مجلة الرسالة/العدد 740/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 740 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 08 - 09 - 1947 |
قبلة الملكة
للقصصي الفرنسي ج هـ روسني
بقلم الأديب كمال الحريري
هذه هي عشر سنوات، وأنا راسخ الجذر في هذا المكان البائس (ل) مقيم في هذا المنفى لا أريمه.
ومع ذاك، فكل الناس كانوا يحسبون حساباً لمواهبي وخصالي، وكلهم كان يقدر أني سأبلغ أرقى المناصب، وأنال أرفع الوظائف التي لا تطاولها إلا رتبة الملك حتى أشد أعدائي، وشر خصومي كانوا لا يغمطون مؤهلاتي. ولكن هذا كله وا لهفتاى، لم ينجني من الحكم على بالتعفن في هذا الجحر الضيق الذي يسمونه (ل) ولذلك قصة عجيبة عالمية، تتلخص في أن امرأة كانت سبب نكبتي، وهذه المرأة هي الملكة.
لقد كنت في التاسعة عشرة من عمري، في فتوة ساخرة. وكان من عادتي، أن أغازل عرائس أحلامي، ما بعد الظهر من كل يوم، في حديقة الملك الوسيعة الملتفة الأدغال، تحت الجبال الشامخة. مشيت في ذلك اليوم طويلا، تحت ظلال الزيزفون التي كانت تنمو في أرض تغذيها سواق عذبة صافية، وتحوطها مروج من الأعشاب السندسية الخضلة الندية، تعزلها عن أشجار الغابة وأدواحها. وانتهى بي السير، إلى بساط من الأرض مفروش بأشجار من الحور، كانت ذوائبها تتراقص وتنثني الواحدة نحو الأخرى. وهناك بين تلك النهيرات، كان نهير، يفترش ماؤه فيتحرك إلى بحيرة صغيرة، تحفها شجيرات من قصب الخيزران المزهرة.
كانت أشباح الغموض والسكون، تخيم على تلك البقعة الموحشة، إلا ما كان من خرير ماء النهر وهو يجري في الأعماق، أو التماع قصور من غيوم السماء كانت ترتسم على مخرفة من أشجار الأرز.
وفي هذا المكان جلست غارقاً في لجة من الأحلام والأخيلة بدأت مشاعري تطغى على وتنتشر في ذهني، فرحت أمتع النفس والحواس، بصفاء هذه النزهة. وأنا متخل بروعة الأصيل، غارق في سحره الجميل. ولكن قلقاً مباغتاً، انبثق في نفسي فجأة سمعت على أثره لصدري خفقاناً طغى على هدير النهر خفقة مجذاف كأنها تبرر لي هذا الاضطراب والارتعاد فلم ألبث أن تواريت فزعاً مضطرباً خلال دغلة من الدغلات. وانقطعت خفقة المجذاف على الماء. فعاد السكون والغموض، يجثمان على المكان وروعة أشعة الأصيل، تسترسل من خلل الغصون فتلمحت على ضوء شعاع متسلسل بين فجوات الأوراق، بطة لماعة تمخر الماء ثم تلتها أخرى ذات طوق نحاسي وتغريد حلو. ثم أخذت تتعالى مجدداً، خفقات المجذاف وبعدها ارتسم أمامي على عطفه الشاطئ مقدم زورق للصيد، نهضت فوقه، فتاة رائعة الجمال، تتوهج على يديها أشعة من دماء صيدها للطيور. كان في عينيها نفاذ وحدة وعلى فمها فتة سماوية وكانت يداها البضتان، تحركان المجذاف في مشقة وإعياء بينما رغاء الزبد يتفجر كقطع الثلج أو تثار اللؤلؤ. خلف الزورق السحري. أما أنا فقد اهتز كياني من الحنان والأسف، وانثالت على لساني الدعوات.
وبالغت في التستر والتواري. وقد كتمت أنفاسي وكاد الاضطراب يبلغ بي درجة الإغماء. ذلك إنها إنما كانت هي. . . هي الملكة التي كنت أهيم بها في الخفاء، والتي ما زالت منذ بعد هذه الظهيرة أحلم بها الأحلام السعيدة البهيجة أثناء نزهتي.
وكان في نهاية الزورق، صبي منتصب، هو الأمير الجميل د هـ ت أبن أخت الملكة.
كان ممسكا بسكان الزورق، بينما خالته الملكة سابحة في أجواء أحلامها وقد مال عنقها الذي يشبه عنق الإوزة إلى الجانب، وامتدت ذراعاها الناعمتان الحريريتان إلى الأمام. كانت تجذف على ضوء الأصيل الأصفر إيه يا إلهة الملاحة، يا لك من حلم عجيب وسمعت فجأااااأة صرخة داوية، ثم أبصرت بالزورق يتقلب على الماء والأمير الصغير يسقط في النهر في حين تعلقت فيه الملكة الملتاعة الجزعة بغصن غليظ من أغصان الحور.
