية البيان | مجلة الرسالة - العدد 741 رحلة إلى الهند [[مؤلف:|]] |
حجة تاريخية ← |
بتاريخ: 15 - 09 - 1947 |
7 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
وأما القلعة، فمساحة واسعة جداً وأسوار عالية مشرفة من بعض جهاتها على نهر جمنة وتشتمل على مساكن ودواوين ومقصورات وقنوات. لا يحيط بها الوصف إلا في كتاب كبير مصوّر يكتبه خبير بالعمارة فحسبي أن أعرض على القارئ ما يدركه الزائر غير الخبير في زيارة قصيرة عاجلة
يلج الداخل الباب الكبير إلى دهليز فيه حوانيت للتجار ثم يدخل إلى ساحة يرى فيها ثكنات بناها الإنجليز وهي باعترافهم دمامة بين هذا الجمال، وعرّة وسط هذه الغرر.
ثم يجتاز إلى أبنية كثيرة لا أستطيع أن أذكرها على الترتيب. فأذكر الديوان العام، وهو مجلس السلطان لعامة الرعية للنظر في المظالم أو غيرها من الأمور العامة. وهو دكة من الرخام عليها سقيفة تحملها عمد من الحجر الأحمر قد أبدع الصناع في أشكالها ونقوشها وسعته مائة قدم في ستين. وكان فيه عرش الطاووس (تخت طاووس) وهو عرش يظلله ذنبا طاووسين ألوانهما من الجواهر المختلفة وفيه من دقائق الصنعة والأحجار الكريمة ما يشهد للصناعة والفن في ذلك العصر. وقد قوّمه من رآه من الخبراء بستة ملايين جنيه وقد حمل هذا العرش فيما نهب من ذخائر دهلي ونفائسها نادرشاه القائد العظيم الذي ملك على إيران بعد زوال الدولة الصفوية واستيلاء الأفغان عليها، فأخرج منها الأفغان ومد فتحه صوب المشرق إلى الهند.
وفي القلعة ديوان أصغر من هذا وأجمل منحوت كله من المرمر يسمى الديوان الخاص وفيه من النقش والتطعيم بالأحجار الكريمة ما يفتن الناظر، بجمال الشكل، ودقة الصنع. وقد بلغ فن العصر المغولي ذروته في هذا الديوان. ولا أنسى هذا البيت الفارسي الذي يزين هذا الجمال بجودة خطه وتذهيبه، ويعرب عن هذا الجلال بمعناه. وهو منقوش في أكثر من موضع من الديوان:
أجر فردوس برروى زمين است همين است وهمين است وهمين است
(إن يكن الفردوس على الأرض فهكذا وهكذا وهكذا).
وهناك بناء فيه حجر جميلة يسمى رنك محل (المحل الملون) وهو مزين بالنقوش محلى بالأشكال. ولكن ذهب الزمان بأكثر طلاه ويمتد منه إلى بناء آخر مجرى للماء رخاميّ يمثل قاعه ترقرق الماء عليه.
وأبنية أخرى منها البرج المثمن وكان يجلس السلطان في شرفته كل صباح فيشرف على الجمهور وكانت هذه عادة سلاطين المغول
ومنها الحمام (غسل خانه) وهو حجرات ثلاث في إحداها حوض صغير يخرج منه بخار معطر وفي الأخريين أحواض للاغتسال من المرمر بينها مجار أنيقة للماء الحار والبارد وفي إحداهما قطعة من المرمر كبيرة كانت مصلى للسلطان بعد الفراغ من الاستحمام.
ورأينا حجرات هناك لجلوس السلطان ونومه وفي إحداهما وسائد وملابس كأن شاهجهان لا يزال بها. وليس بها إلا الأثر والذكر ويد الزمان الأعسر.
وهناك مسجد صغير يسمى موتى مسجد (مسجد اللؤلؤة) بناه أورنك زيب شاهجهان وهو كاسمه لؤلؤة كبيرة ولكنها من المرمر الأبيض. ويخيل لرائيه أنه قطعة واحدة كبيرة من المرمر فصلتها يد النحات الصنع قباباً وعمداً ومحراباً ومنبراً.
ويقال أن السلطان بناه حين شغلته شئونه عن الذهاب إلى المسجد الجامع لكل صلاة.
وفي ساحات القلعة أحواض فسيحة تقوم وسطها مقصورات للجلوس وقنوات من الحجر جميلة يجري فيها الماء رقراقاً. ومنها نهر بهشت (نهر الجنة) وهو مجرى على ضفافيه الأزهار والأشجار وفي قاعه صور من الأزهار جميلة تكاد تهتز وتنمو حين يجري الماء عليها. وهذا النهر يبتدئ عند منظرة جميلة مزينة مشرفة عليه وعلى هذا الجمال المفصل في أرجاء القلعة.
ولا أنسى رباعية فارسية رأيتها في إحدى الحجر وأعجبني موضعها بين هذا الجلال والجمال. فأردت إثباتها فلم أجد قلمي.
ولم يكن لي بدّ من نقلها فقلت لرفيقي الأستاذ اشتياق حسين عميد كلية الآداب بجامعة دلهي وقد تفضل باصطحابي في زيارة القلعة:
سأكلف نفسي، وأمتحن ذاكرتي بحفظ هذه الرباعية. . .
فوعيتها حتى رجعت إلى الفندق فكتبتها وهي: أي باي ببندوقفل بردل هشدار ... دوخته جشم وباي دركل هشدار
عزم سفر مغرب وروى درمشرق ... أي رآه رويشت بمنزل هشدار
وترجمتها: يا من في رجليه قيد وعلى قلبه قفل انتبه، يا من أغمض عينه وقد وحلت رجله انتبه، تريد السفر إلى المغرب ووجهك إلى المشرق أيها السائر وظهره إلى الغاية انتبه.
هذه بقايا مما وعيت من هذه الآثار الجليلة الجميلة في زيارتي القصيرة، وقد بقيت في النفس كما تبقى أبيات وأشطار وقواف من قصيدة بليغة حفظت ثم نسيت، أو كما تبقى الصور مبعثرة بعد حلم جميل طويل، أو كما تضطرب في النفس ذكريات السعادة بعد انقضائها.
ومن شاء أن يعرف تفصيل هذه الأبنية وصورها ففي كتب الآثار وصفها وتاريخها وصورها. ومن شاء أن يستمتع بها رأي العين فليس عجيباً أن يذهب إلى الهند ليراها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام