الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 741/أدب العروبة في الميزان

مجلة الرسالة/العدد 741/أدب العروبة في الميزان

مجلة الرسالة - العدد 741
أدب العروبة في الميزان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 09 - 1947


للأستاذ علي متولي صلاح

(تتمة)

الشعراء الثلاثة الذين سنتكلم عنهم اليوم هم - دون شك - من شعراء الطليعة والصف الأول في جامعة أدباء العروبة، وهم الجوهر والنواة فيها، كانوا معها أول ما نشأت، واستمروا على عهدهم لها إلى يومنا هذا يصدحون في كل مهرجان، ويتبارون في كل ميدان. . .

هؤلاء هم الأساتذة: أحمد عبد المجيد الغزالي، والعوضي الوكيل، وطاهر محمد أبو فاشا.

وثلاثتهم نشأوا نشأة واحدة، ونهلوا وعلوا من معين واحد وتفيئوا ظل دوحة واحدة، فكان الصراع بينهم دائماً وكانت المنافسة بينهم أبداً.

والناظر المتأمل فيهم، الفاحص عن طبيعة قلب كل منهم وحركات نفسه وصور وجدانه يجد بينهم - إلى ذلك - اختلافاً كبيراً.

فأولهم (الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي) شاعر نشهد بأنه شاعر مجيد فيه طلاوة ولعبارته إشراق. والخصلة التي تبدو فيه واضحة وضوحاً قوياً حتى تكاد تلازمه في كل ما يكتب هي أنه لا ينسى نفسه أبداً! لا تنسيه إياها المناسبة أيا كانت، ولا ينسيه إياها مقتضى الحال كيفما كان، فهو يفتأ يتحدث عنها ويتكلم فيها حتى تحسبه يوشك أن يقول للناس: هأنذا. . .

وليس مما يؤخذ على الشاعر أن يصور للناس نفسه، وأن يطلع الناس على عواطفه إذا كان يصور نفسه مندمجة في الشيء الذي يتناوله بالكلام، ويطلع الناس على عواطفه متأثرة بالموضوع الذي يتحدث عنه فيكون بين نفسه وبين موضوع الحديث كمال الاتصال إن جاز أن نستعمل هذا التعبير هنا!

أما أن يترك الشاعر الموضوع الأصلي إلى الحديث عن نفسه وعن عاطفته في أمر لا علاقة للموضوع بهما فذلك ما نأخذه على الشاعر.

والأستاذ يقف في مهرجان الفيوم فلا يتحدث عنها بشيء ولا يسوق من تاريخها الحافل أو ماضيها المجيد شيئاً، إنما يقف فيسرد على الناس قصة غرامه الشخصي في غزل يخاطب فيه حبيبة بعينها اعتقادي أنها المقصودة بكل ما قال، ويترك الناس حيارى يقول أو فيم يقول، ويناديها وهي في ديارها إلى جانب النيل ويصيح لها قائلا: -

أنا أشدو لها جراحي شعراً ... فعساها تضمد الأشعارا

وعساها في جانب النيل تصغي ... لنشيد يشعّ نوراً ونارا

ثم يشكوها في صراحة إلى عذارى الفيوم فيقول:

يا عذارى الرياض من كل شاد ... أنا أشكو إلى العذارى العذارى

وهو في مهرجان المنصورة يخلص عجلا مسرعاً من الحديث عنها ولا يكاد يبدأ الحديث عن سيرتها حتى يعبرها غير وان ليتكلم عن قلبه وعن وجده بما لا علاقة له بالموضوع القائم فيقول:

يا لقلبي لما اطمأن به الركـ ... ب وألقى هنا عصا الترحال

شاركتني ضلالة الحب قلبي ... فتبارى ضلاله وضلالي

وانتبذنا هنا مكاناً قصياً ... وشكوت الهوى له وشكا لي

وأدع ما قاله في مهرجان الزقازيق فقد يكون حديثه عن نفسه هناك متلائماً مع طبيعة الموضوع لأن الزقازيق مهد أحلامه كما يقول ومعهد صباه الأول.