ووثبت إلى الماء بقفزة، وقبضت على الغلام الذي كاد ينجرف مع التيار، فوضعته على الشاطئ الأمين، ثم جدفت بالزورق نحو الملكة. لقد لمست ذراعاي جسمها الذي خلق فقط لكي يضمه أبناء الملوك. أما هي فقد كانت شاحبة الوجه مرتجفة الأوصال. لم تنطق أولا بحرف، وإنما لبثت ترمقني بعينيها الساحرتين المفزعتين غير إنها حين أحست بنفسها منتصبة على قديمها فوق الشاطئ، قذفت بنفسها هلعة فزعة على الأمير الصغير المسكين، الذي كاد يغمى عليه من روعة الحادث. ثم عانقته بحنان حافل فزع، وقالت لي: إنه مدين لك بحياته فاطلب مني ما شئت تلقني أول الملبيات. فصحت: أتعطيني كل شئ؟ ثم عراني اضطراب وحشي ثائر، وماد بأعطافي جنون مضطرب جياش. أما هي فقد شدهت لصرختي وجعلت لحاظها تتلاقى مع لحاظي. ثم أسلبت أجفانها حياء وتضرج وجهها بحمرة الخجل
لقد كنت كما أسلفت، في ريعان الصبى، ولي محيا فنان الملامح، وكانت الملكة تعرفني جيداً، لأنها طالما أبصرت نظراتي تتعلق بمفاتنها. وعلى هذا فقد فهمتني. ولحظت أنا في نظراتها الثابتة في، شيئاً من ارتجاف جعلني أكثر جنوناً بها، وأشد نشوة وتلذذاً بفتنتها النبيلة ودمها الملوكي. ثم أخذني ميل لذيذ مشتعل لانتهاك حرمة هذا الجمال الملوكي، فظلت مرتجفاً هلوعاً. ثم استأنفت قولي: أتقولين إنك تمنحيني كل شئ، دون أن ترجعي عن كلمتك؟. . . فأشارت برأسها بالإيجاب ثم أصطبع محياها بدم الخفر. واستقلتها حمياً من النشوة. وقلت لها، أرغب منك قبلة. فأجابتني بلهجة العاتب. أي جنون هذا؟. لعمري أن صغر سنك وحده. هو الذي يبرر هذه الإباحة الفاجرة. ولكنها في الحق، كانت تشاطرني اضطرابي وتقاسمني شعوري: إذ راحت تتمعن في جسمي الذي التصق عليه ملابسي المبللة، وتنظر إلى نظرات مبهمة غريبة. وعندئذ، بلغت بي الجرأة حداً كنت بعده موطناً العزم على عدم النكوص ولو أمام خشبة المشنقة. . وهتفت بها مجدداً: اذكري أنك قطعت على نفسك عهداً. . وقبل أن تتمكن من الدفاع عن نفسها، تقدمت إليها في جرأة، وأمسكت برأسها الملائكي بني كفي ثم أهويت بفمي الحران اللهفان إلى فمها وحينئذ. . وبعد قبلتي المديدة العميقة شعرت بشفتيها الشهيتين الحلوتين، تجيبان قبلتي فجأة، وتنحنيان على شفتي بلثمات عنيفة حارة ضاغطة. لم يدوم ذلك إلا كلمحة البرق، ولكن هذه الحظة على قصرها، كانت من النفاذ والتأثير في مشاعري وحواسي، بحيث أن فمي لن ينسى أبداً لذاذة هذه القبلة. وحين دفعتني الملكة أخيراً عن نفسها، كان أحد نبلاء الحاشية يتقدم نحونا تحت ظلال الحور. . .
نمى الخبر إلى الملك، فعرف كل شئ، وتحتم على الملكة أن تفسر له جلية الخير. ومع إنها على التحقيق، قد أسقطت من فضيحتها (اشتراكها الآثم لحظة مبادلتي القبلة) إلا أن ذلك، لم يقلل من عزم الملك على نفي وتشريدي.
لم أكن أملك ثروة، وكانت رسائل مرتزقي متعلقة كلها بأسباب الملك، الذي قضى بنفيي، فأبحر بي إلى هذا المكان (ل) الذي شغلت فيه أول وظيفة (سكرتير) ثم وظيفة قنصل.
إن الملك رجل حقود، لا يعفو عن زلة فلست آمل أن نغفر لي جريمتي مطلقاً. وعلى هذا، فقد قضى على أن أدفن في هذا المكان أن لم ينقذني موت حاكمي وسيدي الملك.
إنه ليعروني الندم في بعض الأحيان، فآخذ نفسي باللوم الشديد على ما ورطني فيه جنوني. ولكن تأتيني هنيهات، أشعر فيها بشفتي الملكة كأنها حاضرة تنطبع على فمي وحينئذ لا آسف على شئ في الوجود.
لقد حدث لي مايلي خاصة في أمسية عيد الصعود وذلك إني في ذاك اليوم، تلقيت من العاصمة التي فيها الملكة، هدية غصناً رطباً مزهراً من أغصان الخيزران (ذلك النبات الذي كان يحف بالبحيرة التي أنقذت من مائها الملكة) فعرفت أن هناك شخصاً حبيباً لم ينسى بعد. . . واختلجت لهذه الذكرى شفتاي اختلاجة الوله والمرارة. . .
(حلب)
كمال الحريري