والأستاذ الغزالي يخاطب الطيور في قصيدة (الربيع) بقوله:

يا طيور الروض غنينا النشيدا ... وانثري فوق الربى زهر الربيع

وأنا لا أعلم كيف تنثر الطيور الأزهار فوق الروابي؟

ويخاطب الأزهار - في نفس القصيدة - بقوله: -

إيه يا زهر الربيع الباكر ... يا متاع القلب يا أنس الأماني

وكلمة (يا أنس الأماني) هذه عامية ولا معنى لها ومتى كان للأماني أنس؟

ويصف سهده وهو يتكلم في مهرجان القمر فيقول:

أقضي الليالي أنات مرددة ... والشاهدان عليّ النجم والسهر

والنجم وحده هو الشاهد. أما السهر فهو العلة والداء ولكنه الاضطرار!

ويفاضل الأستاذ بين بلدة (غزالة) وبين (بغداد) مفاضلة فيها تعسف شديد وإسراف بعيد ليته مدها بغير ذلك.

ومفاضلته كذلك بين (الدسوقي) وبين (الرشيد) مفاضلة على غير وجهها، فهذا وزير له صولة القلم وصلصلة البيان، وذاك خليفة له أبهة الخلافة وجلال السلطان! فإن كانت الجامعة بينهما عند الأستاذ هي الأدب فالدسوقي أدب من الرشيد وأوفر منه مشاركة فيه. ولم يعز إلى الرشيد إلا أبيات قليلة لا تبلغ عدد أصابع اليد على أنها لم تثبت له بل نحلها بعض الرواة شاعراً آخر من شعراء الأندلس.

والأستاذ الغزالي نفسه هو الذي ذكر الرشيد عند ذكر الفاروق في قصيدة عيد الجلوس فقال عن لواء الفاروق بعد كلام آخر: -

فيردّ الليالي الغر للشر ... ق ويحيى أيامه والرشيدا

وقال قبل ذلك عن هذا اللواء: -

يا لواء الفاروق عشت ملياً ... نحن نفدى لواءه المعقودا

والمليّ الزمان الطويل والله يقول: (واهجرني ملياً) وكان الأولى أن يقول (يا لواء الفاروق عشت دواماً). ويقول عن خمرة الربيع:

فاسقنيها في ربيع الزمن ... خمرة من ريها العذب أوامي

والأوام حر العطش وكيف يتأتى هذا من الري العذب؟

ويقول عن قلبه وهو يخاطب القمر:

قلبي الذي بات يصلي منك جمرته ... وقد حبته بلذع دونه سقر

والحباء العطاء وأحسبه لا يكون إلا في الخير لا في اللذع الذي هو شر من سقر!

وللأستاذ شعر كثير حسن وأبيات فيها جمال وصفاء، وليست الهنات التي قدمنا بما نعتنا أن نقول فيه ما قلناه أولا من أنه شاعر مجيد فيه طلاوة ولعبارته إشراق.

وثانيهم الأستاذ العوضي الوكيل وهو شاعر هادئ وديع حالم وإن كان قصير النفس غير مكثر في القول، والخصلة التي تغلب على جميع ما ينظم هي الأنين والبكاء بلا انقطاع! فهو يقف في مهرجان (الفيوم) فيقول بعد بيت واحد من القصيدة:

على شفتي من خمرة الحب نشوة ... تلهب ترنيمي بها وغنائيا

وإن كانت النشوة التي هي السكر في اللغة لا تكون على الشفة وهو يناجي القمر في قصيدته عنه فينحرف مسرعاً ليندب صباه ويبكيه فيقول:

له حسرات ملأن الضمير ... ووجد تلهب حتى استعر ويصف شعره في مهرجان الزقازيق في صراحة ووضوح فيقول عنه: -

ليس شعري من الكلام ولكن ... هو من لهفتي ومن إطراقي

ويبتدئ قصيدته بمهرجان المنصورة ببكاء ليس وراءه بكاء وإن كان المقام لا يقتضي بكاء بل إشادة وتغنياً بالمجد والنصر وأمجاد التاريخ، فيقول في مطلعها: -

هو الوجد ما تخفى بنفسك أو تبدي ... هو الوجد فاذكر ما لقيت من الوجد

ونهنه ترانيما بقلبك أوشكت ... تفيض كمنهل الدموع على الخد.

وهذه ظاهرة تستوجب التسجيل في شعر الأستاذ العوضي الوكيل فإن كان يود أن تكون بشعره هذه المسحة دائماً وإن كان يأبى إلا أن يكون شعره على هذا اللون غير مستمد ذلك من طبيعته الخاصة - وهو ما أكاد أقول به وألمحه بين ثنايا كلامه - فإني أشير عليه بأن يعالج الخلوص من ذلك والتحلل منه.

وللأستاذ في الكتاب ست قصائد الكثير منها جيد حسن الديباجة أضعه مع شعر الأستاذ الغزالي في ميزان، إلا أن قصيدته في (الربيع) ضعيفة مفككة مختلطة المعاني مهلهلة النسج كان الأولى به ألا ينشرها في الكتاب فيه دون شعره الآخر بمسافة بعيدة، يقول في مطلعها: -

أي صديقي الربيع. . . عدت وعدنا ... فامض في الكون كيف شئت وأنى

وأنا أفهم أن الربيع يعود كل عام مرة ولكن من أين يعود الشاعر ومتى يعود؟

ويقول فيها يخاطب الربيع معدداً محاسنه: -

قد عمرت الحياة ركناً فركنا ... وغمرت القصيد وزناً فوزنا

والوزن ليس هو الشعر وليس هو الكلام الذي يقول الأستاذ إن الربيع يغمره إنما هو الميزان الذي يوزن به الشعر ويقاس به. وفي قصيدة القمر يخاطبه فيقول له:

جلست معي أيهذا القمر ... وأحليت من عيشتي ما استمر

يقصد ما مذاقه مر، وذلك الفعل (استمر) لا يؤدي هذا المعنى وإنما يؤديه الفعلان مرّ وأمرّ، تقول مرَّ الشيء وأمرَّ الشيء صار ذا مذاق مر، هذا إلى أن كلمة (عيشتي) خشنة جافة لا تجوز في شعر.

وفي قصيدة الفيوم يقول عنها: - تخيلتها معنى فلما رأيتها ... حسبت كأبي جئتها اليوم ثانيا

والبيت في ذاته حسن المعنى إلا أن كلمة (معنىً) بعد (تخيلتها) حشو اضطر إليه الشاعر فالخيال لا يكون إلا معنى أبداً، ويقول عن الفيوم أيضاً: -

هدانا إليها في السباسب طيبها ... على أن برح الشوق قد كان هاديا

وألمح هنا شبح بيت شوقي: -

ألمّ على أبيات ليلى بي الهوى ... وما غير أشواقي دليل ولا ركب

أو شبح البيت القديم:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر

ويخاطب معالي الأستاذ الرئيس في نهاية قصيدة المنصورة قائلاً:

جعلت لأيام العروبة رونقاً ... يجمله الفاروق ذو العزم والأيدي

والأيدي بالياء صوابها الأيد بحذفها والأيد القوة ولعله تطبيع وجملة ما يقال في الأستاذ العوضي الوكيل - رغم ما قدمنا - أن به إحساساً وأن له قلباً، ولو استطاع التغلب على نزعته الحادة وجنوحه الشديد إلى البكاء والأنين لخطا خطوة فسيحة نحو مكان كرام الشعراء.

وثالثهم الأستاذ طاهر محمد أبو فاشا وهو شاعر اكتملت له أدوات الشاعر جميعاً، فبيانه جزل ضخم ممتاز، وخياله قوي رائع، والموسيقى تضطرب في شعره اضطراباً، أسمع إليه وهو ينفح عن الفن ويجعل منه عصب الحياة وروحها فيقول: -

ربما استغنت الحياة عن العـ ... لم على رغم ما جنى العلماء

وعلى الفن وحده عاش أجدا ... دك دهراً وهم به سعداء

إن من أطلقوا العقول علينا ... لست تدري أأحسنوا أم أساءوا

والذي ظنها تراباً وماء ... هو في نفسه تراب وماء!

ويقول في نفس القصيدة عن (الشاعر) هذا البيت الرائع:

ذو بيان لو عاقرته الندامى ... لتناهت عن شربها الندماء

وأسمع إليه وقد وقف في الزقازيق يقص أخبار أيامه الأولى بها:

من ترى أيقظ الخواطر حولي ... وأثار المطوي من صفحاتي؟ وأعاد الأيام والمعهد السا ... مق مروج بالنجوم الهداة

الفحول الأعلام أمثلة الزهـ ... د وشيخانه العدول الثقاة

ورفيق كأنه هامش الشر ... ح إذا صات يمضغ القافات

حنبلي كأنه الجمل الأو ... رق صخابة كثير اللتات

السراج العليل يشهق في محرا ... به والبلى يروح وياتي

ونضيج مغلغل لاذع الطعـ ... مة يشوي أصابعي ولهاتي

يتصبى المجاورين فتنصـ ... ب عليه كالفاتحين الغزاة

اترك المتن واطو حاشية السـ ... عد وأدرك شيخون قبل الفوات

أنا من مازن ومازن مني ... والليالي القمراء من صدحاتي

وللأستاذ طاهر في الكتاب ثلاث قصائد فقط خيرها قصيدته في الزقازيق تلك التي قدمنا بعضاً منها وقد بلغ فيها الذروة، وتليها قصيدة الفيوم وقد كان فيها الشاعر المنافح عن الشعر المبين عن فضله وأصالته في الحياة. وهو يقول فيها عن قافلة الشعراء وهي تسير:

لو تحسنّ البيداء من سار فيها ... لتغنت من شجوها البيداء

والشجو فيما تقول به اللغة الهم والحزن فكيف تتغنى البيداء من هذين، أو كيف يركبها الهم والحزن وقافلة الشعراء تسير بها؟ وثالثتها قصيدته في (هلال المحرم) وهي دون الأوليين ولم ترقني كثيراً.

والأستاذ طاهر أبو فاشا شاعرٌ يبشر بآمال كبار، ولو سألني سائل من تراه أشعر شعراء جامعة أدباء العروبة لقلت غير متردد إنه طاهر أبو فاشا، ولو لم يكن لجامعة أدباء العروبة إلا فضل إبراز مواهب هذا الشاعر وإظهاره لكفاها ذلك فضلا. .

فليعط الأستاذ طاهر باله إلى الشعر أكثر من هذا، وليخلع رداء الكسل والراحة، ولينفق للشعر جهداً أضخم مما ينفق اليوم، وليعتزل وليخل إلى نفسه يتأمل ويتصور ويقول، وأنا الزعيم له أن يتبوأ الصدر في شعراء هذا الزمان.

وبعد: فتلك كلمات جلونا فيها بعض الكتاب والشعراء من جامعة أدباء العروبة أملاها علينا الحق الذي لا يداخله هوى، والعدل الذي لا يخالطه غرض، وكشفنا فيها عن مجهود هذه الجماعة في عام وإنه لمجهود يسير ضئيل ترجو أن يتضاعف ويزيد.

وإن جاز لنا أن نقترح على معالي الأستاذ الرئيس أمراً فهو أن ينظر في تعديل تشكيل هذه الجماعة حتى يتمكن كبار الكتاب والشعراء من الانخراط في سلكها، وأن يعدل منهاجها حتى يكون أوفى بالغرض الذي أنشئت الجماعة من أجله وهو في كلمتين خدمة الأدب، وخدمة الأدباء.

ونحن إذ تنتظر منه ذلك نزجي إليه - مرة أخرى - الثناء مضاعفاً والمدح مكرراً، ثناء الأدب لمناصره، ومدح الفن لمؤازره. والسلام.

رأس البر

علي متولي صلاح